شهد مجال الإعلام الرقمي والصحافة تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة، مدفوعة بالتقدم في التكنولوجيا، والتغيرات في أنماط استهلاك الوسائط وتطور الاحتياجات المجتمعية، حيث كان لظهور الإنترنت والتقنيات الرقمية تأثير عميق على المشهد الإعلامي؛ وبرزت مخاوف بشأن مستقبل الصحافة في مواجهة التكنولوجيا الرقمية، إلا أن الأبحاث اللاحقة أظهرت أن الإعلام الرقمي لم يؤد إلى نهاية الصحافة، بل فتح إمكانيات وتحديات جديدة، إذ أسفر تكامل التقنيات الرقمية عن إعادة تشكيل طريقة إنتاج الأخبار وتوزيعها واستهلاكها، مما أدى إلى تعايش الممارسات التقليدية والجديدة في الوسائط الرقمية.
لكن ذلك الوضع يفرض على الصحفيين تحديث مهاراتهم باستمرار لمواكبة التقنيات المتطورة وتوقعات الجمهور. وفي هذا الإطار، نشرت مجلة رقمنة للدراسات الإعلامية والاتصالية في عددها الصادر في يونيو 2023، دراسة بعنوان “الاتجاهات الجديدة للإعلام الرقمي.. الذكاء الاصطناعي كمحرك للابتكار الإعلامي” من إعداد حسام الدين مرزوقي الباحث في جامعة 8 ماي 1945 بالجزائر وعواطف عزايزية الباحثة في جامعة محمد خيضر بسكرة بالجزائر، والتي نستعرضها على النحو التالي:
- الاتجاهات الجديدة للإعلام الرقمي
رصدت الدراسة تأثير كبير للذكاء الاصطناعي على النموذج التقليدي للصحافة، فهو يقدم إمكانيات وتحديات جديدة لغرف الأخبار، حيث تؤثر تقنية الذكاء الاصطناعي على جمع الأخبار والإنتاج والتوزيع. وفيما يلي بعض الطرق التي يؤثر بها الذكاء الاصطناعي على الصحافة:
- جمع الأخبار: يُوفر الذكاء الاصطناعي لغرف الأخبار القدرة على الحصول على المعلومات والأفكار الإخبارية من خلال عمليات التجميع المبتكرة، ويمكن لخوارزميات التعلم الآلي تحديد القيم المتطرفة داخل البيانات، واكتشاف الاتجاهات في المحتوى الذي ينشئه المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي واستخراج المعلومات من المستندات.
- الإنتاج: يمكن للمراسلين الآن استكشاف فرص إنتاج المحتوى تلقائيًا باستخدام الذكاء الاصطناعي، بجانب استخدام الخوارزميات للتبديل بين تنسيقات الوسائط، مثل تحويل البيانات إلى نص أو تحويل النص إلى فيديو. بالإضافة إلى ذلك يسمح الذكاء الاصطناعي بإعادة استخدام المحتوى المخصص لمختلف الجماهير.
- التوزيع: يمهد الذكاء الاصطناعي الطريق للصحفيين للقاء مستهلكي الأخبار على المنصات الناشئة من خلال فهم سلوكياتهم، ويساعد هذا الفهم في تحسين استراتيجيات النشر وتحقيق الدخل في الوقت الفعلي.
وبشكل عام، تعزز تقنية الذكاء الاصطناعي النموذج التقليدي للصحافة من خلال توفير أدوات عمل جديدة، حيث يسمح بجمع الأخبار وإنتاج المحتوى والتوزيع المستهدف بكفاءة أكبر.
- تغييرات في النموذج التقليدي للصحافة
وفي الوقت ذاته، يحدث الذكاء الاصطناعي أيضا تغييرات في النموذج التقليدي للصحافة من الجوانب التالية:
- التخصيص: يمكن الذكاء الاصطناعي المؤسسات الإخبارية من تقديم محتوى مخصص للمستخدمين الفرديين بناء على تفضيلاتهم واهتماماتهم وسلوكياتهم، فمن خلال تحليل بيانات المستخدم، تُوصي خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالمقالات أو مقاطع الفيديو أو تنسيقات الوسائط الأخرى ذات الصلة، مما يعزز تجربة المستخدم والمشاركة.
- الأتمتة: تعمل تقنية الذكاء الاصطناعي على أتمتة مهام معينة في الصحافة، مما يوفر وقت الصحفيين لمزيد من التقارير والتحليل المتعمق؛ على سبيل المثال، يمكن لروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي التعامل مع الاستفسارات الروتينية من القراء، بينما تساعد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية في التحقق من المعلومات وتحليل البيانات.
- رؤى الجمهور: يمكن أن توفر أدوات الذكاء الاصطناعي رؤى قيمة حول سلوك الجمهور وتفضيلاته. ومن خلال تحليل البيانات المتعلقة بتفاعلات المستخدمين، يمكن أن تساعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي الصحفيين على فهم المحتوى الذي يتردد صداه مع جمهورهم، مما يؤدي إلى قرارات تحريرية أكثر استنارة واستراتيجيات محتوى محسنة.
- التحقق والتدقيق: يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في عملية التحقق والتدقيق، ومساعدة الصحفيين على تحديد المعلومات الخاطئة أو الأخبار المزيفة. علمًا بأن خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية تستطيع تحليل كميات كبيرة من النصوص واكتشاف الأنماط التي تشير إلى معلومات كاذبة أو مضللة.
- ممارسات جديدة لتشجيع الابتكار
يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تتبنى ممارسات جديدة لتشجيع عملية الابتكار، وتتمثل هذه الممارسات فيما يلي:
- تشجيع ثقافة الابتكار: يجب على المؤسسات الإعلامية تعزيز ثقافة تقدر وتشجع الابتكار. ويمكن ذلك من خلال تحفيز الإبداع بين المحترفين، واعتماد مقاربة “التجربة والخطأ” في تطوير المشاريع، وتوفير فرص للموظفين للمساهمة بأفكارهم الابتكارية.
- الاستثمار في الابتكار: يجب على المؤسسات الإعلامية تخصيص ميزانية وموارد كافية لتنفيذ الابتكار في أقسام الأخبار، حيث إن زيادة الميزانية للابتكار يمكن أن يساعد في دعم وتطوير وتنفيذ أفكار ومشاريع جديدة.
- تحديد وتعزيز المواهب الابتكارية: يجب على المؤسسات الإعلامية تحديد وتعزيز أدوار الأفراد ذوي الأفكار والمهارات الابتكارية. ويمكن ذلك من خلال برامج التعرف على المواهب وفرص التدريب وخلق بيئة ابتكارية مناسبة.
- كسر الحواجز وتعزيز التعاون: يجب على الإدارة تسهيل التعاون والتواصل بين الأقسام المختلفة داخل قطاع الأخبار، إذ إن كسر الحواجز وتشجيع التفاعل يمكن أن يساعد في توليد أفكار وآراء جديدة.
- قبول التغيير والتحول: يجب أن تكون الإدارة على استعداد للتغيير لتحويل الهياكل وممارسات الأخبار التي قد تكون قديمة، فمقاومة التغيير يمكن أن تعيق الابتكار، لذا من المهم أن يفهم المديرون فوائد الابتكار وتعزيز ثقافة التحسين المستمر.
- الأولوية للابتكار الموجه نحو الجمهور: يجب أن تركز المؤسسات الإعلامية على فهم وتلبية احتياجات وتفضيلات الجمهور المتغيرة. كما يجب أن يكون الابتكار مدفوعا بأهداف تحسين تجربة المستخدم، وتحسين توزيع المحتوى وزيادة مشاركة الجمهور.
- الاتجاهات الكبرى المستقبلية للإعلام الرقمي
لخصت الدراسة الاتجاهات الكبرى المستقبلية للإعلام الرقمي في ظل صعود الذكاء الاصطناعي في المحاور التالية:
- الابتكارات الإعلامية ستمس نماذج العمل بشكل رئيسي إضافة إلى المنتجات الرقمية، غير أن الابتكارات الاستراتيجية ستبقى مرتبطة بعمالقة التكنولوجيا كما كانت عليه الحال دائمًا.
- وضعية الإعلام لن تتغير لأن شركات التقنية ستحافظ على التفوق الكبير بفضل سيطرتها على أدوات الإنتاج والتوزيع وتحليل المحتوى.
- انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي سيمكن المؤسسات الإعلامية من العمل على مشاريع إعلامية أفضل في مجالات التحقق من الأخبار والصحافة الاستقصائية وصناعة المحتوى المبتكر.
- التوجه نحو الصحافة الجيدة هربًا من طوفان محتويات الذكاء الاصطناعي التي سينتجها الأفراد.
- التوجه نحو حل المشكلات الاقتصادية للإعلام من خلال التحليلات المعززة بالذكاء الاصطناعي التي ستسمح بفهم أفضل لتفضيلات المستخدمين.
- المزيد من الابتكارات المدفوعة بأدوات الذكاء الاصطناعي التي ستعقد أكثر من وضعية الإعلام الحالية.
- ثورة في الإعلام الرقمي شبيهة بالثورة التي أحدثها دخول الكمبيوتر مجال العمل الإعلامي، الأمر الذي يجعلنا أمام نموذج فكري جديد تماما يتطلب طرقا جديدة في العمل والتفكير والإدارة.
- تغير دور الإعلام وهو ما يحدث بالفعل منذ سنوات، فقد أصبح دور الإعلام هو التحقق من الأخبار بالدرجة الأولى، وذلك ما تعمل عليه المؤسسات الإعلامية بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وختامًا، خلصت الدراسة إلى أنه بينما يجلب الذكاء الاصطناعي كثيراً من الفوائد للصحافة، فإنه يثير أيضًا اعتبارات وتحديات أخلاقية، تتمثل في الاستخدام المسؤول والأخلاقي للذكاء الاصطناعي في الصحافة والتغلب على التحيز وتحقيق الشفافية والمساءلة، وهو ما سيجعل الصحفيين يلعبون دور حماة الحقائق خلال الفترة المقبلة أكثر من دور المنقبين عنها.