تعدّ الرقابة على الأعمال الفنية من أكبر الإشكاليات التي تواجه العمل الإبداعي والفني في كافة دول العالم، ورغم أن الدول المتقدمة تنادي بمنع الرقابة على هذه الأعمال، إلا أن هذه الأعمال لا تتجاوز الرقابة المجتمعية، على كلّ ما يُبثّ من الأعمال الفنية والدرامية المذاعة على وسائل الإعلام القديمة منها أو الحديثة.
مجلس الآباء التلفزيوني الأمريكي نجح في منع كثير من المشاهد العنيفة والضارة بالأطفال والمراهقين
ويعد مجلس الآباء التلفزيوني في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يقوم بهذا النوع من الرقابة، أبرز مثال على ذلك، وله سوابق تاريخية عديدة نجح خلالها في منع كثير من المشاهد العنيفة والضارة بالأطفال والمراهقين. فبعد عامين من التجاذب، رضخت شبكة “نتفليكس” أخيراً للضغوط المجتمعية، وعدّلت مشهد انتحار الشابة “هانا بيكر” بطلة المسلسل الأمريكي “ثلاثة عشر سبباً Reasons why13″، بعد نصائح عديدة من خبراء الطب النفسي، وانتقادات من مؤسسات مجتمعية على رأسها مجلس الآباء التليفزيوني الأمريكي، حيث أن المشهد يروّج لعملية انتحار المراهقين، باعتبار أنه الطريق المختصر للتخلّص من ضغوطات الحياة.
وأوضحت “نتفليكس” عبر حسابها على “تويتر” أن تعديل المشهد، جاء قبيل إصدار الجزء الثالث من المسلسل في صيف 2019، بعد نصائح من مختصين، وستقوم الشركة بمراقبة وحذف أية مقاطع مقرصنة تَعرض المشهد الأصلي غير المعدّل، مفسّرة أن مؤلف العمل “براين يوركي” عندما وضع هذا المشهد، كان على اعتقاد أنه بهذا يوضّح فظاعة الانتحار، ولن يريد أحد تَكرار ما حصل.
وحظيت خطوة “نتفليكس” بدعم من المؤسسات والمختصين الذين مارسوا دور الرقابة المجتمعية على هذا العمل التلفزيوني، وفي مقدمتهم مجلس الآباء التلفزيوني، الجمعية الأمريكية لعلم الانتحار، المؤسسة الأمريكية لمنع الانتحار، والمجموعات المناصرة للصحة العقلية.
ويحكي المسلسل القائم على رواية بنفس العنوان، قصة فتاة تدعى هانا، تتعرّض للتنمّر والتجاهل من زملائها في المدرسة، ثم تقوم بتسجيل شريط صوتي تذكر فيه 13 سبباً لإقدامها على الانتحار، وتَسَبّب ذلك المشهد في أن تنتقل التجربة للواقع، وانتحر عدد من المراهقين على طريقة “هانا” في المسلسل.
وظهرت في يوليو 2017 دراسة لـ”مجلة جاما للطب الباطني JAMA Internal Medicin”، شرحت أن هذا العمل أدى إلى إجراء عمليات بحث متعلقة بالانتحار عبر الإنترنت، ونقلت عن أحد الباحثين من جامعة سان دييغو، أن المسلسل من الممكن أن يؤدي إلى ظهور مراهقين مضطربين، وأن على المنتجين إضافة المزيد من التعديلات لإبعاد الشباب عن ظاهرة الانتحار.
مجلس الآباء التلفزيوني (The Parents Television Council (PTC
من أبرز مهام المجلس حماية الأطفال والأسر من المشاهد الجنسية والعنيفة والألفاظ النابية
یعتبر مجلس الآباء التلفزيوني، أحد أهم المؤسسات المجتمعية المناط بها الرقابة على المحتوى الإعلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بداية عمله عام 1995، وتتركز مهامه في حماية الأطفال والأسر من المشاهد الجنسية والعنيفة والألفاظ النابية، بسبب آثارها الضارة المؤكَّدة على المدى الطويل، في سبيل توفير بيئة ترفيهية آمنة وسليمة للأطفال والأسر في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
ويضم المجلس هيئة استشارية تتكون من مختصين في مجالات مختلفة، ومن بين الأعضاء البارزين في هذه الهيئة المغني بات بون، ولاعب كرة القدم الأمريكية السابق ميل رينفرو، والممثل الكوميدي والممثل تيم كونواي، والناقد السينمائي مايكل ميدفيد، وغيرهم.
وتقوم آلية عمل مجلس الآباء التلفزيوني على تزويد أولياء الأمور بالأدوات التي يحتاجونها، لاتخاذ قرارات مدروسة وتحديد المحتوى الذي ستتم مشاهدته، من خلال مراقبة البرامج التلفزيونية ومراجعة الأفلام المعروضة، ثم تسجيل كل المحتوى الذي يمكن أن يعتبره الآباء مشكوكاً فيه، ومنحهم تصنيفات وإشارات، وفقاً لمقدار المشاهد العنيفة والجنسية والألفاظ النابية المدمجة في المسلسل التلفزيوني أو الفيلم، أو أياً كان نوع المحتوى المعروض.
يصدر المجلس قائمة بأفضل وأسوأ البرامج التلفزيونية، كما أن دليل المركز يضع نشرة شاملة لكل عروض الأسبوع
ويتضمن السجل الذي يصدره المجلس ملخصاً قصيراً للمحتوى مع أمثلة تفصيلية عن المشاهد غير اللائقة، للسماح للآباء بمعرفة ما يمكنهم توقّعه عند مشاهدة العرض أو الفيلم مع أطفالهم، وهنا يأتي دور الآباء الذين يجب عليهم تقييم المحتوى بعناية، وتحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب للعائلة.
ويصدر المجلس قائمة بأفضل وأسوأ البرامج التلفزيونية، كما أن دليل المركز يضع نشرةً شاملة لكل عروض الأسبوع، ويقوم بتفصيلها بشكل يومي، ويتم إدراج جميع تلك المراجعات على الموقع الإلكتروني الخاص بالمركز، ليبقى الآباء على اطلاع دائم بالمحتوى المقدّم على التلفاز.
وينظم المجلس حملاتِ توعوية تشجع على اتخاذ المزيد من الإجراءات من قبل المشرّعين والكيانات المعنية لإرشاد الآباء، كما يعقد اتصالات مع الجهات المسئولة عن المحتويات الإعلامية خاصة منتجي الإعلانات، الشبكات التلفزيونية، لجنة الاتصالات الفيدرالية، الكونغرس.
أمثلة على دور المجلس:
أطلق المجلس حملة ضد الاتحاد العالمي للمصارعة وقال إن 4 أطفال قُتلوا على يد أقرانهم، أثناء قيامهم بمحاكاة حركات المصارعة
في عام 1999 أطلق مجلس الآباء التلفزيوني حملة ضد الاتحاد العالمي للمصارعة WWE، نتيجة تضمّن المحتويات التي يبثّها على مستويات من العنف والمشاهد الجنسية غير المبررة، وأصدر المجلس بياناً قال فيه، إن 4 أطفال قُتلوا على يد أقرانهم، أثناء قيامهم بمحاكاة حركات المصارعة، بالإضافة إلى انتشار العنف بين آلاف الأطفال الآخرين الذين تأثروا بتلك المشاهد، مطالباً المموّلين بسحب إعلاناتهم من البرنامج.
في عام 2003 شن المجلس حملة ضد المطرب “بونو” أحد أعضاء فرقة الروك الإيرلندية U2، بعد أن استخدم كلمة غير لائقة في إحدى أغانيه، أثناء توزيع جوائز غولدن غلوب في ذلك العام، ورفع المجلس شكوى للجنة الاتصالات الفيدرالية، وقررت اللجنة في مارس 2004 أن الكلمة كانت غير لائقة بموجب القانون، ورغم أنها لم تفرض غرامة على “بونو” ولا على الشركة المنتجة كما فعلت في حالات مشابهة، إلا أن الحُكم كان بمثابة تحذير للشبكات التلفزيونية، من أنه لن يكون هناك تسامح مطلقاً مع اللغة البذيئة المستخدمة عن قصد.
في عام 2005، تقدّم المجلس بشكوى ضد مسلسل “أولادنا وبناتنا”، الذي صوّر في بعض مشاهده مشاركة مراهقين في العربدة، ما أدى إلى تغريم شبكة “سي بي إس” المنتجة مبلغاً قدره 3.6 مليون دولار.
وامتد دور مجلس الآباء للمحتويات الإعلانية، فقام في عام 2005، بالمشاركة مع مجموعات أخرى مسئولة عن الرقابة الإعلامية، بانتقاد إعلان قامت به باريس هيلتون لحساب مجموعة مطاعم “كارلز جي آر”، بعد وجود إيحاءات جنسية غير لائقة، وأدى ذلك الانتقادُ لحشد الحملة أكثرَ من مليون صوت رافض للإعلان.
في عام 2006، طلب المجلس من لجنة الاتصالات الفيدرالية، رفضَ تجديد ترخيص البث لمحطة KUTV، لتقديمها محتويات غير لائقة.
وفي سبتمبر 2007، أطلق المجلس حملة لإقناع شركات الطيران في الولايات المتحدة، بتقليص نوعية الأفلام التي تُعرض أثناء الطيران، وتقع تحت بند إرشاد عائلي لمن هم دون 13 سنة، أو التي تحتوي على مشاهد عنف و مشاهد جنسية واضحة، وبناءً على ذلك قدم هيث شولر، النائب الديمقراطي السابق عن ولاية كارولينا الشمالية في ذلك العام، مشروع قانون “الرحلات العائلية الصديقة”، وطالب شركات الطيران بتخصيص مناطق مشاهدة “آمنة للأطفال” للجلوس مع عائلاتهم في الطائرات.
في يناير 2010، أطلق المجلس حملة ضد حلقة من مسلسل “أمريكان داد”، وفرضت لجنة الاتصالات الفيدرالية غرامة على الشركة المنتجة بمبلغ 25000 دولار.
عملية الرقابة المجتمعية على المحتوى الإعلامي
أثبت تعديل شبكة “نتفلكيس” لمشهد انتحار هانا، أن عملية الرقابة التي يقوم بها المجتمع على المحتويات الإعلامية، تلعب دوراً محورياً في تقويم ما يتمّ بثه على الشاشة، وتهذيبه ليتناسب مع الذوق العام، والحد مما يمكن أن تتسبب فيه المحتويات التلفزيونية من انتشار العنف وسوء الأخلاق.
توجد العديد من الحملات والمؤسسات المناط بها مراقبة المحتوى التلفزيوني، مثل حملة معارضة المواد الإباحية، وحملات “فكر في الأطفال”
لا يعتبر مجلس الآباء الأولَ الذي يقوم بهذا النوع من الرقابة على المحتوى الإعلامي الأمريكي، بل جاء نتيجة لمركز أبحاث وسائل الإعلام “MRC) “The Media Research Center)، الذي بدأ بعملية مراقبة وتوعية بالمحتوى الإعلامي الخاص باليسار في ظل الحرب الباردة عام 1987.
وتوجد العديد من الحملات والمؤسسات المناط بها مراقبة المحتوى التلفزيوني، مثل حملة معارضة الموادّ الإباحية، وحملات “فكر في الأطفال”، وهناك أيضاً مركز الآباء للموسيقى، الذي أنشئ عام 1985 لمراقبة المحتوى الموسيقي المقدم للأطفال.
ولم تُترك عملية رقابة المحتويات الإعلامية عبئاً على المؤسسات المجتمعية فقط، بل تدخلت الدولة وقامت بإنشاء لجنة الاتصالات الفيدرالية “FCC) “The Federal Communications Commission)، وهي وكالة مستقلة متخصصة في تنظيم العملية الإعلامية، وتهدف إلى تعزيز سلامة الأرواح والممتلكات، من خلال استخدام الاتصالات السلكية واللاسلكية، وسدّ الفجوة الرقمية، وتشجيع الابتكار وحماية المستهلكين والسلامة العامة، فيما يخصّ المحتويات الإعلامية، وهي التي تفصل في الشكاوى المقدّمة بخصوص المحتويات الإعلامية.
الرقابة المجتمعية على المواد الإعلامية، ضرورة للحفاظ على قيم ومبادئ المجتمع، ولا يوجد تعارض بينها وبين حرية الإبداع
ورغم وجود أصوات معارضة لعملية الرقابة على المحتويات الإعلامية، خاصة في الولايات المتحدة التي وُوجِهَ فيها مجلس الآباء التلفزيوني بنقدٍ كبير، وبأنه يدعم التدخّل الحكومي المتزايد في المنتجات الإعلامية، من خلال الضغط على لجنة الاتصالات الفيدرالية لفرض قيود على محتويات معينة، إلا أن أحداثاً مثل عمليات انتحار المراهقين التي ارتبطت بمسلسل “13 reasons why”، تدفع باتجاه ضرورة وجود هذا النوع من الرقابة.
ختاماً، فإن الرقابة المجتمعية على المواد الإعلامية ضرورة من ضرورات الحفاظ على قيم ومبادئ المجتمع الإنساني، ولا يوجد تعارض بين هذه الرقابة وحرية الإبداع الأدبي والفني، وهذا ما تطبقه أكبر دول العالم، التي تنادي بالحرية الكاملة للمبدعين ورجال الفن والآداب، فهي رغم سعيها لذلك، إلا أنها تضع الرقابة على عاتق المجتمع ذاته، لكونه القادر على معرفة الحدّ الفاصل الذي يجب أن يقف عنده العمل الفني، إزاء أخلاقيات وعادات المجتمع، وتمثّل المؤسسات المجتمعية والمبادرات والحملات المختلفة تلك السلطة، بل وتتدخّل الدولة أحياناً لضبط المحتويات الإعلامية التي قد تُلحِق الأذى بالعادات والتقاليد المجتمعية.