منذ السابع من أكتوبر 2023، يشاهد العالم تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي أودت بحياة أكثر من 61 ألف فلسطيني أغلبيتهم من الأطفال والنساء، وأدت لإصابة ما يزيد على 153 ألفًا آخرين، في حصيلة غير نهائية، حيث لا يزال عدد من الضحايا تحت ركام المباني المدمرة.
ولم يكن الصحفيون والإعلاميون بمعزل عن حرب الإبادة الوحشية، إذ استهدفتهم آلة القتل الإسرائيلية عن سبق الإصرار والترصد بغية إسكات صوتهم وعزل القطاع عن العالم، مما جعل تلك البقعة أخطر منطقة صراع يعمل فيها الصحفيون على مستوى العالم، حيث أصبح هذا الصراع الأكثر دموية للعاملين في مجال الإعلام في التاريخ الحديث، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
- استهداف الاحتلال للإعلام في غزة
في جريمة جديدة تستهدف الإعلام، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر خيمة الصحفيين أمام مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، ما أودى بحياة سبعة أشخاص بينهم الصحفيان أنس الشريف ومحمد قريقع، والمصوران الصحفيان إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل، والصحفي محمد الخالدي، لترتفع حصيلة العاملين في مجال الإعلام الذين سقطوا بنيران الاحتلال منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 238 صحفيًا وصحفية وعاملًا في المؤسسات الإعلامية، بحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين.
وبحسب مركز فلسطين للصحافة (منظمة غير هادفة للربح)، كان هناك 1800 صحفي عامل و24 مؤسسة إعلامية محلية تعمل داخل القطاع قبل اندلاع الحرب، وقد أغلقت هذه المؤسسات نتيجة الحرب وقصف الاحتلال 112 مكتبًا صحفيًا، وفيما غادر 300 صحفي غزة هناك 117 غيرهم رهن الاعتقال لدى الاحتلال، ويشعر أولئك الذين بقوا ويواصلون العمل ويخاطرون بحياتهم بمسؤوليتهم المتزايدة، حيث لم تسمح إسرائيل لأي وسيلة إعلام أجنبية بالوصول المستقل إلى غزة منذ 7 أكتوبر2023.
ووفقًا للجنة حماية الصحفيين (منظمة غير حكومية غير هادفة للربح مقرها في نيويورك)، يعني تدمير أوساط العاملين في الإعلام في غزة وتهجيرهم، أنه لم يتبق سوى عدد يتناقص باطراد مما يهدد قدرة الإعلام على تقديم شهاداته وتوثيقه لما يحدث على الأرض.
وقد ندد مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان باستهداف الصحفيين، قائلا إن تصرف إسرائيل يمثل انتهاكًا خطيرًا للقانون الإنساني الدولي، وأدانت منظمة مراسلون بلا حدود “بشدة وغضب” اغتيال إسرائيل للصحفيين في غزة.
- اتهام إسرائيل للصحفيين بالإرهاب
وفي إجراء معتاد بعد كل عملية اغتيال ينفذها بحق الصحفيين، أقر جيش الاحتلال الإسرائيلي باستهداف خيمة الصحفيين، قائلا في بيان إنه استهدف “القيادي في حركة حماس أنس الشريف الذي تظاهر بصفة صحفي في شبكة الجزيرة”، على حد زعمه. كما ادعى الاحتلال أن الشريف كان يقود خلية تابعة للحركة وكان مسؤولاً عن تنسيق هجمات صاروخية ضد مدنيين إسرائيليين وقوات الجيش الإسرائيلي.
ولم تكن جريمة الاغتيال المستندة إلى اتهامات بالإرهاب في العاشر من أغسطس الحالي، الأولى من نوعها، ففي 24 مارس الماضي، استهدفت غارتين إسرائيليتين متتاليتين على غزة الصحفي لدى قناة فلسطين محمد منصور وزوجته وابنه في منزله بمدينة خان يونس جنوب القطاع.
كما استهدفت غارة جوية سيارة مراسل قناة الجزيرة، حسام شبات في مدينة بيت لاهيا شمال غزة، وزعم جيش الاحتلال أن شبات “إرهابي قناص”.
وكان المتحدث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي قد اتهم، الشهر الماضي، 6 صحفيين من بينهم الشريف بأنهم تابعون لحركة حماس أو الجهاد الإسلامي في فلسطين.
ومع تصاعد تلك الاتهامات مؤخرًا، شددت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحرية الرأي والتعبير، أيرين خان، على أن التحريض العلني ضد الصحفيين في مناطق النزاع يضاعف من احتمالات تعرضهم للاستهداف، ويقوّض قدرة وسائل الإعلام على القيام بدورها الرقابي، وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وأكدت خان أن القانون الدولي الإنساني يفرض على أطراف النزاع ضمان حماية الصحفيين والعاملين في الإعلام، وعدم استهدافهم أو التحريض عليهم، باعتبارهم مدنيين يقومون بمهمة مهنية أساسية.
كما رأت سارة القضاة المديرة الإقليمية للجنة حماية الصحفيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن نمط إسرائيل في وصف الصحفيين بالمسلحين دون تقديم أدلة موثوقة يثير تساؤلات جدية حول نيتها واحترامها لحرية الصحافة.
- الحماية القانونية الدولية المفترضة للصحفيين
وفرت الاتفاقيات الدولية والقرارات الأممية وقواعد القانون الدولي مظلة حماية للصحفيين في مناطق النزاعات المسلحة، بشكل يساعدهم على أداء مهمتهم ويحفظ سلامتهم، فوفقا لنص المادة 79 من البروتوكول الإضافي لعام 1977 الملحق باتفاقية جنيف لعام 1949 بشأن حماية المدنيين بالنزاعات العسكرية، يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصا مدنيين، كما يجب حمايتهم بهذه الصفة شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين.
وبحسب الفقرة الثالثة من المادة 51 من البروتوكول ذاته، يتمتع الصحفيون بالحماية التي يوفرها القانون الدولي الإنساني شريطة ألا يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية. ويقصد بالمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، أعمال الحرب التي يحتمل، بطبيعتها أو غرضها، أن تُلحق ضررا فعليا بأفراد ومعدات القوات المسلحة المعادية.
وعلى صعيد القرارات الدولية، نص القرار رقم 1738 لمجلس الأمن الدولي الذي اتخذه بالإجماع في 23 ديسمبر 2006، على إدانة الهجمات المتعمدة ضد الصحفيين وموظفي وسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم أثناء النزاعات المسلحة، ومساواة سلامة وأمن الصحفيين ووسائل الإعلام والأطقم المساعدة في مناطق النزاعات المسلحة بحماية المدنيين هناك.
وكذلك اعتبار الصحفيين والمراسلين المستقلين مدنيين يجب احترامهم ومعاملتهم بهذه الصفة، واعتبار المنشآت والمعدات الخاصة بوسائل الإعلام أعيانًا مدنية لا يجوز أن تكون هدفًا لأي هجمات أو أعمال انتقامية.
وأدان مجلس الأمن في قراره رقم 2222 لسنة 2015 بشدة انتشار الإفلات من العقاب عن الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكب ضد الصحفيين والإعلاميين والأفراد المرتبطين بوسائط الإعلام في حالات النزاع المسلح ما قد يسهم في تكرار هذه الأفعال، مؤكدا على مسؤولية الدول عن الامتثال للالتزامات ذات الصلة بموجب القانون الدولي من أجل وضع حد للإفلات من العقاب ومحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي.
كما تضمن القرار دعوة للدول الأعضاء لاتخاذ الخطوات المناسبة لكفالة المساءلة عن الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين والإعلاميين والأفراد المرتبطين بوسائل الإعلام في حالات النزاع المسلح ومن خلال إجراء تحقيقات محايدة ومستقلة وفعالة في إطار اختصاصها القضائي وتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن ما يتعرض له الصحفيون والإعلاميون في قطاع غزة هو جريمة حرب متعمدة يرتكبها جيش الاحتلال من أجل التعتيم على ممارساته في القطاع والسيطرة على السردية المطروحة في الإعلام العالمي وتغييب الصوت الفلسطيني، وصور معاناتهم ومجاعتهم التي أيقظت ضمائر العديد من الشعوب حول العالم ودفعت بجانب جهود دبلوماسية مكثفة تقودها المملكة العربية السعودية، عدة دول غربية كبرى لإعلان عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المقبل.