استُهل عام 2025 بتطورٍ فاجأ عالم الذكاء الاصطناعي بأكمله. ففي يناير، أطلقت شركة صينية غير معروفة آنذاك، تُدعى “DeepSeek”، نموذجًا استدلاليًّا قادرًا على منافسة أحدث الحلول في السوق، ولكن بتكاليف تطوير واستهلاك طاقة أقل بكثير.
وقد شكّل هذا الإعلان تحديًا للافتراض السائد بأن الهيمنة الأمريكية لا تُقهر. وفي ديسمبر، أصدرت “DeepSeek” نموذجها “V3.2” ونسخة خاصة مصممة لتحدي أحدث الأنظمة التي طورتها عمالقة التكنولوجيا الأمريكية.
ووفقًا لتقرير للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، فإن هذين الحدثين البارزين اللذين يُشيران إلى بداية ونهاية عام 2025، يرسمان مسارًا سيُحدد ملامح العام المقبل أيضًا، إذ يتسارع تطوير الذكاء الاصطناعي بوتيرة هائلة، ويتركز بشكل متزايد في منافسة بين عدد محدود من الجهات الفاعلة الأمريكية والصينية، بينما يُواجه باقي العالم خطر التهميش.
- من سباق تكنولوجي إلى تنافس بنيوي
تشير الدلائل إلى أن التنافس على الذكاء الاصطناعي في عام 2026 سيتجاوز مجرد سباق تكنولوجي، ليتحول إلى صراع للسيطرة على سلسلة القيمة بأكملها: من تصنيع الرقائق إلى البنية التحتية للحوسبة، ومن وضع المعايير إلى التطبيقات في المجالات الاقتصادية والعلمية والعسكرية.
وجرى الكشف عن المخططات الاستراتيجية لهذا التنافس في صيف عام 2025، وستتضح آثارها بشكل أكبر في الأشهر المقبلة. ففي 23 يوليو الماضي، قدّم البيت الأبيض استراتيجية بعنوان “الفوز بالسباق: خطة عمل أمريكا للذكاء الاصطناعي”، وهي تهدف إلى تسريع الابتكار، وبناء بنية تحتية جديدة، وترسيخ الريادة في أشباه الموصلات.
وبعد ثلاثة أيام، ردّت الصين بـ”خطة عمل الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي”، التي تركز على الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، وتطوير الأجهزة المحلية، ونماذج المصادر المفتوحة التي تقودها الدولة.
وتسعى القوتان العظميان إلى تحقيق الهدف نفسه، ولكن من خلال استراتيجيات متباينة، حيث تُقدم الإدارة الأمريكية نفسها كجهة مُهندسة ومُيسّرة، مُهيئةً بيئةً خصبةً لشركاتها العملاقة في القطاع الخاص لمواصلة تطوير أكثر النماذج تقدمًا في العالم. ومن أبرز الأمثلة على هذا النهج الأمر التنفيذي الذي وقّعه الرئيس ترامب في 11 ديسمبر الجاري، والذي يهدف إلى الحد من تنظيم الذكاء الاصطناعي من قِبل الولايات الفيدرالية الفردية لإتاحة مساحة أكبر لشركات التكنولوجيا.
في المقابل، تسعى بكين إلى تحقيق توافق تام بين الحكومة والصناعة. وتُعطي استراتيجيتها الأولوية للمرونة النظامية، لضمان بقاء كل مُكون من مُكونات الذكاء الاصطناعي، من رقائق السيليكون إلى نماذج اللغة، تحت السيطرة ويتوافق مع أهداف الحزب.
- انقسامات بشأن الحوكمة ورؤى متضاربة
مع اقتراب عام 2026، يتقارب الطرفان المتنافسان في نقطة واحدة: لا يرغب أي منهما في التقيد بقواعد صارمة للغاية. خلال قمة العمل بشأن الذكاء الاصطناعي التي عُقدت في باريس في فبراير الماضي، اصطدمت الدعوات إلى معايير موحدة برؤى متباينة.
فقد فضّلت الولايات المتحدة مدونات سلوك مرنة ودورًا محوريًا لشركات التكنولوجيا الكبرى، بينما دافع الاتحاد الأوروبي عن النهج الأكثر صرامة الذي يجسده قانون الذكاء الاصطناعي الخاص به؛ وظلت الصين مصممة على تغليب أولويات الحكومة على الخصوصية والحقوق الفردية.
ولم تتقلص هذه الخلافات في الأشهر الأخيرة، مما يُهدد بتقويض نتائج قمة حوكمة الذكاء الاصطناعي المقبلة، المقرر عقدها في نيودلهي في الفترة من 16 إلى 20 فبراير المقبل.
ورغم طموح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في استغلال هذه المناسبة لوضع الهند كجسر بين الشمال والجنوب العالميين في حوكمة الذكاء الاصطناعي، فإن المناخ الجيوسياسي الحالي لا يُساعد على بناء توافق في الآراء حول قواعد مشتركة تراعي مصالح الجنوب العالمي.
وعلى الأرجح سيتم ترسيخ فسيفساء من الأنظمة الرقابية التي تستخدم نفس الكلمات المفتاحية – “الأمن” و”المسؤولية” و”الرقابة البشرية” – ولكنها تُضفي عليها معاني مختلفة تمامًا تبعًا للمنطقة الجغرافية. ويبدو أن نيودلهي ستؤكد على عالم تتقدم فيه حوكمة الذكاء الاصطناعي من خلال تقارب محدود حول قضايا محددة، مثل شفافية الخوارزميات أو تصنيف المحتوى، بينما يبقى بعيدًا عن أي إطار تنظيمي عالمي شامل.
- التجزئة وتكاليفها الاقتصادية
يبدو أن عام 2026 سيشهد بداية ظهور آثار ملموسة لهذه التجزئة، لا سيما في صورة عوائق تقنية وقانونية أمام تطوير النماذج عبر الحدود، وارتفاع تكاليف الامتثال للشركات. وسيصبح تطوير نسخ متعددة من الحل نفسه، والتكيف مع معايير تقنية مختلفة، والامتثال للوائح غير الموحدة، أمراً لا يمكن إدارته إلا لمن يملكون الموارد والخبرات الكافية لمعايرة نماذجهم عبر مختلف المناطق.
أما بالنسبة للشركات الصغيرة، بما فيها العديد من الشركات الأوروبية، فستتقلص الخيارات المتاحة أمامها إلى خيارين: إما حصر طموحاتها الجغرافية في سوق واحدة، أو الاعتماد على البنية التحتية والنماذج التي توفرها الشركات الكبرى. وبالتالي، يُنذر العام المقبل بتعزيز بيئة ذكاء اصطناعي ذات سرعتين: فمن جهة، شركات عملاقة قادرة على تحويل التعقيد التنظيمي إلى ميزة تنافسية؛ ومن جهة أخرى بنية أعمال محصورة في أدوار ثانوية ضمن بيئات تهيمن عليها جهات فاعلة قليلة.
- الاستقطاب العالمي والمنافسون الصاعدون
في الوقت الراهن، تحتفظ الولايات المتحدة بتفوقها في البحوث التطبيقية وتوزيع المنصات العالمية، بينما تتفوق الصين في سرعة التطوير والنشر على نطاق واسع. في الأشهر المقبلة، قد يُضيّق هذا الاستقطاب الخناق على الدول الأخرى، وقد تجد أوروبا، رغم جهودها، نفسها محاصرة بشكل متزايد بين القوتين العظميين.
ومع دخولها عام 2026، تواجه القارة وعيًا مزدوجًا: فالفجوة التكنولوجية مع القوتين العظميين تتسع، بينما تستعد جهات فاعلة أخرى لاحتلال المركز الثالث.
- السعودية والهند في صعود
أعلنت السعودية عن طموحها في أن تصبح ثالث أكبر سوق للذكاء الاصطناعي في العالم، مستفيدةً من استثمارات ضخمة، وشبكات طاقة متطورة، وتشريعات رائدة، واستقطاب المواهب، وشراكات مع شركات أجنبية.
وشهد شهر مايو الماضي إطلاق شركة “هيوماين” للتكنولوجيا المتكاملة، التي تغطي جوانب الذكاء الاصطناعي كافة: من بناء مراكز البيانات، إلى تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى تقديم تطبيقات مصممة خصيصًا لقطاعات متعددة.
أما الهند، فهي لاعب رئيسي آخر، إذ راهنت استراتيجيًّا على الذكاء الاصطناعي من خلال “مهمة الذكاء الاصطناعي في الهند”، وهو برنامج حكومي بقيمة 1.2 مليار دولار، مدعوم بتمويل خاص.
وتركز نيودلهي على التبني الواسع النطاق والتدريب، بهدف بناء منظومة متكاملة من المستخدمين والمطورين، ما قد يرسخ مكانة الهند كسوق رئيسة للذكاء الاصطناعي على المدى البعيد.
- مفترق طرق استراتيجي لأوروبا
ستواجه أوروبا خيارًا حاسمًا في عام 2026: هل تجمع بين خبرتها التنظيمية – بتصدير معاييرها العالية إلى الدول المتقبلة لتطوير الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول – واستراتيجية صناعية طموحة تقوم على الاستثمار في البنية التحتية والتقنيات، والاستقلال الرقمي، والتعاون الاستراتيجي مع القوى الصاعدة؟ وما هو على المحك في نهاية المطاف هو دور أوروبا في النظام التكنولوجي العالمي المستقبلي.



