في ظل التطورات التكنولوجية وتوسع الاقتصاد العالمي والعولمة والتجارة الدولية والنمو في سوق الإعلام الدولي، أصبحت المؤسسات الإعلامية كيانات اقتصادية يتحكم المنطق الاقتصادي في سلوكها وقراراتها ويؤثر على أنشطتها. ولم تكن صناعة الإعلام السعودية في معزل عن التقلبات التي حدثت على صعيد السوق الإعلامي الدولي والذي كانت امتدادًا للتقلبات الاقتصادية والجيوسياسية والتقنية التي حدثت على المستوى العالمي.
وعلى مدار العقود الماضية، شهد قطاع الإعلام السعودي نموا على اتجاهين متوازيين، هما اتجاه مادي تضمن استحداث المؤسسات الإعلامية وتشييد الاستوديوهات والمحطات والصحف في مختلف مناطق المملكة، مع تطوير وتأهيل الكوادر الإعلامية من خلال المؤسسات التعليمية المحلية والخارجية.
أما الاتجاه الثاني فتمثل في إصدار العديد من الأنظمة واللوائح المنظمة للشأن الإعلامي وركزت على تنظيم القطاع الإعلامي السعودي من حيث إيضاح دور الإعلام السعودي، والرقابة على محتوى الإعلام، ويسمى هذا الاتجاه بالتطور التشريعي والقانوني، المنظم والضابط لصناعة الإعلام السعودي.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “اتحاد الجامعات العربية لبحوث الإعلام وتكنولوجيا الاتصال” في عددها الصادر في يناير 2023، دراسة بعنوان ” اللوائح القانونية السعودية واقتصادات الإعلام” من إعداد الدكتور بندر عويض الجعيد الأستاذ المساعد بقسم العلاقات العامة في كلية الاتصال والإعلام بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والتي ركزت على تحليل اللوائح الإعلامية السعودية من أجل اكتشاف تأثير مجموعة القوانين الإعلامية السعودية على السوق الإعلامي السعودي. والتي نستعرضها على النحو التالي:
- مجتمع وعينة الدراسة
يشمل مجتمع الدراسة كافة القوانين المؤثرة في صناعة الإعلام بالمملكة العربية السعودية، حيث اعتمدت الدراسة أسلوب تحليل الوثائق لما يتميز به من دقة وموضوعية في تقييم ومراجعة الوثائق، وبحكم أن القطاع الإعلامي يعتبر قطاعا خدميا يوفر الترفية والمحتوى الإعلامي والمعلوماتي-الإخباري فإنه يتعاطى مع عدة أنماط من القوانين والتشريعات في المملكة، حيث يمكن تبويبها في مجموعتين، الأولى تتعلق بالقوانين التجارية العامة، وتعني كل القوانين التي تغطي أنشطة القطاع الخاص مثل نظام الشركات ونظام الإفلاس وأنظمة السجل التجاري والأسماء التجارية والأوراق التجارية والرهن التجاري والامتياز التجاري ومكافحة الغش التجاري ومكافحة غسل الأموال ومكافحة التستر التجاري ونظام الاستثمار الأجنبي المباشر ونظام التحكيم.
أما الثانية فتتمثل في الأنظمة الإعلامية، وهي الأنظمة واللوائح والتشريعات التي تنظم جميع شؤون المؤسسات الإعلامية بكافة أنواعها والتي تعمل داخل المملكة العربية السعودية وصدرت من عدة عقود لتنظيم هذه الصناعة، وبعض هذه القوانين لا تختص في قطاع الإعلام فقط، بل تشمل قطاعات مختلفة وذلك بحكم التطور التكنولوجي الهائل، مثل نظام الجرائم المعلوماتية.
- نتائج الدراسة
خلصت الدراسة إلى أن الأنظمة واللوائح والتشريعات الإعلامية متدرجة زمنيا وتراعي التطورات المعلوماتية والاتصالية والتكنولوجية التي واكبت وسائل الإعلام التقليدية وصولًا لوسائل الإعلام الجديدة، والتكامل والتنافس فيما بين نوعي الوسائل.
كما لفتت الدراسة إلى أنه من مراجعة الأنظمة واللوائح اتضح أن هناك إدراكا في كافة القوانين واللوائح لتوضيح طبيعة المهام الرئيسية للمؤسسة الإعلامية، ومرجعيتها القانونية، حيث تم إبراز الجهة الرئيسية كمرجعية إطلاق والحصول على تراخيص مؤسسات إعلامية وكذلك للرقابة على المحتوى والتزامه بالسياسات العامة للإعلام، وهو الأمر الذي يساعد المؤسسات الإعلامية بالمملكة العربية السعودية على العمل بسلاسة ووضوح للرؤية والأهداف، ومما يترتب عليه دقة القرارات التي تصدر عنها، وبالتالي القدرة على الإدارة بكفاءة عالية والإنتاج الإعلامي المتميز القادر على التنافس محليًا وإقليميًا ودوليًا مما يترتب عليه تحقيق عائد ربحي. وما سبق يساعد على تحقيق عنصر الكفاءة الاقتصادية في إدارة المؤسسة العالمية.
كما أشارت إلى أن الأنظمة واللوائح الإعلامية لم تكتف بأمر التفاعل ما بين المؤسسة الإعلامية والمؤسسات المحلية بالمجتمع السعودي، لكنها اهتمت أيضا بتوضيح آلية تفاعل المؤسسات الإعلامية السعودية مع المؤسسات خارج المجتمع السعودي، مما يدل على بُعد نظرة المشرع لتحقيق هذه المؤسسات الإعلامية للتنافسية والقدرة على الإنتاج المتميز الذي يحقق الكفاءة الإعلامية، إذ لم تغفل الأنظمة واللوائح رسم الخطوط العريضة لطبيعة العلاقة بين المؤسسات الإعلامية الدولية وصناعة الإعلام في السعودية.
وفيما يتعلق برسم السياسة الإعلامية، كان هناك تركيز على مراعاة قضايا المجتمع السعودي والقضايا الخارجية السعودية، وكذلك القضايا العربية والعالمية والموقف السعودي منها، حيث إن النظرة الإعلامية للمشرع اعتمدت على التركيز على المحلية والانطلاق منها عربيا وعالميا، لذا كان هناك تأكيد على قيم عربية وإسلامية يتميز بها المنتج الإعلامي السعودي.
كما أشارت الدراسة إلى أن الأنظمة واللوائح والتشريعات الإعلامية تضمنت مجموعة من المعايير لا بد من مراعاتها عند النشر الإعلامي تتمثل في الموضوعية والمصداقية وحرية التعبير عن الرأي ومراعاة احتياجات الجمهور المتنوعة وحقوقهم، فضلا عن توجيه برامج متخصصة لفئات نوعية محددة لها طبيعتها العلمية أو الخاصة كالطفل والمرأة وذوي الإعاقة وكبار السن، وأن يكون الهدف الأسمى هو تحقيق مصلحة المجتمع والعمل على ترابطه وتماسكه.
ولفتت الدراسة أيضًا إلى تأكيد الأنظمة واللوائح السعودية على حق المؤسسة الإعلامية في تحقيق الربح المادي وذلك في إطار تحمل مسؤوليتها الإعلامية والمجتمعية، أي مع الالتزام بالضوابط الإدارية والمهنية والأخلاقية، حيث إن النصوص القانونية توضح الشروط المطلوبة في مالكي المؤسسات الإعلامية والتراخيص وكذلك الشركاء الأعضاء بالإضافة إلى شروط وقف التراخيص أو إلغائها أو توريثها أو بيعها والجهات المنوط بها ذلك من حيث الإشراف والمتابعة.
كما أثبتت الأنظمة واللوائح حرص المشرع على أهمية المنافسة بين المنتجات الإعلامية، وهو الأمر الذي يتحقق من خلال الالتزام بتعليمات التراخيص والسياسة الإعلامية والالتزام بشروط التنافس التي تؤكد على القيم والأخلاقيات في العمل الإعلامي والمعايير المهنية سواء على مستوى الجمهور المستفيد من المنتج الإعلامي أو على مستوى الممارسين في مهنة الإعلام أو على أسلوب العمل الإعلامي أو في التعامل مع الشكاوى وحل الخلافات المتعلقة بالممارسات غير التنافسية، كما جاءت الأنظمة الإعلامية مشجعة على المنافسة وتمنع الاحتكار الأمر الذي يساعد على تنوع المنتجات الإعلامية بما يلبي احتياجات الجمهور المختلفة، حيث إن تقنين أساليب المنافسة يساعد على خلق بيئة عمل إعلامية تساعد على الابتكار والإبداع.
- توصيات الدراسة:
قدمت الدراسة سلسلة من التوصيات تمثلت في ضرورة تحديث بعض الأنظمة واللوائح والتشريعات السعودية المرتبطة بالتقنيات التكنولوجية الحديثة والإشارة لها مثل تقنيات الواقع المعزز والافتراضي والمختلط والميتافيرس والذكاء الاصطناعي، حيث إن هذه التقنيات الحديثة غيرت وستغير من مفهوم صناعة المحتوى الإعلامي، ومتطلباته واحتياجاته المهنية وأوجدت التفاعل والتواصل في شبكات الإعلام الاجتماعي وبالتالي لها تأثيراتها الأخلاقية أيضا على طبيعة المحتوى الذي سيقدم للجمهور.
وكذلك إعداد دراسات تحليلية للمحتوى الإعلامي ومقارنته بما أقرته الأنظمة واللوائح الإعلامية من سياسات وأخلاقيات إعلامية وشروط لمعايير الممارسة المهنية الإعلامية وضوابط دخول السوق الإعلامي والاستثمار الإعلامي.
بالإضافة إلى ضرورة دراسة أي تحديات قانونية وتشريعية قد تظهر على الساحة المجتمعية السعودية تعيق من مستوى تقبل المجتمع السعودي للتقنيات الاتصالية والإعلامية والتكنولوجية الحديثة.
وأوصت أيضًا بإعداد دراسات ميدانية على كافة المراحل العمرية للجمهور السعودي لقياس مستوى الوعي والإدراك لأهمية الأنظمة واللوائح والتشريعات الإعلامية من أجل تقنين العمل الإعلامي وأنها ليست لتقييد الحريات، وأن حرية التعبير عبر وسائل الإعلام الجديد لا بد أن يكون لها ضوابط لأجل منعها من التجاوز واختراق خصوصية الآخرين أو تهديد الأمن الإعلامي.
كما دعت إلى إعداد دراسات من خلال مقابلات متعمقة مع الخبراء والأكاديميين لمناقشتهم في كيفية الاستفادة من التطورات التقنية الحديثة لتحقيق المنافسة وفي ذات الوقت تطوير الأنظمة واللوائح والتشريعات لتكون قادرة على الموازنة بين المنافع الاقتصادية والمعايير المهنية والأخلاقية وتعزيز الإبداع والابتكار.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول، بأن الإطار القانوني المنظم لعمل الإعلام في السعودية شكّل أداة رئيسية لضمان إنتاج محتوى إعلامي ملائم للمجتمع، وساعد في تهيئة المناخ لبروز تنافسية بين المؤسسات الإعلامية مما حفز على الإبداع والابتكار وإنتاج محتوى إعلامي قادر على المنافسة والتفوق والريادة في المحيط الإقليمي.