تقدير موقف

دبلوماسية القمم السعودية

تعتبر “دبلوماسية القمة- Summit Diplomacy ” أداة ليست جديدة في حقل العلاقات الدولية، فهي أحد أقدم أوجه ممارسة العمل الدبلوماسي، وبينما كانت حدثًا نادرًا في العصور القديمة والوسطى، باتت اليوم تمثل سمة بارزة من سمات العلاقات الدولية المعاصرة، وطابعًا مميزًا لنظام عالمي جديد يقوم على الاعتماد المتبادل والعولمة.

وفي ظل تعدد القضايا والأزمات الدولية وتشعبها اتسع جدول أعمال دبلوماسية القمم ليشمل قضايا اقتصادية مثل التجارة والاستثمار والطاقة وقضايا أمنية واستراتيجية مثل مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وغيرها من القضايا التي تعتبر محل اهتمام المجتمع الدولي. ولذلك تتعدد أنماط دبلوماسية القمم حيث تشمل كلا من: قمم عامة، وأخرى قارية، وقمم إقليمية، وكذلك قمم تتعلق بقضايا متخصصة فنية، بجانب قمم الأحلاف العسكرية.

وقد تبنّى كثير من الدول حول العالم دبلوماسية القمم وعملت على توظيفها لخدمة أهداف سياستها الخارجية، لا سيما وأنها أسهمت في كثير من الحالات في احتواء الأزمات والتخفيف من حدتها.

وتعد المملكة العربية السعودية من بين الدول الرائدة في انتهاج هذا النمط من الدبلوماسية، سواء عبر استضافة قمم إقليمية ودولية على أراضيها أو المشاركة الفاعلة في كافة المؤتمرات والقمم التي تعقد في الخارج، حيث تضطلع المملكة بدور فاعل على الساحتين الإقليمية والدولية يستند على ما تمتلكه من مقومات القوة الشاملة بشقيها القوة الصلبة والقوة الناعمة، بجانب ما تتبناه من مواقف ومقاربات تجاه مختلف القضايا والأزمات، حيث تسعى الرؤى السعودية على الدوام إلى ترسيخ احترام قواعد القانون الدولي ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والدعوة إلى السلام والاستقرار.

  • فاعلية السياسة الخارجية السعودية

تتعدد دوائر الحركة التي تعمل فيها السياسة الخارجية والدبلوماسية السعودية بدءًا من الدائرة الخليجية حيث الجوار الجغرافي والارتباط التاريخي، والدائرة العربية التي تمثل المحيط الأوسع إذ تحرص على تعزيز التضامن العربي والعمل المشترك لمواجهة التحديات، وكذلك الدائرة الإسلامية حيث الهوية الجامعة والانتماء إلى عقيدة واحدة، وأخيرًا الدائرة الدولية التي تعتبر حركة السياسة الخارجية السعودية فيها انعكاسًا للدوائر الثلاث السابقة بجانب أنها تجسد المكانة السياسية والاقتصادية الرفيعة للمملكة.

وفي إطار تلك الدوائر دأبت المملكة على ممارسة نمط من الدبلوماسية النشطة عبر مبادرات وأدوار متعددة انعكست خلال السنوات القليلة الماضية في استضافتها الكثير من القمم الدبلوماسية والسياسية التي تتصدى لقضايا إقليمية ودولية، وقد أسهمت بدرجات متنوعة إما في تسوية بعض الأزمات أو تحقيق انفراجات أدت لتخفيض حدة البعض الآخر، أو تعزيز التعاون من أجل التنمية وترسيخ الاستقرار، وعلى هذا النحو يمكن رصد أدوار اضطلعت بها السعودية من خلال دبلوماسية القمم، تمثلت فيما يلي:

  • الوساطة في الأزمات الدولية

تتمتع المملكة العربية السعودية بعلاقات متوازنة مع مختلف الأطراف على الساحة الدولية، وقد أسهم انفتاحها على كافة القوى العالمية إلى اكتسابها القدرة على التوسط في النزاعات العالمية الأكثر تعقيدًا ومنها الحرب الروسية الأوكرانية، ومن المؤشرات على ذلك نجاح وساطتها في إتمام عملية تبادل أسرى بين موسكو وكييف في ديسمبر الماضي. وامتدادًا لذلك الانخراط الإيجابي في هذه الأزمة الدولية، استضافت مدينة جدة قمة للسلام في أوكرانيا شارك فيها مستشارو الأمن القومي وممثلو وزارات الخارجية لأكثر من 40 دولة من بينها الولايات المتحدة والصين والهند وألمانيا وفرنسا، حيث اعتبر المشاركون أن تلك القمة خطوة مهمة تعزز التوافق الدولي في الآراء حول سبل تسوية تلك الأزمة. ورغم عدم مشاركة روسيا في القمة فإن مسؤولين من روسيا أكدوا العزم على بحث نتائجها مع شركاء موسكو في مجموعة “بريكس” الذين حضروا القمة.

  • بناء جسور التعاون

شكّل تدشين جسور التعاون وتقوية الروابط الإقليمية جانبًا محوريًا على أجندة دبلوماسية القمم في السعودية، لذا كانت استضافة مدينة جدة في 19 يوليو الماضي للقمة الأولى بين دول مجلس التعاون الخليجي، ودول وسط آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان، بالإضافة إلى قرغيزستان وكازاخستان)، والتي بحثت تعزيز التعاون والتنسيق في مختلف المجالات، في ظل تزايد الاهتمام والتنافس الإقليمي والدولي بتلك الدول؛ نظرًا لموقعها وأهميتها الجيواستراتيجية، وثرواتها الطبيعية.

وأظهرت تلك القمة إدراكًا واضحًا للقواسم المشتركة والمصالح الاقتصادية بين المنطقتين لما تمتلكان من موارد طبيعية وثروات مهمة، بعضها متماثل مثل النفط والغاز كقضية استراتيجية مهمة على رأس قائمة أولويات هذه العلاقات، إلى جانب التعاون على الصعيد الأمني من أجل مواجهة خطر الإرهاب.

  • الانفتاح المتوازن على القوى العالمية

كانت دبلوماسية القمم بمثابة مرآة عاكسة لانفتاح المملكة العربية السعودية على القوى الكبرى في العالم، وقراءتها الواعية للتغيرات التي طرأت على هيكل النظام الدولي واستشرافها بدقة لمساره المستقبلي، فلم تمض 4 أشهر على انعقاد القمة الخليجية الأمريكية في جدة بمشاركة مصر والأردن والعراق في يوليو 2022 وذلك ضمن أول زيارة للرئيس الأمريكي جو بايدن للمملكة منذ تنصيبه، حتى استقبلت جدة أيضًا نظيره الصيني شي جين بينغ في زيارة استغرقت 3 أيام وشهدت انعقاد 3 قمم (قمة سعودية صينية – قمة خليجية صينية – قمة عربية صينية)، فكانت تلك القمم علامة فارقة على جهد سعودي لإتاحة مساحة وهامش لحركة الدول العربية على الساحة الدولية يساعد على تمكين هذه الدول من تعزيز مصالحها وتحقيق أهدافها وانتزاع مكاسب استراتيجية بشأن قضاياها وشواغلها.

  • توحيد الصف العربي

تعزيز اللحمة الخليجية وتنقية الأجواء العربية وطي صفحات الخلافات عنوان آخر برز في استضافة المملكة لقمم عربية وخليجية، فكانت القمة الخليجية الـ 43 بمدينة جدة في ديسمبر الماضي هي خامس قمة اعتيادية تستضيفها السعودية على التوالي، في سابقة هي الأولى في تاريخ مجلس التعاون لدول الخليج العربية منذ تأسيسه عام 1981، أن تستضيف إحدى الدول 5 قمم متتالية.

وفي مايو الماضي، انعقدت أعمال القمة العربية الـ32 تحت شعار “قمة التجديد والتغيير”، إذ كانت قمة تاريخية، شهدت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية عقب 12 عامًا من تجميد مقعدها، وحرصت أيضًا خلالها المملكة على حشد الجهود العربية لمساعدة السودان في أزمته بموازاة رعايتها واستضافتها لمحادثات بين طرفي الصراع السوداني.

  • قيادة الجهود العالمية

لم تغب الدائرة العالمية عن دبلوماسية القمم النشطة التي تمارسها المملكة انطلاقًا مما تتمتع به الرياض من ثقل سياسي واقتصادي عالمي؛ وكانت الرئاسة السعودية لقمة مجموعة العشرين في عام 2020 نموذجًا رائدًا للقيادة المسؤولة في مواجهة أزمة عالمية غير مسبوقة “أزمة وباء كورونا”، إذ استطاعت إدارة دفة الأمور وحشد الجهود على مستوى العالم لمواجهة تلك الأزمة وتغليب النهج التعاوني الدولي.

وطرحت السعودية من خلال الجهود المنسقة والمشاركة الافتراضية المستمرة، كثيرا من المبادرات والخطط على المستوى العالمي للتعامل مع التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الناتجة عن الوباء، وقدمت إسهامًا بارزًا وبصمة واضحة في نمط “دبلوماسية القمم الافتراضية”.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن دبلوماسية القمم السعودية هي نتاج طبيعي لرؤية قيادة حكيمة للمملكة، وسياسة خارجية تستند إلى أسس واضحة ومبادئ مستقرة، وجهاز دبلوماسي نشط يضم كوادر كفؤة قادرة على ترجمة الاستراتيجيات والسياسة إلى حركة فاعلة تواكب الدور القيادي للمملكة وتعزز من مكانتها على الصعيد الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى