ترجمات

توظيف الذكاء الاصطناعي في التضليل السياسي

شكّلت التطورات التكنولوجية خلال السنوات الأخيرة تحديًا كبيرًا لممارسة العمل السياسي والإعلامي في بيئة الإعلام الجديد، حيث تعدد وازدهار منصات التواصل الاجتماعي، واتساع نطاق انتشارها ونمو جمهورها الذي أكسبها تأثيرًا قويًا في الاستحقاقات الانتخابية، وجعلها محورًا رئيسيًا في جهود الدعاية واستقطاب الأصوات.

وفي ضوء ذلك المشهد، تناول تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية تداعيات توظيف الذكاء الاصطناعي في التضليل السياسي، ومواقف الشركات المالكة لمنصات التواصل من تلك القضية، والسبل الممكنة لمكافحة هذا الخطر، وهو ما نستعرضه في النقاط التالية:

  • دفعة جديدة لصناعة المعلومات المضللة

رأت المجلة أن الذكاء الاصطناعي أضاف دفعة جديدة لصناعة المعلومات المضللة، بعدما أصبح باستطاعة أي شخص أن يصبح منشئ محتوى سياسي بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة مثل “DALL-E” و “Reface” و”FaceMagic” وغيرها.  كما أعلنت شركة “ميتا” عن خطط لإطلاق تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدية الجديدة الخاصة بها للاستخدام العام، مما سيؤدي إلى مزيد من الاحتمالات لانفجار مثل هذا المحتوى.

وتطرقت إلى نماذج من المحتوى المضلل، ومنها نشر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مقطع فيديو زائفًا في مايو الماضي للمذيع بشبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية أندرسون كوبر يقول إن الرئيس الأمريكي جو بايدن “استمر كما كان متوقعًا في إلقاء الكذبة تلو الأخرى”.

ولم يكن ترامب وحده منخرطًا في تلك الممارسات فقد نشرت الحملة الانتخابية الرئاسية لحاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون ديسانتيس، الذي ينافس ترامب على نيل بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل، عبر منصة إكس (تويتر سابقا) فيديو إعلان يعرض صورًا تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي لترامب، وهو يُقبل ويُعانق أنتوني فاوتشي، كبير مستشاريه الطبيين السابق، المكروه من جانب اليمين المتطرف.

بالإضافة إلى ذلك انتشر مقطع فيديو زائف آخر على نطاق واسع تقول فيه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون: “أنا في الواقع أحب رون ديسانتيس كثيرًا، إنه نمط من الرجال الذي تحتاجه هذه الدولة”.

ويعد إضفاء الطابع الديمقراطي على عملية التضليل أخطر تهديد لعمل المؤسسات الديمقراطية الأمريكية التي تتعرض بالفعل للهجوم. بل إن حتى أباطرة الذكاء الاصطناعي قلقون؛ إذ حذر إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “جوجل”، من أنه “لا يمكنك الوثوق بأي شيء تراه أو تسمعه” في الانتخابات بفضل الذكاء الاصطناعي.

كما صرح سام التمان، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، المطورة  لتطبيق “شات جي بي تي”  للمشرعين الأمريكيين بأنه قلق بشأن مستقبل الديمقراطية، محذرا من دخولها حقبة من التراجع الحاد”، ولذلك اقترح زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر إطارًا جديدًا لتنظيم الذكاء الاصطناعي.

وفي مجلس النواب، قدمت النائبة إيفيت كلارك مشروع قانون يلزم السياسيين بالكشف عن استخدامهم للذكاء الاصطناعي في إعلاناتهم السياسية، وهناك تشريع مماثل معلق في مجلس الشيوخ.

كما يرغب مسؤولو الانتخابات في ولايات مثل ميشيغان ومينيسوتا في جعل نشر معلومات كاذبة متعلقة بالانتخابات عن عمد أمرًا غير قانوني. وبدا بعض المشرعين مُتقبلين لفكرة إنشاء وكالة فيدرالية جديدة تمامًا لتنظيم الذكاء الاصطناعي.

  • إشكالية تنظيم الذكاء الاصطناعي

في مقابل تلك الدعوات، تبرز مشكلة تتمثل في أن تنظيم الذكاء الاصطناعي لمكافحة المعلومات المُضللة وحماية الديمقراطية الأمريكية قد يؤدي في النهاية إلى تعريض الديمقراطية في الخارج للخطر. فقد دأبت منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية على تركيز جهد موظفيها الذين يعملون في مجال رصد المعلومات المضللة على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والنتيجة أنه لم يتبق ما يكفي من الموارد لمراقبة المحتوى في بقية العالم.

ويتزامن كل ذلك مع اقتراب عام 2024، وهو عام حافل بالانتخابات في مناطق بعيدة عن الولايات المتحدة خاصة المناطق التي توجد بها صناعات تضليل نشطة، إذ تجري تلك الاستحقاقات على سبيل المثال في آسيا في كل من الهند التي تمتلك تاريخًا ثريًا من المعلومات المُضللة التي تغذي الحملات السياسية، وإندونيسيا حيث استغل مُروجو الأخبار الكاذبة الانقسامات الدينية والعرقية عبر دولة تدير أكبر انتخابات في العالم في يوم واحد، وأيضًا في كوريا الجنوبية التي شهدت تأجيل مشروع قانون للقضاء على الأخبار الزائفة.

وفي الوقت ذاته، هناك أكثر من 12 دولة في إفريقيا لديها انتخابات مقررة العام المقبل.

كما تعتبر مشكلة المعلومات المُضللة متفشية في أمريكا اللاتينية أيضًا فالمكسيك، على سبيل المثال، لديها تاريخ من المعلومات المضللة حول استطلاعات الرأي العام التي تضخمها وسائل الإعلام الرئيسية. أما في بيرو، كان مدققو الحقائق بالكاد قادرين على مواكبة حجم المعلومات المضللة التي غمرت الانتخابات السابقة.

ومع وضع هذا السياق في الاعتبار، قد يسود اعتقاد أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي ستنشئ غرف حرب انتخابية وتضع خططًا لالتقاط المعلومات المضللة قبل أن تنتشر؛ لكن بدلاً من ذلك كان لدى شركات التكنولوجيا أعمال ملحة أخرى يتعين عليها الاهتمام بها مثل دعم الربحية وخفض التكاليف وجذب المزيد من المستخدمين والتي أصبحت من الضرورات على المدى القريب.

وهذا يعني تقليل عدد الموظفين وإجراء تخفيضات في أجزاء من الشركات لا تساهم بشكل مباشر في زيادة الإيرادات؛ وتقدم شركة “ميتا” مثالاً على ذلك، إذ أعلن رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرج العام الحالي تخفيض فريق الثقة والأمان الذي يشرف على المحتوى على منصات ميتا والتي تشمل فيسبوك وإنستغرام وواتساب، وتم تعليق أداة التحقق من المعلومات التي كانت قيد التطوير لمدة 6 أشهر، وإلغاء العقود مع المشرفين الخارجيين على المحتوى.

أما منصة إكس (تويتر سابقا) وفي ظل إدارة الملياردير إيلون ماسك، رفعت القيود بشكل مطرد، وقامت بإعادة تفعيل الحسابات التي كانت معلقة. كما أعلن موقع يوتيوب عزمه رفع الحظر المفروض على مقاطع الفيديو التي تقدم مزاعم كاذبة خلال انتخابات 2020 في الولايات المتحدة. وبحلول فبراير الماضي، خفضت شركة جوجل فريقها الذي يراقب المعلومات المضللة بمقدار الثلث.

  • جدوى الحلول البديلة

في ظل هذه التطورات، من الطبيعي التساؤل عما إذا كانت هناك حلول بديلة، وأولها هل يمكن للخوارزميات أن تقوم بوظائف البشر، وتتولى الإشراف على المحتوى على نطاق واسع؟ لسوء الحظ يبدو أن الجواب “لا”، فوفقًا لدراسة أجرتها مجموعة عمل عبر الأطلسي في مركز أننبيرغ للسياسات العامة بجامعة بنسلفانيا، فإن الخوارزميات ليست موثوقة ولا فعالة في الإشراف على المحتوى في الوقت الحالي، لذلك لا غنى عن التدخل البشري.

أما التساؤل الثاني فيتمثل في أنه حتى مع وجود فرق أصغر للإشراف على المحتوى، هل يمكن إعادة نشرهم في الوقت المناسب على مناطق جغرافية مختلفة اعتمادًا على المكان الذي تزداد فيه الحاجة؟ وهنا نجد تحديات واضحة حيث إن القوى العاملة المعنية بإدارة المحتوى ليست قابلة للاستبدال عالميًا؛ فلكي تكون فعالة في منطقة جغرافية معينة، يجب تدريب الفريق على اللغات المحلية والعامية واللغة المشفرة والأعراف والسياقات.

ويتعلق التساؤل الثالث بإمكانية الوثوق في أن الشركات ستخصص موارد الإشراف على المحتوى الخاصة بها إلى الأماكن التي تكون فيها الاحتياجات أكبر، حيث تشير التجارب السابقة إلى عدم حدوث ذلك. فقد كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية نقلا عن وثائق داخلية من موقع فيسبوك أنه تم إنفاق 87% من وقت الإشراف على المحتوى خلال عام 2020 على منشورات من الولايات المتحدة، وصحيح كانت هناك انتخابات في الولايات المتحدة، لكن هذا العام شهد أيضًا انتخابات في بولندا وسريلانكا وتنزانيا من بين عشرات البلدان الأخرى، ويشير هذا إلى تخصيص غير متناسب بشكل كبير نظرًا لأن 90 % من مستخدمي فيسبوك هم من خارج الولايات المتحدة.

وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن مفارقة تنظيم الذكاء الاصطناعي والمعلومات المضللة تتلخص في أن الرغبة في تنظيم المحتوى في جزء واحد من العالم تؤدي إلى تقليل اعتدال المحتوى في أماكن أخرى.

لكن يمكن أن يكون هناك حل يتمثل في قيام المشرعين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتمرير قوانين لتنظيم ليس فقط محتوى منصات التواصل الاجتماعي، ولكن أيضًا الاستثمارات التي تقوم بها المنصات في الإشراف على المحتوى وكيفية نشر هذه الموارد في جميع أنحاء العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى