الدراسات الإعلامية

اتجاهات النخبة الإعلامية نحو معالجة القنوات الإخبارية الدولية الموجهة للقضايا العربية

وضعت التطورات في مجال تكنولوجيا الاتصال المواطن العربي أمام فضاء إخباري شديد الاتساع والمنافسة في عالم خاص تحكمه ضوابط مرتبطة بالعلاقات الدولية والرغبة في الهيمنة الاقتصادية والعسكرية واستخدام إمكانيات هذا الفضاء الإخباري لتحقيق هذه الهيمنة، وذلك باستخدام قنوات إخبارية دولية تملكها هذه القوى السياسية الأجنبية، ولكنها لا تخاطبه بلغاتها الأصلية وإنما بلغته العربية التي يفهمها ويألفها لعرض ومناقشة قضاياه العربية، ولذلك يمكن أن يتأثر الجمهور بما يتعرض له من مضامين إعلامية أجنبية قد تشكل محددات تتحكم في معارفه واتجاهاته وسلوكياته نحو القضايا العربية.

وفي هذا الإطار، نشرت مجلة البحوث والدراسات الإعلامية في عددها الصادر في يونيو 2023 دراسة بعنوان “اتجاهات النخبة الإعلامية نحو معالجة القنوات الإخبارية الدولية الموجهة لقضايا الدول العربية” من إعداد الباحثة رانا إيهاب المدرس المساعد بقسم الإذاعة والتلفزيون بالمعهد الدولي العالي للإعلام، والتي نستعرضها على النحو التالي:

  • مجتمع وعينة الدراسة

يتمثل مجتمع الدراسة في النخبة المصرية الأكاديمية والإعلامية من خلال عينة متاحة من مجتمع الخبراء قوامها 20 مفردة من الأكاديميين بالجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، وكبار المذيعين والمخرجين، وقد سعت الدراسة إلى رصد اتجاهات الصفوة نحو الأطر التي تقدم القنوات الإخبارية الدولية الموجهة من خلالها قضايا الدول العربية، وبالتالي معرفة كيف يتأثر الجمهور العام بهذه الأُطر ودرجة تبنيه لها من وجهة نظر النخبة، إذ تقابل الثقافة الجماهيرية ثقافة النخبة، وغالبًا ما تتسم ثقافة النخبة بالوعي كونها أكثر انفتاحًا على مصادر المعلومات والمعرفة، بينما تكون الجماهير أميل للثقافة الاستهلاكية.   

  • نتائج الدراسة

أظهرت الدراسة تنوع مدى تعرض عينة الدراسة من النخبة الإعلامية – الأكاديمية والممارسة للعمل الإعلامي – للقنوات الإخبارية الدولية الموجهة ما بين التعرض المتوسط إلى التعرض الدائم والمنتظم، وتنوعت أسباب التعرض وإن غلب عليها في المقام الأول سبب طبيعة عملهم الإعلامي والتي تفرض عليهم متابعة الأحداث بشكل دائم.

واتفقت أغلب العينة أنهم يعتمدون على القنوات الإخبارية الدولية الموجهة كمصدر للمعلومات عن القضايا العربية، وتباينت درجة هذا الاعتماد ما بين الاعتماد النسبي والاعتماد الكلي، كما تنوعت أسباب درجة الاعتماد لكل فئة منهم، فأما عن الاعتماد النسبي فيتفق مجموعة من الخبراء أن متابعة تلك القنوات أسهل من حيث معرفة الأخبار العاجلة وتصريحات المسؤولين، لكن لا بد من التحقق من مصداقية المعلومة نفسها، فقد تذيع بعض القنوات الدولية الخارجية رأيها في القضايا العربية من منظورها وبما يحقق صالحها وصالح بلدانها بالدرجة الأولى، وبما تريد أن تصدره عن هذه القضايا للمجتمعات والشعوب العربية، ومنهم من يرى أن القنوات الموجهة ليست دائماً المصدر الأول للمعلومات، ولكن بداية التعرف على خيوط المواضيع من خلالها وننتظر لحين وجود إعلان رسمي من الجهات الحكومية أو وجود تضارب مع قنوات أخرى لتكتمل حقيقة التفاصيل.

أما عن أسباب الاعتماد الكلي، يتفق مجموعة من الخبراء أن القنوات الموجهة تتمتع بمصداقية في تغطيتها الإخبارية والتزامها بالمعايير، ويعتمدون عليها بشكل كلي لعدم وجود بديل محلي، وبالنسبة للقضايا العامة العربية والعالمية تكون تلك القنوات محل اهتمام بالنسبة لهم نظرًا لعرضها الأخبار بشكل مفصل وبأسرع وقت مما يجعلها تنفرد بالأخبار الأولية أولًا بأول.

أما عن القنوات الإخبارية الدولية الموجهة الأكثر تفضيلًا بالنسبة لعينة الدراسة، فقد احتلت قناة سكاي نيوز عربية مركز الصدارة، وتنوعت الأسباب ما بين تقديم محتوى مميز، وتغطية شاملة لأخبار المنطقة والعالم بشمولية وحيادية، وكذلك لتمتعها بدرجة عالية من المصداقية والتغطية الشاملة والسريعة للأحداث بدقة وموضوعية، فضلا عن تفوقها في الجذب البصري.

وجاء المركز الثاني مناصفة بين قناة “فرانس 24” التي تعرض وجهة النظر الغربية ولكن بثقافة فرنسية، وبين قناة “بي بي سي عربي” لخبرتها الكبيرة كمؤسسة إخبارية تلتزم الموضوعية، وعرض وجهات النظر المختلفة وتحليل الأحداث.

أما عن المركز الثالث، فقد تقاسمته كل من قناتي “روسيا اليوم” و”الحرة” الممثلتين لطرفين متنازعين هما روسيا والولايات المتحدة، وجاءت أسباب التعرض لكل منهما كالتالي: بالنسبة لقناة “روسيا اليوم” يرى الخبراء أن فكر القناة مغاير للفكر الغربي والأمريكي الذي يكون غالبًا موجه ضد القضايا العربية بشكل أو بآخر، أما قناة “الحرة” فيعي أفراد العينة جيدًا أنها تابعة للإدارة الأمريكية، وتتبنى أجندتها في معالجة قضايا الشرق الأوسط. وتفضل عينة الدراسة التعرض لقنوات ذات مرجعية أيديولوجية مختلفة، وذلك بهدف الوصول لمعلومات متنوعة وتغطية شاملة.

كما أظهرت نتائج الدراسة تباين استجابة العينة بشأن التزام القنوات الإخبارية الدولية الموجهة بمعايير المهنية كالحياد والدقة والموضوعية في معالجتها لقضايا الدول العربية، ففريق يرى أن القنوات الموجهة تحاول الالتزام بالحياد قدر الإمكان وأنه يوجد التزام بالمعايير المهنية إلى حد كبير، وذلك في تحري الدقة وموضوعية العرض مما يجعلها من القنوات الأكثر مشاهدة ومتابعة للشعوب العربية خاصة النخبة وقاعدة المثقفين، لكنّ فريقا آخر يجد أنها تحاول أن تبدو مهنية، ولكنها في النهاية قنوات موجهة تخدم سياسة الدولة الممولة لها.

ويرى فريق ثالث أن كلمة الحياد ليست واقعية من الأساس، ويتمثل مقياس تقييم مدى موضوعية القناة الإخبارية في عرض أكثر من خبر يتعلق بنفس الحدث أو عرض أكثر من تغطية لنفس الحدث بالصوت والصورة أو إجراء مقابلات مع النخبة أو الخبراء في مجال تفسير ما وراء الحدث مما يتيح الرأي والرأي الآخر.

أما عن درجة ثقة المبحوثين في معالجة القنوات الإخبارية الدولية الموجهة لقضايا الدول العربية، نالت قناة سكاي نيوز عربية درجة عالية من قبل العينة، وبدرجة متوسطة “قناة فرانس 24” والتي ترى العينة أنها عبارة عن أداة لمحاولة تحسين صورة فرنسا وبث ما تراه الدولة الفرنسية من سياسات دولية تجاه قضايا بعينها تتعلق بمصالحها فقط، بينما تراجعت الثقة في كل من قناة الحرة وروسيا اليوم.

وأكدت العينة أنه لا توجد ثقة بنسبة 100%، وأنه يتم الاعتماد على أكثر من وسيلة إعلامية للتأكد من صحة الخبر وعدم الاكتفاء بمصدر واحد، وأن درجات الثقة تختلف من قناة لأخرى حسب الموضوع والقضية المطروحة على الرأي العام ووفق القناة التي تبث الخبر ومدى حرصها على مصالح الدول العربية من عدمه.

وحول مدى تأثير الأطر التي تنقل من خلالها القنوات الإخبارية الدولية الموجهة القضايا العربية على الأطر التي يتبناها الجمهور العام تجاه القضايا ذاتها، اتفقت أغلب عينة الدراسة أن هناك تأثيرًا يحدث على إدراك الجمهور للقضايا العربية وفقًا لما يعرض على شاشات القنوات الموجهة، إذ تفرض هذه القنوات نفسها وأجندتها على طبيعة إدراك الجمهور للقضايا، وأن الجمهور قد يتجاوب ويصدق مضمون ما جاءت به المعالجة الإعلامية لقضايانا العربية.

ولكن هذا التأثير قد يختلف باختلاف المتغيرات الديموغرافية للجمهور كالمستوى التعليمي والمرحلة العمرية، فكلما زادت درجة الوعي لدى الجمهور وازداد الاطلاع على عدة قنوات استطاع تشكيل وجهة نظر خاصة به، وبالتالي فإن المشروع الثقافي التنويري هو الحل لمواجهة تلك التوجهات ذات التأثير السلبي.

أما عن مستقبل القنوات الموجهة، فترى عينة الدراسة أن مستقبل القنوات الموجهة مرهون بمدى قدرتها على التكيف مع المتغيرات التكنولوجية والرقمية التي يشهدها العالم، ولا بد من توظيف التكنولوجيا الحديثة والوصول للمشاهد من خلال الأجهزة الذكية وخلق أساليب تجذب الجمهور وتقنعه بأهميتها، وأوضح الخبراء أن القنوات الموجهة في تزايد مستمر وهذه علامة استقرار وتطور في ظل العصر الرقمي، ويعتقدون أيضًا أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستسهم بشكل كبير في سهولة وصول أيديولوجيات هذه القنوات لجمهورها المستهدف بشكل أكثر دقة وجاذبية وسرعة.

  • توصيات الدراسة

خلصت الدراسة إلى تقديم ثلاث توصيات جاءت على النحو التالي:

  • ضرورة وجود إعلام عربي قوي موجه للدول الأجنبية يخاطبهم بلغتهم وينشر الهوية والثقافة العربية الصحيحة بوجهة نظر عربية أصيلة.
  • إجراء دراسات بشكل مستمر لرصد تأثير القنوات الموجهة على المواطن العربي نحو قضاياه العربية، ومعالجة أي مفاهيم مغلوطة تحاول هذه القنوات زرعها داخل عقله ووجدانه.
  • نشر الوعي لدى الجمهور وتثقيفه إعلامياً كي لا يقع ضحية لأي معلومة مغلوطة تحاول زعزعة استقراره وأمنه الداخلي.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن تثقيف الجمهور إعلاميًا أصبح مسألة ملحة في ظل ما يواجهه من تأثيرات متعددة منها القنوات الدولية الموجهة وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك حتى لا يكون فريسة سهلة لمنافذ إعلامية تتلاعب بالألفاظ والصور والأحداث لخدمة مصالح الجهات الممولة لها.

زر الذهاب إلى الأعلى