تقدير موقف

مستقبل حلف الناتو في ضوء قمة فيلنيوس

على مدى يومي الحادي عشر والثاني عشر من يوليو الجاري، اجتمع قادة دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، القريبة من الحدود الروسية، لبحث العديد من الملفات المصيرية في مسيرة التحالف العسكري الغربي، على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية وطلب كييف الانضمام للحلف، وإزالة العوائق أمام عضوية السويد، وإقرار زيادة في حجم الإنفاق الدفاعي.

وبطبيعة الحال لم تكن تلك الملفات محل توافق سهل بين قادة الدول الـ31 الأعضاء في الحلف، فالقضية الأبرز المتعلقة بطلب انضمام أوكرانيا كانت موضع خلاف واضح بين عدد كبير من دول أوروبا الشرقية ودول الشمال، وبعض دول أوروبا الغربية التي أرادت تسريع عضوية أوكرانيا، والولايات المتحدة وألمانيا اللتين تتبنيان نهجًا حذرًا إزاء تلك المسألة.

وقد انعكس ذلك على تناول البيان الختامي للقمة لتلك المسألة، حيث تبنّى صيغة تُمسك بالعصا من المنتصف، إذ أكد أن الحلف سيدعم أوكرانيا في إجراء إصلاحات في طريقها نحو العضوية في المستقبل، ويوجه دعوة إليها للانضمام إلى الحلف عندما يوافق الحلفاء ويتم استيفاء الشروط، أي أنه أبدى انفتاحًا على المسألة دون تحديد جدول زمني لعملية الانضمام، وهو عمليًّا نص مشابه إلى حد كبير للغة المستخدمة في قمة الناتو ببوخارست عام 2008 التي أشارت إلى أن أوكرانيا ستكون عضوًا في النهاية، الأمر الذي يراه مراقبون مخيّبًا للآمال الأوكرانية.

  • مواءمات وتوافقات

وفي سبيل المواءمة وتجاوز الخلافات، اتخذ الحلف خطوات يمكن وصفها بـ”الرمزية” تمثلت في إعفاء كييف من خطة العمل كشرط لمتطلبات العضوية، والإعلان عن “مجلس الناتو-أوكرانيا” كإطار مؤسسي لتعزيز العلاقة بين الجانبين، وإن كان مجرد ترقية للجنة الناتو وأوكرانيا التي تم تشكيلها منذ عام 1997 وفقا لصيغة تم التعارف عليها بـ”أعضاء الناتو+1″.

لكن اللافت أن قمة فيلنيوس كانت تاريخية على صعيد ملف توسيع الحلف، فهي أول قمة تشارك فيها فنلندا بعدما أصبحت العضو الـ31، فضلًا عن التوصل أخيرًا لاتفاق مع تركيا على قبول عضوية السويد في الحلف بعد شهور من الاعتراضات، إذ تحققت تلك الخطوة بعد تلبية استوكهولم لمطالب أنقرة ضد مجموعات تصنفها بـ”الإرهابية” (من مؤيدي حزب العمال الكردستاني وأنصار حركة الخدمة لفتح الله جولن) مقيمة في السويد، فضلًا عن إعلان واشنطن عن انفراجة واضحة في صفقة مقاتلات “إف-16”.  وبنظرة استراتيجية على الخارطة الجيوسياسية يمكن القول بأن انضمام فنلندا والسويد يعزز بشكل كبير أمن الجناح الشمالي للناتو.

  • إعلانات منفردة لدعم كييف

كانت الإعلانات المنفردة عن حزم الدعم لأوكرانيا مسألة لافتة في تلك القمة، ففي حين أشارت الفقرة الـ12 من البيان الختامي إلى أن الحلفاء في القمة وافقوا على “حزمة كبيرة من الدعم السياسي والعملي الموسع” لأوكرانيا، لم يقدم البيان تفاصيل حول ذلك الدعم تاركًا الأمر للحلفاء بشكل منفصل، إذ أعلنت في هذا الإطار فرنسا عزمها تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى من طراز “سكالب”، أما بريطانيا فقررت إمداد القوات الأوكرانية بأكثر من 70 مركبة قتالية ولوجيستية وآلاف القذائف لدبابات “تشالنجر 2” و65 مليون دولار لإصلاح المعدات العسكرية.

كما تعهّدت مجموعة الدول السبع الصناعية التي تضم (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان) بتقديم دعم عسكري “طويل الأمد” لأوكرانيا يشمل توفير معدات عسكرية متطورة وحديثة والتدريب وتبادل معلومات المخابرات والدفاع الإلكتروني، إذ أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن مجموعة السبع ستساعد أوكرانيا على بناء جيش قويّ يمتلك قدرات دفاعية في البر والبحر والجو.

  • اهتمام متزايد بمنطقة المحيط الهادئ

في الوقت الذي عكس فيه البيان الختامي تركيزًا كبيرًا على الحرب في أوكرانيا واعتباره روسيا أكبر تهديد مباشر لأمن الدول الأعضاء في الناتو وعلى السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية، فإنه يؤكد أيضًا على قوة الحلف المتجددة والاهتمام المتزايد بالصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ اعتبر أن الصين تتحدى بشكل متزايد النظام الدولي القائم على القواعد، حيث ترفض إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتدعم إيران، وترفع من مستوى قدراتها العسكرية بشكل كبير وهو ما رفضته بكين، حيث دعت في بيان رسمي واشنطن وحلفاءها لوقف الاتهامات غير المبررة والتصريحات الاستفزازية.

إن هذا الاهتمام بالصين في البيان يعد امتدادًا للصيغة الواردة في المفهوم الاستراتيجي العام الماضي بشأن تهديد الصين “لمصالح وأمن وقيم الناتو”، عبر عمليات هجينة وسيبرانية خبيثة تتضمن معلومات مضللة والجهود المبذولة للسيطرة على قطاعات التكنولوجيا الرئيسية والمعادن المهمة وسلاسل التوريد.

ومن المؤشرات الدالة على اهتمام الحلف بمنطقتي المحيطين الهندي والهادئ، حضور قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا لقمة فيلنيوس، لكن كان من اللافت عدم وجود أي إشارة لمقترح تردد قبيل القمة لافتتاح مكتب لحلف الناتو في اليابان، وهو على الأرجح يعكس رغبة الحلف في عدم تشتيت جهوده حاليا بخوض صراعات على أكثر من جبهة، مكتفيًا بتركيز كل جهده على أوكرانيا، والتي ستكون النتيجة النهائية فيها مؤثرة  بشكل غير مباشر على الوضع في المحيط الهادئ والتوترات في تايوان، وهو ما تدعمه تصريحات مؤخرًا للأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ اعتبر فيها أن “الصين تراقب لترى الثمن الذي تدفعه روسيا، أو المكافأة التي تتلقاها، مقابل عدوانها على أوكرانيا”.

  • مستقبل حلف الناتو

لقد كان الناتو حجر الزاوية للأمن في أوروبا – والسياسة الخارجية للولايات المتحدة – منذ تأسيسه عام 1945، وعلى مدى العقود المتتالية تغيرت التهديدات التي تواجه أعضاء التحالف العسكري الغربي بشكل كبير، واتسم الحلف بمرونة كبيرة في التعامل مع تلك التحديات عبر وثيقة “المفهوم الاستراتيجي”. ويمكن القول بأن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير من العام الماضي كان بمثابة جرس إنذار في عواصم الدول الأعضاء بأن المستقبل لا يخلو من الحروب التقليدية، وذلك بعد فترة طويلة ركز فيها الحلف على تحديات مثل الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والقرصنة والهجمات الإلكترونية وتعطيل إمدادات الطاقة، مستبعدًا سيناريو عودة الحروب التقليدية.

ومما لا شك فيه أن ما يحدث في أوكرانيا حاليًا سيكون له تأثير كبير على رسم المسارات المستقبلية لحركة الحلف على خارطة السياسة العالمية وكذلك للتفاعلات الداخلية بين الدول الأعضاء فيه، ولهيكل بناء قوته، إذ استنزفت الحرب الدائرة مخزونًا ضخمًا من ذخائر واشنطن وحلفائها، الأمر الذي يحتم وضع خطط على الصعيد الوطني لتعزيز القدرات العسكرية لا سيما القوة البرية في أوروبا بعد تراجع كبير لها، والتوسع في الصناعات الدفاعية.

كما أن المسار التوسعي الحالي للحلف وضمه مزيدًا من الأعضاء كفنلندا بقوتها البرية ذات القدرات الكبيرة والسويد بإمكانياتها البحرية القوية، وكذلك زيادة الإنفاق الدفاعي ليمثل 2 % من الناتج المحلي الإجمالي سيكون له على الأرجح تأثير في توازن القوى داخل الناتو الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دورًا رئيسيًا بحكم تحملها العبء الأكبر لنفقاته، وكذلك تركيا التي تمتلك ثاني أكبر جيش في الناتو بعد الجيش الأمريكي.

وختامًا، يمكن القول بأن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل الاختبار الأصعب لحلف الناتو منذ تأسيسه، وسط تمسك طرفي الحرب – روسيا من جهة وأوكرانيا والحلفاء من جهة أخرى- بانتهاج سياسة تراهن على استنزاف القوة، ليصبح النصر للأكثر قدرة على الصمود

زر الذهاب إلى الأعلى