لم يعد إنتاج وتوزيع وتصميم المحتوى الإعلامي في ظل التطور الرقمي قاصرًا على وسائل الإعلام فقط، وإنما أصبح ممكنًا للقائمين على المنصات الرقمية وكذلك الجمهور المستهلك. وقد أجبرت المفاهيم الجديدة التي ظهرت وصاحبت التطور الرقمي للوسائل الإعلامية المنتجين وصناع المحتوى الإعلامي على تعديل وتطوير الأعمال المنتجة لتتوافق مع احتياجات الجمهور ورغباته وتتناسب مع التوسع الهائل في تكنولوجيا صناعة وإنتاج المحتوى الدرامي.
وهنا تبرز المتغيـرات السـريعة والدراميـة فـي صناعـة الترفيـه التلفزيونـي وخدمـات الفيديـو، وظهور مـا يعـرف بخدمـات البـث المباشـر، فيوجد الآن عـدد مـن النمـاذج التجاريـة المختلفـة التـي تنطبـق علـى تلك الخدمـات، منها خدمـة الفيديـو حسـب الطلـب (VOD) وهـي الخدمـة التـي تتيـح للمسـتهلك أيـن ومتـى يشـاهد المحتـوى الـذي يرغـب فـي مشـاهدته، وهـذه الخدمـة تختلـف عـن الخدمـة الخطيـة التـي يقدمهــا التلفزيــون العــادي. وبهــذا فــإن خدمــة الفيديــو حســب الطلــب تجمـع بيـن خاصيتـي مشـاهدة محتـوى معيـن لا يشـاهده الآخـر بالضـرورة، وبيـن خـواص الفيديـو المقـدم “online”.
وفي هذا الإطار، نشرت المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال دراسة بعنوان “تأثير خدمات المشاهدة حسب الطلب (VOD) على صناعة الدراما التلفزيونية في إطار مفهوم الاندماج الرقمي Media Convergence” للدكتورة أماني رضا عبد المقصود الأستاذ المساعد في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، حيث ترصد كيف أثر الاندماج الإعلامي في تغيير العلاقة بين مختلف العناصر المكونة لصناعة المسلسلات الدرامية، نستعرضها على النحو التالي:
- عينة الدراسة
شملت عينة الدراسة 22 خبيرا من المتخصصين في مجال الإنتاج الدرامي، والقائمين على إدارة المحتوى في منصات الفيديو حسب الطلب العربية، حيث يشمل التأثير الذي فرضته هذه المنصات على إنتاج المسلسلات عدة مستويات منها: (القصة والحوار للعمل الدرامي، تكنيكات التصوير والإخراج، شكل الإنتاج والتوزيع).
- نتائج الدراسة
اتفــق الخبــراء عينة الدراسة علــى تمتــع الدرامــا المقدمــة عبــر منصــات المشــاهدة حســب الطلــب بعــدد مــن المميــزات، منهــا قِصــر عــدد الحلقــات والاعتمــاد علــى المواســم المتعــددة فــي حالــة نجــاح العمــل، إلــى جانـب الخـروج مـن حيـز المسلسلات الطويلـة ذات الثلاثيـن أو السـتين حلقـة، بالإضافـة إلـى الاهتمـام بالتفاعليـة التـي فرضهـا نمـط الدرامـا المقدمـة مـع وجود سـوق الإنتـاج الدرامـي علـى مـدار العـام، وعـدم اقتصـاره علـى موسـم رمضـان فقـط.
كما اتفـق عـدد مـن الخبـراء علـى أن العيـب الأساسـي لمنصـات المشـاهدة حسـب الطلـب يكمـن فـي اقتصارهـا علـى جمهـور نوعـي محـدد مـن حيـث الإمكانيـات الاقتصاديـة ومسـتوى التعليـم والقـدرة علـى التعامـل مـع التكنولوجيـا المسـتحدثة.
وأجمع الخبـراء علـى اعتبـار منصـات الفيديـو حسـب الطلـب خطـرًا يهدد التلفزيون التقليدي ويُقلل شريحة المشـاهدين لـه؛ نظـرًا للإمكانيـات التـي تتيحهـا هـذه المنصـات مـن تحكـم الجمهور فـي تجربـة المشـاهدة بشـكل كامـل مـع عـدم وجـود فواصـل إعلانيـة.
بالإضافة إلى ذلك، خلص الخبــراء عينة الدراسة إلى أن منصــات الفيديــو حســب الطلــب أعطــت لصنــاع الدرامــا المقدمــة عبــر هــذه المنصـات جـرأة أكبـر فـي السـرد وطـرح الموضوعـات المختلفـة، إذ إن هـذه المنصـات تقـدم بعـض الأفـكار التي تعد خطوطا حمراء بالنسـبة للتلفزيـون.
كما رأوا أن الدرامـا المقدمـة عبـر منصـات الفيديـو حسـب الطلـب فرضـت نمطـًا جديدًا مـن الدرامـا المنتجـة علـى مسـتوى الأفـكار والتنفيـذ، وتكنيـكات التصويـر والإخـراج، إذ فرضـت إيقـاعاً أسـرع على مسـتوى المونتـاج ليتلاءـم مـع قلـة عـدد الحلقـات وقصـر زمـن الحلقـة، وأيضـا ليتلاءم مع طبيعة المشاهد لهذه المنصات حتى يجذب العمل اهتمامه.
كما لفت الخبـراء إلى تغيـر عـادات المشـاهدة الدراميـة لـدى مشـتركي خدمـات الفيديـو حسـب الطلـب، إذ أصبحـت صلاحيـات المشـاهد أكثـر مـن ذي قبـل، بالإضافـة إلـى نجـاح هـذه المنصـات فـي عمـل جمهـور موال لبعـض الأعمـال الدراميـة التي تسـتمر لمواسـم متعـددة علـى مـدار عـدد مـن السـنوات، كمـا ارتبطـت هـذه المنصـات بظهـور مصطلـح المشـاهدة الشـرهة، التـي تعني مشـاهدة أكثـر مـن حلقـة فـي جلسـة واحـدة نظـرا لطبيعة هذه المنصات.
في المقابل، اختلفــت آراء الخبــراء فيمــا يتعلــق بتأثيــر الدرامــا المنتجــة خصيصــًا لمنصات الفيديو حسب الطلب علـى مشـاهدة الدرامـا التلفزيونيـة التقليديـة، إذ رأى بعـض الخبـراء أن هـذه المنصـات تعـد مكمـلًا للتلفزيــون التقليــدي، حيــث تزيــد هــذه المنصــات مــن منافــذ العــرض الدرامــي وخاصــة عنــد تقديــم ذات المحتـوى الدرامـي المقـدم عبـر التلفزيـون. فيمـا رأى بعـض الخبـراء أن هـذه المنصـات تعـد منافسًـا قويًا للدراما التلفزيونية، إذ إنها بجانب المميـزات التفاعليـة التـي تتمتـع بهـا، أغنـت المشـاهدين عـن التعـرض للتلفزيون التقليدي أو على الأقل قللت من مشاهدة التلفزيون التقليدي، فيمـا رأى بعـض الخبـراء أن التلفزيون لا يزال ينفرد بتغطية الأحداث على الهواء مباشرة، فيما يتعلق بالمضمون الإخباري الذي لا ترتكز عليه هذه المنصات.
وتوقـع الخبـراء اسـتمرار الانفتـاح فـي مسلسـلات المنصـات وزيـادة عـدد المسلسـلات ذات الإنتـاج الأصلي عبـر هـذه المنصـات، كمـا توقعـوا تطـور المضاميـن الدراميـة المقدمـة وطريقـة تنفيذها.
وتوقعوا أيضًا توجه المعلنين مستقبلًا للإعلان عبر منصات المشاهدة حسب الطلب تزامنًا مع توقع تراجع التلفزيون كمنصة لعرض الإنتاج الدرامي، وهـو مـا قـد يهـدد المنصـات الرقميـة مسـتقبلًا إذا اتجهـت لعـرض الإعلانـات كمـا فـي التلفزيـون حاليًـا.
- توصيات الدراسة
أوصت الدراسة بضرورة تنبـه القائميـن علـى الدرامـا بطبيعـة التغيـرات التـي طـرأت علـى أذواق الجمهـور، ومراعـاة مـا فرضتـه المنصـات الرقميـة مـن معاييـر كالإبهـار البصري في الدرامـا المقدمـة والتركيز علـى جـودة الطـرح والأفـكار.
بالإضافة إلى ضـرورة أن يواكـب المحتـوى التلفزيونـي التطـورات التقنيـة المتسـارعة وأن يراعـي جـودة الأعمـال المقدمـة مـن خلالـه حتـى لا ينصـرف المتابعـون عـن مشـاهدته خاصـة فـي ظـل المنافسـة الشـديدة مـن المنصـات الرقميـة العربيـة والأجنبيـة، وليحقـق سـمات مفهـوم الاندمـاج والتكامـل الإعلامـي فـي المضمـون المقدم.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن التطور التكنولوجي أدى لتغييرات جوهرية في معادلة الإنتاج الدرامي وعلاقة الجمهور بوسائل الإعلام التقليدية وفي مقدمتها التلفاز، حيث ساهم هذا التطور المتسارع في ظهور أنماط جديدة من الإنتاج الدرامي تواكب التغيــر الكبير في ســمات الجمهـور المسـتهدف وتغيـر عـادات المشـاهدة عبر المنصـات الرقميـة.