في الرابع من فبراير الجاري، أسقطت طائرة مقاتلة أمريكية منطادا صينيا فوق مياه المحيط الأطلسي، بعد يومين من إعلان واشنطن عن رصد منطاد يحلق فوق الأراضي الأمريكية وتحديدًا فوق ولاية مونتانا الواقعة شمال غرب الولايات المتحدة، والتي تضم قاعدة مالمستروم الجوية، وهي واحدة من ثلاث قواعد للقوات الجوية التي تشغل وتحافظ على صواريخ باليستية عابرة للقارات.
وفي مواجهة الاتهامات الأمريكية بأن المنطاد هدفه التجسس، ردت الصين بأنه منطاد مدني يستخدم لأغراض أبحاث المناخ، وأن دخوله للأجواء الأمريكية جاء نتيجة لقوة قاهرة، وقد جاء تفجر تلك الأزمة ليقضي على جهود إذابة الجليد في العلاقات بين البلدين، حيث أدى إلى إلغاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارة مهمة لبكين يلتقي فيها الرئيس الصيني شي جين بينغ، وكانت ستعد أول زيارة لوزير خارجية أمريكي إلى الصين منذ عام 2018.
- استخدام المناطيد في التجسس
كانت المناطيد أداة مهمة لجمع المعلومات الاستخباراتية في القرن التاسع عشر أي في عصر الحروب النابليونية، واستمرت على هذا النحو قرابة 200 عام حتى زمن الحرب الباردة، لكن التطور التكنولوجي أدى لتراجع استخدامها بشكل كبير.
وقد استعانت الولايات المتحدة بمناطيد عالية الارتفاع في خمسينيات القرن الماضي للتجسس على الاتحاد السوفيتي، وكان السوفييت يقومون بإسقاطها عبر إطلاق النيران صوبها، وقد تم استبدال المناطيد بواسطة طائرة الاستطلاع من طراز”U-2″ على ارتفاعات عالية لكن كان يتم أيضًا إسقاطها، ثم جاء استخدام أقمار كورونا للمراقبة التصويرية والتجسس، وهي الأولى لأجيال عديدة من أقمار التجسس التي تستخدمها الكثير من الدول اليوم.
وتثير مسيرة تطور أساليب التجسس تساؤلات حول السبب في العودة لاستخدام المناطيد مرة أخرى، وهنا يرى مراقبون أنه ثمة عوامل متعددة وراء العودة لاستخدامها، منها إمكانية تزويدها بشرائح إلكترونية لنقل البيانات، وسهولة إطلاق المناطيد، وانخفاض تكلفتها مقارنة بالأقمار الصناعية، وفقا لشبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية.
في المقابل، يرى فريق آخر أن المناطيد ليست أداة مثالية للتجسس فهي كبيرة ويصعب إخفاؤها، وتنجرف حيث تأخذها الرياح، وغير قابلة للتوجيه، لذا فإنها خيار غريب للصين كبلد متقدم تقنيًا، فلدى بكين أقمار تجسس صناعية تحلق فوق الولايات المتحدة يوميًا، وتلتقط الصور وتجمع إشارات الراديو وبيانات أخرى.
وقد تحسنت قدرات الصين في جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الفضاء على مدار العشرين عامًا الماضية، كما أطلقت أربعة أقمار صناعية حديثة للتجسس العام الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن الصين لم تقدم على استخدام مناطيد للتجسس من قبل، وهو ما يعزز من الرواية الصينية الرسمية حول الحادث بأنه منطاد طقس خاطئ ضل طريقه.
- معدات البحث في مرمى اتهامات التجسس
وبحسب الرواية الرسمية الأمريكية، فإن المنطاد دخل المجال الجوي الأمريكي أول مرة في 28 يناير فوق ألاسكا، قبل أن يدخل كندا في 30 من الشهر نفسه ثم يعود إلى المجال الجوي الأمريكي على مستوى ولاية إيداهو شمال غرب الولايات المتحدة في 31 يناير، لكن المواطنين الأمريكيين لم يرصدوا المنطاد إلا عندما حلق فوق ولاية مونتانا في 2 فبراير الجاري، حيث توجد بتلك الولاية قواعد عسكرية حساسة ومستودعات صواريخ نووية تحت الأرض، قبل أن يتحرك تدريجيًا باتجاه شرق البلاد.
وقد أعطى الرئيس الأمريكي جو بايدن الأمر في 1 فبراير الجاري بإسقاط المنطاد “في أقرب وقت ممكن”، لكن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أرادت الانتظار حتى يكون في المكان الأكثر أمانًا للقيام بذلك لتجنب أي ضرر ممكن جراء سقوط حطامه فوق المدنيين، ولم تتوافر تلك الظروف سوى بعد 8 أيام من رصد المنطاد لأول مرة، حيث أسقطت طائرة مقاتلة من طراز “إف-22” المنطاد في المجال الجوي فوق ساحل كارولاينا الجنوبية، في خطوة نددت بها وزارة الخارجية الصينية متهمة واشنطن بالمبالغة في رد الفعل وبانتهاك الممارسات الدولية بشكل خطير لا سيما وأن المنطاد مدني لأغراض بحثية، مؤكدة احتفاظها بحق اتخاذ مزيد من الردود الضرورية، دون توضيح ماهية تلك الردود.
وتجدر الإشارة هنا إلى التداخل المتنامي بين استخدام المعدات للأغراض البحثية والاشتباه في التجسس، فعلى سبيل المثال احتجزت البحرية الصينية طائرة شراعية أمريكية تحت الماء نشرتها سفينة “أبحاث أوقيانوغرافية” (تختص بدراسة المحيطات) قبالة الفلبين في ديسمبر 2016، قبل أن تعيدها لاحقًا إلى سفينة حربية أمريكية.
- مدى التغير في الاستراتيجية النووية الصينية
وبينما تتركز جهود الجيش الأمريكي حاليًا في انتشال حطام المنطاد، حيث وضعت البحرية الأمريكية وخفر السواحل على أهبة الاستعداد للمساعدة في تلك الجهود قبيل إسقاطه، يرى مسؤولو الدفاع الأمريكيون أن المنطاد أعطى بكين القدرة على رسم خريطة أفضل لمخازن الصواريخ الباليستية الأمريكية العابرة للقارات من أجل الاستهداف المستقبلي، مما يشير إلى تحول في الاستراتيجية النووية الصينية للتخطيط لاستهداف الأسلحة النووية الأمريكية قبل استخدامها.
ويذهب مراقبون إلى أن تسيير الصين للمنطاد يحمل رسالة سياسية ورداً على خطوات واشنطن المتزايدة في المجال الحيوي لبكين، وتحديدًا تعزيز وجودها العسكري في جنوب شرق آسيا عبر منح الفلبين الحق لواشنطن في استخدام المزيد من القواعد العسكرية على أراضيها.
وتعتبر العلاقات الأمريكية الصينية في الوقت الراهن علاقات مشحونة لوجود العديد من الخلافات بين البلدين حول ملف حقوق الإنسان، والممارسات التجارية الصينية، ودعم بكين الاقتصادي لروسيا، ومستقبل تايوان. لكن ما يبدو في المقدمة الآن هو المعركة المستمرة حول من سيقود تطوير التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وأشباه الموصلات؛ فالأنباء التي تفيد بأن واشنطن تعتزم فرض قيود جديدة على مبيعات التكنولوجيا الأمريكية إلى شركة هواوي الصينية العملاقة هي مجرد أحدث خطوة من بين العديد من الخطوات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمنع صعود الصين التكنولوجي، بما في ذلك إقناع هولندا واليابان مؤخرًا بحظر بيع الآلات اللازمة لصنع أشباه الموصلات إلى الصين.
- الآفاق المحتملة للتحركات الأمريكية
تتفاوت نظرة الخبراء إزاء المسار الواجب على دوائر صنع القرار الأمريكي أن تسلكه بعد أزمة المنطاد الصيني، ما بين دعوات لمواقف صارمة ووضع خطوط حمراء للجانب الصيني، وبين التوجه نحو تعزيز القدرات الدفاعية السيبرانية، واعتبار ما حدث سببا أدعى لفتح قنوات اتصال مع الصين لتقليص عمليات التجسس.
ويرى ماثيو كرونيغ، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأستاذ الأمن القومي بجامعة جورجتاون، أن على الولايات المتحدة جعل الحزب الشيوعي الصيني يدفع ثمن ما حدث، معتبرا أن إلغاء زيارة بلينكن خطوة أولى مفيدة.
ويؤكد رون إيير، وهو زميل أول غير مقيم بمركز سكوكروفت للاستراتيجيات والأمن، أيضًا على ضرورة اتخاذ واشنطن تحركات مناسبة وحازمة ضد هذه الإجراءات الصينية، وإلا ستتمادى بكين في هذا السلوك، داعيا لرفض أي تذرع من الجانب الصيني بمبادئ ينص عليها القانون الدولي مثل حق “المرور البريء- Innocent Passage ” (المنصوص عليه في اتفاقية شيكاغو للطيران المدني الدولي لعام 1944).
أما جيمس أندرو لويس، مدير برنامج التكنولوجيا والسياسة العامة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فيرى أن ما يثير القلق بشأن هذه الحادثة هو الميل إلى المبالغة في رد الفعل، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحسين قدرات الأمن السيبراني، والاستعانة بمزيد من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”، بل إنه يقترح الدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة الصينية بشأن الحاجة إلى تقليص عمليات التجسس، مستشهدا بلجوء إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لهذا الخيار في عام 2015.
في الختام.. يمكن القول بأن خطورة المنطاد الصيني ليست في قدراته الاستخباراتية ولكن في رمزية الحدث الذي يشكل صفعة للولايات المتحدة؛ ومن المؤكد أن واشنطن لن تكتفي بخطوة إسقاط المنطاد، بل ستلجأ إلى استخدام أدوات اقتصادية للرد على بكين كممارسة المزيد من التقييد على أنشطة شركات التكنولوجيا الصينية، لكن قنوات الاتصال ستظل مفتوحة بين البلدين في ظل حاجة الطرفين الماسة إلى حد أدنى من الحوار بشأن صراعات دولية مشتعلة كالحرب الأوكرانية والتوترات الأمريكية مع كوريا الشمالية، وبحث قضايا ثنائية في مقدمتها التجارة.