تقدير موقف

أزمة أوكرانيا بين شبح الحرب وأفق التسوية

شهدت الساعات القليلة الماضية تصاعدًا في وتيرة التوتر الدولي حول الأزمة الأوكرانية، على وقع تصريحات أمريكية من مستويات رسمية متعددة تشير إلى احتمالية حدوث غزو روسي للأراضي الأوكرانية خلال أيام، بل إن تقارير صحفية أمريكية أفادت بأن الرئيس جو بايدن أبلغ قادة غربيين بموعد انطلاق الهجوم الروسي، مشيرًا إلى أنه سيحدث يوم الأربعاء المقبل الموافق 16 فبراير الجاري، الأمر الذي اعتبرته موسكو حملة دعائية تشنها واشنطن وحلفاؤها وتهدف إلى الاستفزاز.
وفي ظل تلك الأجواء السياسية الساخنة رغم برودة الشتاء القارس في أوكرانيا، سارعت العديد من الدول الغربية والعربية إلى دعوة رعاياها إلى مغادرة كييف فورًا، وبدأت كل من الولايات المتحدة وروسيا تخفيض أطقمها الدبلوماسية. وبينما تستمر دبلوماسية “الاتصالات الهاتفية” بين أطراف الأزمة والوسطاء فيها لا سيما الاتصالات بين بايدن ونظرائه الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ما زالت الأزمة تراوح مكانها إن لم تكن تنزلق إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، مع تصاعد التراشق الدبلوماسي الأمريكي الروسي، وتلويح واشنطن بعقوبات صارمة على موسكو وبوتين شخصيًا حال غزو روسيا لأوكرانيا.
أسباب اشتعال الأزمة الراهنة حول أوكرانيا
تعد التوترات السياسية والعسكرية الراهنة حول أوكرانيا حلقة جديدة من الأزمة التي بدأت في عام 2014، عندما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا اشتعلت الأزمة مجددًا؟ والإجابة تعود إلى جملة من العوامل والتطورات السياسية داخل أوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا.
فبالنسبة لأوكرانيا، مع انتخاب زيلينسكي الممثل الكوميدي السابق، رئيسًا عام 2019، أبدى انفتاحًا على استئناف محادثات السلام لإنهاء الصراع في شرق أوكرانيا، بما في ذلك التواصل المباشر مع بوتين لتسوية النزاع، وأرادت موسكو من زيلينسكي حديث العهد بالسياسة تنفيذ اتفاقيتي مينسك لعامي 2014 و 2015، وهي صفقات من شأنها أن تعيد المناطق الموالية لروسيا إلى أوكرانيا، لكنها بمثابة “حصان طروادة” لموسكو لممارسة النفوذ والسيطرة في المنطقة، ولا يمكن لأي رئيس أوكراني قبولها، ولذلك لجأ زيلينسكي إلى الغرب طلبًا للمساعدة، وتحدث بصراحة عن رغبة كييف في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وترى روسيا “بوتين” أن تلك المسألة تشكل تجاوزًا لخط أحمر روسي يرفض وجود الناتو على الحدود الروسية، لذا تقدمت لوشنطن وحلف الناتو بورقة مقترحات بشأن “ضمانات أمنية”، حيث تقضي بتكثيف التنسيق لتفادي أي حوادث عسكرية خطيرة، والحد من نشر أسلحة استراتيجية مثل القاذفات الثقيلة والصواريخ متوسطة وقصيرة المدى في مناطق محددة، مع تعهد حلف الناتو بعدم مواصلة تمدده شرقًا وعدم منح أوكرانيا العضوية فيه، لكن الطلب الروسي قوبل برفض الناتو وتجاهل أمريكي.
ولذلك مع شعور موسكو أنها استنفدت كل الأدوات السياسية والدبلوماسية بشأن أوكرانيا فقد تلجأ للخيار العسكري، ويحفزها على ذلك وجود فجوة ثقة راهنة بين واشنطن والغرب بسبب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وتدشين إدارة بايدن لتحالفات ناشئة مثل تحالف أوكوس مع بريطانيا وأستراليا، وما رافقه من إبرام صفقة الغواصات النووية مع كانبرا، والتي أضرت بمصالح باريس بعد إلغاء أستراليا صفقة غواصات فرنسية تقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي الذي لم يتجاوز بعد تداعيات انسحاب بريطانيا من التكتل “بريكست”، وغياب القيادة الأوروبية المتمرسة برحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن السلطة في ألمانيا، تشكل عاملًا محفزًا لموسكو على اتخاذ خطوة عسكرية، فضلًا عن أن مواجهة روسيا لضغوط محلية تشمل أزمة فيروس كورونا والاقتصاد المتعثر، قد يهيئ لبوتين أن مثل هذا التحرك سيعزز مكانته داخليًّا، تمامًا كما حدث في عام 2014 عند ضم القرم.
سيناريوهات متوقعة للوضع في أوكرانيا
تظهر المؤشرات الراهنة لحشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية والمناورات العسكرية الروسية المشتركة مع بيلاروسيا، ومسارعة دول العالم إلى مطالبة رعاياها في أوكرانيا بمغادرتها فورًا أن سيناريو اندلاع حرب – بات قاب قوسين أو أدنى-، وقد تتخذ تلك الحرب أحد شكلين إما حرب محدودة عبر إرسال المزيد من القوات إلى المناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا (على غرار الحرب في أوسيتيا الجنوبية عام 2008)، أو الاستيلاء على المناطق الاستراتيجية وحظر وصول أوكرانيا إلى الممرات المائية، أو حتى حرب شاملة مع زحف القوات الروسية إلى كييف، وكلما كانت العملية أوسع كانت أكثر كارثية، وقد تؤدي إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين ، وأزمة لاجئين أوروبية.
وستتمكن روسيا من خلال هذا السيناريو من إنهاء الجمود بخصوص اتفاق مينسك، فضلًا عن إثارة الرأي العام الأوكراني ضد زيلينسكي وافتقاد الشعب الأوكراني للثقة فيه، وأيضًا في الحماية الغربية، مما يمهد الطريق لوصول رئيس موالٍ لموسكو للحكم، وبالتالي تحقق روسيا هدفها الرئيسي الخاص بعدم انضمام أوكرانيا للناتو من خلال تحكمها في القرار السياسي لكييف.
وقد تلجأ أيضًا ضمن سيناريو الحرب لاستخدام صادرات الغاز الطبيعي الروسي كسلاح ضد أوروبا، إذ يعتمد الاتحاد الأوروبي على موسكو فيما يقرب من ثلث إمدادات الغاز، لذلك قد تؤدي أي عقوبات أمريكية محتملة على روسيا على خلفية اندلاع نزاع عسكري إلى قيام موسكو بتعطيل وصول هذه الإمدادات مما سيضع أوروبا في مأزق صعب.
أما السيناريو الثاني- وهو الأضعف نسبيًّا – فيتمثل في تمكن جهود الوساطة التي تقوم بها فرنسا تحديدًا بين أطراف الأزمة، والتي بدت في زيارة ماكرون إلى موسكو وكييف، واتصالاته المتكررة مع بايدن وبوتين من أجل تحقيق تهدئة، وفتح المجال أمام حوار بين موسكو والغرب يقود إلى تسوية سلمية، عبر البناء على محورين أساسيين: الأول يتمثل في اتفاق مينسك لعام 2014 الذي تتمسك روسيا بتنفيذه، لا سيما وأنه كما يصفه مراقبون باتفاق أحادي الجانب، فهو ملزم للحكومة الأوكرانية والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا، فروسيا ليست طرفًا مباشرًا فيه، أما المحور الثاني فيتعلق بتفعيل آلية النورماندي الرباعية التي تضم روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا بهدف تقريب وجهات النظر.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الأزمة الأوكرانية الحالية هي الأخطر منذ نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من 3 عقود، وتمثل إرهاصات أولية لتشكُّلِ نظام دولي جديد، واختبارًا لقيادة فرنسا وتحديدًا ماكرون للاتحاد الأوروبي بعد غياب ميركل عن المشهد، ومثالًا حيًّا على التأثيرات الجيوسياسية لأمن الطاقة على استقرار أوروبا، ومحورية سلاح الطاقة ضمن الترسانة الروسية، وكيف بات أداة حاسمة لفرض نفوذها في أوروبا والعالم، وستكون نقطة فاصلة في تماسك التحالف الأمريكي الأوروبي.

زر الذهاب إلى الأعلى