أظهرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الأيام القليلة الماضية العديد من الإشارات الدبلوماسية والعملية التي توحي بقرب التوصل إلى اتفاق نووي معدل مع إيران، من أبرزها إعادة العمل بإعفاءات متعلقة بأنشطة البرنامج النووي المدني لإيران كانت إدارة سلفه دونالد ترامب قد ألغتها عام 2020. وبموجب هذا الوضع الجديد سيتم إعفاء الشركات الأجنبية العاملة في مثل هذه الأنشطة من العقوبات الاقتصادية.
استراتيجية أمريكية ناعمة تجاه إيران
لم تكن تلك الإعفاءات الخطوة الناعمة الأولى لأمريكا تجاه إيران، إذ ألغت إدارة بايدن مطلع العام الماضي قرار ترامب بإعادة فرض العقوبات الأممية على طهران من جانب واحد، وهو ما أدى لانتعاش صادرات النفط الإيرانية بعد انخفاضها من 2.5 مليون برميل يوميًّا في عام 2017 إلى أقل من نصف مليون برميل يوميًّا في عام 2020، كما رفعت واشنطن العقوبات عن العديد من المسؤولين والشركات الإيرانية في يونيو الماضي.
وقد كانت تلك الخطوات مثارًا للجدل حتى داخل إدارة بايدن ذاتها وحزبه الديمقراطي، إذ استقال أعضاء في فريق التفاوض الأمريكي بسبب الموقف الناعم للمبعوث الأمريكي الخاص لإيران روبرت مالي الذي كان عضوًا رئيسيًّا في فريق التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 أثناء إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
كما خرج رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز بتصريحات لاذعة تنتقد إدارة المفاوضات، مشيرًا إلى أنه بعد مرور عام على المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي لم نعد نسمع بمصطلحات تفضيلية عن اتفاق يغطي مدة أطول أو أقوى، في إشارة إلى تعهد إدارة بايدن -الذي تم التخلي عنه على ما يبدو- بالتفاوض على صفقة أفضل. متسائلًا: “علينا جديًّا أن نسأل ما الذي نحاول إنقاذه بالضبط؟”.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية أن التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي “بمتناول اليد” شريطة إبرامه في الأسابيع المقبلة، وقد جاءت تلك الخطوات الأمريكية قبيل استئناف المفاوضات في فيينا بين إيران من جهة، والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى، لإحياء الاتفاق النووي مع طهران الذي غادرته واشنطن أحاديًّا عام 2018.
وبموازاة تلك الخطوات الأمريكية صدرت تصريحات من أطراف منخرطة في المفاوضات توحي بالاقتراب من التوصل لاتفاق، إذ تحدث المستشار الألماني أولاف شولتز عن “لحظة حاسمة”، داعيًا إيران لتجنب المماطلة، وأن الوقت حان لاتخاذ القرارات وليس المماطلة”، مبديًا أمله بأن “يتلقف الإيرانيون هذه الفرصة”، كما أوضح مندوب روسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل إليانوف مزيدًا من التفاصيل، بإشارته إلى أنه “تم وضع مسودة الوثيقة النهائية”، بل زاد على ذلك بقوله: “نحن على بُعد خمس دقائق من خط النهاية”.
على الجانب الإيراني، توجد ثمة عوامل عديدة تدفع طهران نحو الانخراط في الصفقة النووية المُعدلة، في مقدمتها إدراكها أن الفشل المحتمل لمحادثات فيينا سيعيق التعافي الاقتصادي الذي باتت في أمسّ الحاجة إليه، فضلًا عن مخاوف من نفاد الصبر الواضح بين المسؤولين الأمريكيين بشأن الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق قبل أن يتقدم البرنامج النووي الإيراني إلى أبعد من ذلك، بالإضافة إلى تزايد احتمال تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة بشأن العراق، في ظل تنامي نشاط الميليشيات المسلحة المدعومة من طهران.
السعي الأمريكي نحو اتفاق معدل ترقيع لثوب ممزق
ويرى مراقبون لمسار المحادثات النووية في فيينا أن الموقف الأمريكي التفاوضي يكشف ضعف الإدارة الحالية وتذبذبها إزاء هذا الملف، فبعد تهديدات متصاعدة ضد إيران، أقدمت واشنطن على التنازل عن بعض العقوبات، وبلا شك فإن إيران ستكون لديها أطماع في انتزاع تنازلات أخرى أكثر أهمية. وهو الأمر الذي سلطت وكالة بلومبرغ الأمريكية، الضوء عليه بقولها: “قد يعتقد بايدن أن الإعفاء من العقوبات سيقنع إيران بالتراجع عن الطموحات النووية، لكن الرسالة التي ستتلقاها هي عكس ذلك تمامًا”. وعزز موقف إيران الرسمي من صحة هذا التحليل، إذ وصف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، خطوة العمل بالإعفاءات المتعلقة بالأنشطة المدنية للبرنامج النووي بأنها جيدة لكن ليست كافية!
لقد كان اتفاق عام 2015 ضعيفًا بدرجة كافية، فهو يلغي القيود النووية تدريجياً بحلول عام 2031، ولم يتطرق إلى برنامج إيران الصاروخي ولا نشاطها الإقليمي الخبيث، لذلك فإن ما يجري الآن يمكن وصفه بأنه عمليات ترقيع في ثوب ممزق، بالنظر إلى استمرار إيران في نشر الفوضى والاضطراب، ومن أبرز مؤشرات ذلك الهجمات الإرهابية التي تشنها ميليشيا الحوثي اليمنية على دول الجوار، وكذلك عرقلة طهران لعمل المفتشين النوويين الدوليين. وهنا يبرز تساؤل ملح ما فائدة الصفقة التي تدعي تقييد النشاط النووي الإيراني إذا لم يكن بمقدور المجتمع الدولي الرقابة على هذه الأنشطة؟!
سيناريوهات ما بعد الاتفاق المحتمل
وعلى الأرجح فإن التوصل لاتفاق نووي مع إيران دون مراعاة الشواغل التي تهم دول المنطقة، وفي مقدمتها البرنامج الصاروخي، ودعم طهران للميليشيات المسلحة الإرهابية، سيضع الشرق الأوسط أمام ثلاثة سيناريوهات؛ أولها إطلاق سباق تسلح نووي مع سعي دول المنطقة إلى تحقيق الردع، وذلك على غرار سيناريو باكستان والهند.
ويتمثل السيناريو الثاني في إعطاء دفعة لمزيد من السلوك التخريبي لأذرع طهران في المنطقة كميليشيات حزب الله والحوثي عبر استغلال طهران للموارد المالية المتاحة بعد رفع العقوبات، وهو أمر مشابه لما حدث في أعقاب اتفاق عام 2015.
أما السيناريو الثالث فيتمحور حول احتمالية وقوع صدام عسكري عبر لجوء إسرائيل لتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت نووية إيرانية، لا سيما وأن تقارير إعلامية أفادت في ديسمبر الماضي بأن تل أبيب أبلغت واشنطن بأنها تعد خيارًا عسكريًّا لمنع طهران من حيازة سلاح نووي.
وأخيرًا، يبقى السؤال الذي لا يزال يتعين الإجابة عنه بشأن مستقبل الاتفاق الأمريكي الإيراني المحتمل، ماذا لو تم انتخاب دونالد ترامب مجددًا رئيسًا للولايات المتحدة في انتخابات عام 2024؟ وهو احتمال ليس بالمستبعد بالنظر إلى أن ترامب لا يزال الشخصية الأقوى داخل الحزب الجمهوري، وبالتالي لن يواجه صعوبة في الفوز ببطاقة ترشيح الجمهوريين؛ فالفرصة في العودة إلى البيت الأبيض قائمة بقوة في ظل تراجع شعبية بايدن الذي أعلن عزمه الترشح لولاية ثانية، ففي حال عودة ترامب سيذهب الاتفاق المُعدل أدراج الرياح.