دراسات

مدينة العُلا.. منارة سعودية تمزج التراث بالحداثة

تزخر المملكة العربية السعودية بالعديد من المواقع التراثية الفريدة من الناحية الثقافية التي عادت إلى بؤرة الضوء؛ نتيجة الجهود التي تبذلها القيادة الرشيدة، حفظها الله، على صعيد تطوير القطاع التراثي للمملكة، ودعم وتمكين العناصر القائمة عليه، بالمواءمة مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 والاستراتيجية الوطنية للثقافة، بالإضافة إلى استراتيجية المملكة الخاصة بالسياحة التي تستهدف رفع مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي إلى ما يزيد على 10%، وتوفير مليون فرصة عمل إضافية، وجذب 100 مليون زيارة سنوية إلى السعودية بحلول 2030.
عبق التاريخ وسحر الطبيعة في مدينة العُلا
تُعد مدينة العُلا واحدة من أبرز البقاع التراثية في المملكة، إذ تمتاز بموقع فريد من نوعه، وطبيعة جبلية ساحرة، وطقس مثالي لا سيما في فصل الشتاء، كما أنها تسرد قصة توالت فصولها على مدى 200 ألف عام من تاريخ البشرية، إذ كانت موطنًا للحضارات القديمة، بما في ذلك ممالك دادان ولحيان والأنباط، تلك الحضارات التي تركت بصمات لا تُمحى في المنطقة، وحُفظت بشكل واضح في مقابر كبيرة منحوتة في الجبال.
وتأكيدًا على الأهمية التراثية للعُلا، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” في يونيو عام 2008 موقع “الحجر” الأثري في محافظة العُلا ضمن قائمة التراث العالمي، لتصبح بذلك أول موقع أثري سعودي في تلك القائمة.
سمو ولي العهد ومسيرة النهضة في العُلا
لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، بصمة واضحة في النهضة التي تعيشها العُلا كباقي مدن ومناطق المملكة قاطبة خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل رؤية السعودية 2030 القائمة على توظيف إمكانات كل منطقة لخدمة الهدف الأسمى، وهو إعادة هيكلة اقتصاد المملكة، وتقليل الاعتماد على النفط، وتطوير قطاعات الخدمات العامة؛ مثل الصحة والتعليم والترفيه والسياحة، فكل هذا يؤدي إلى التنمية المستدامة التي تُعزز اقتصاد الدولة ورفاهية المواطن.
ويُعد الفكر والنهج المؤسسي هو شفرة النجاح للطفرة التي تشهدها العُلا حاليًاـ وقد تمثل ذلك عبر العديد من المحطات أولها تأسيس الهيئة الملكية لمحافظة العُلا في 20 يوليو 2017، بناءً على أمر ملكي يقضي بإنشاء الهيئة برئاسة الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، وذلك من أجل تطوير محافظة العُلا على نحو يتناسب مع قيمتها التاريخية وما تشتمل عليه من مواقع أثرية، وتحقيق المصلحة الاقتصادية والثقافية والأهداف التي قامت عليها رؤية السعودية 2030.
وفي مرحلة لاحقة، جرى تدشين رؤية تطوير العُلا، كوجهة للتراث العالمي، والتي تتمحور حول حفظ التراث والطبيعة بالشراكة مع المجتمع المحلي. ومن المنتظر أن تساهم الهيئة الملكية لمحافظة العُلا من خلال “رؤية العلا”، بإضافة ما مقداره 120 مليار ريال سعودي للناتج المحلي للمملكة بحلول عام 2035، والتي سيتم ضخ معظمها في الاقتصاد المحلي للمحافظة.
وفي أبريل الماضي، أطلق سمو ولي العهد، أيده الله، الرؤية التصميمية “رحلة عبر الزمن” لتأهيل العلا، والتي تتضمن أكبر مبادرة لإحياء، وتأهيل الواحات الثقافية والطبيعية بشكل مستدام في العالم. ويلتزم المخطط بتحقيق التناغم بين الإنسان والطبيعة، والحفاظ على الإرث الثقافي والحضاري العالمي، وتعزيز فرص الاستثمار ودعم النمو الاقتصادي المستدام.
كما يُشكّل المخطط استثمارًا وطنيًّا في مجتمع العُلا عبر توفير خدمات مجتمعية ومرافق جديدة وساحات عامة، ومجموعة من المنشآت الثقافية والتعليمية، مما يحقق اقتصادًا ثقافيًّا للعُلا، ويُحسّن نمط حياة الفرد والأسرة، ويُسهم أيضًا في إعادة إحياء وتأهيل الواحة الثقافية، والتنمية المستدامة لمجتمعها الزراعي.
فعاليات نابضة بالحياة في شتى المجالات
وتشهد العُلا حالة من الزخم بالفعاليات الثقافية والرياضية والفنية التي تؤكد المضي بخطوات واثقة لتكون وجهة تراثية وثقافية وسياحية عالمية، تُمثّل مزيجًا فريدًا بين التراث والأصالة من جهة والمعاصرة والحداثة من جهة أخرى، الأمر الذي يدعم بلوغ الهدف المتعلق باستقطاب أكثر من مليوني زائر بحلول عام 2035، ويواكب ذلك الكثير من الجهود المتسارعة لتطوير البنية التحتية، وتشمل تعزيز قدرة مطار العُلا الدولي على استقبال الرحلات الدولية المباشرة من مختلف الوجهات الإقليمية والدولية، ففي 19 نوفمبر الماضي، حطَّت في مطار العُلا أول رحلة ركاب دولية مباشرة على الإطلاق في تاريخ المدينة قادمة من دبي. كما استقبل المطار في 27 يناير الجاري أول رحلة ركاب جوية مباشرة قادمة من باريس، كان على متنها 75 سائحًا فرنسيًّا.
وتتضمّن الجهود الخاصة بتأهيل البنية التحتية في المدينة، تطوير ثلاثة منتجعات سياحية بحلول العام المقبل 2023، الأمر الذي يرتقي بمستوى الخدمات السياحية في المحافظة.
وتتوالى حاليًا فعاليات مهرجان شتاء طنطورة، ببرنامج منوع ومشوق، يشتمل على حفلات موسيقية لفنانين عرب وعالميين، وعروض أزياء ومسابقات فروسية، إذ انطلق قبل يومين كأس الفرسان للقدرة والتحمل، الذي يتسابق فيه الفرسان بين تضاريس العُلا الخلابة وطرقها الصحراوية الوعرة في تحد على مسافة 120 كم.
واستضافت العُلا أيضًا أول عرض لدار الأزياء الإيطالية الشهيرة “دولتشي آند غابانا” في السعودية، حيث تم عرض تشكيلة حصرية من تصاميم الدار، وهو ما يشير إلى أن المدينة تسير على خُطى أن تصبح منصة مهمة لعروض دور الأزياء الشهيرة، وتكون من بين عواصم الموضة العالمية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن مدينة العُلا تقدم أنموذجًا للتنمية المستدامة التي تعكس القدرة الفريدة على التطور ومواكبة روح العصر مع الحفاظ على التراث، وتوظيف القيادة الرشيدة، حفظها الله، لكافة المقومات المتاحة من أجل تحويل المدينة إلى أيقونة للسياحة في المملكة والمنطقة والعالم عبر تأهيل المكان والإنسان، ولعل الاهتمام بالعنصر البشري يبرز بوضوح في برنامج العُلا للابتعاث الذي يوفر لأبناء وبنات المملكة في العلا استكمال مسيرتهم التعليمية في الخارج مما يسهم في تنمية وصقل معارفهم وقدراتهم في المجالات والتخصصات المختلفة، التي تلبي احتياجات سوق العمل في العُلا في ضوء خطط تطويرها كوجهة سياحية عالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى