طرأت خلال العقود الماضية تغيرات كبرى في المشهد الإعلامي بفعل التطور الرقمي الذي أدى إلى زيادة هائلة في مدى وصول الصحافة وانتشار مشاركة الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ بات بإمكان الأشخاص مطالعة الأخبار عبر الإنترنت- سواء من خلال جوجل أو تويتر أو فيسبوك أو مواقع إخبارية إلكترونية- في أي مكان، كما أن تنبيهات تطبيقات الهاتف المحمول تجلب أحدث التطورات فور حدوثها في جميع أنحاء العالم.
ورافق هذا التغير تطورات مؤسفة تمثلت في استخدام البعض – أفرادًا كانوا أو جماعات أو حتى حكومات- الأدوات الرقمية والمنصات الاجتماعية لخداع الآخرين أو تضليلهم، أو إلحاق الضرر بهم من خلال صناعة أو نشر أخبار زائفة ومعلومات مضللة، فباتت ممارسات التضليل الإعلامي شائعة للغاية، وأضحت من مصادر التهديد للأمن والاستقرار في المجتمعات.
وسائل وأدوات التضليل الإعلامي
على الرغم من أن التضليل الإعلامي بدأ منذ بدايات ظهور وسائل الإعلام، فإن الثورة المعلوماتية قد نقلته عبر وسائل مختلفة، ومنها شبكات التواصل الاجتماعي، التي من طبيعتها نشر وتعميم الرسالة التضليلية مما يسهم في خلق حالة من البلبلة بشكل متعمد ومقصود.
وتندرج تلك البلبلة تحت اسم التضليل الثقافي الذي يسعى إلى خلق تأثير إعلامي هائل من أجل التأثير على المجتمع والسيطرة على ثقافته، وإحلال ثقافة جديدة من خلال ترويج الأفكار الهدّامة داخل المجتمع.
ووفقًا لعدد من الدراسات الأكاديمية المتخصصة، تتمثل أهداف التضليل الإعلامي في “خلق حالة من السلبية”؛ ويقصد بها السلبية الفردية التي تتحول بالجمع إلى سلبية جماعية تجعل أمر قيادة العقول أكثر سهولة، كما يهدف التضليل إلى توجيه وتغيير الثقافة، وإرساء القيم الاستهلاكية لخدمة مصالح القوى الاستثمارية لتلبية احتياجات رؤوس الأموال.
ويستعمل القائمون على التضليل الإعلامي عددًا من الوسائل للوصول إلى أهدافهم، ومن أبرز تلك الوسائل الصحافة، والوسائل الحية المسموعة والمرئية (القنوات الفضائية)، والإذاعات الداخلية والخارجية الموجهة، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويوجد العديد من الأساليب المستخدمة في التضليل الإعلامي للتأثير على المتلقي ومن أهمها:
التخويف: الغرض منه التلاعب بمشاعر الجماهير بالتلويح باستخدام القوة حول أمر ما لبث الرعب والخوف والكراهية، وبالتالي اختيار الإيحاءات الاجتماعية التي تثير الاستجابة المرغوبة.
البساطة: قد يتصف التضليل بالبساطة في صياغة الرسالة الاتصالية وفي الهدف المطلوب؛ لأن التعقيد في صياغة الرسالة يُولد الملل.
التكرار: من الثوابت الإعلامية أن التكرار لعبارة ما بشكل كاف سوف يجعل الجمهور يتقبلها مع مرور الوقت.
استثارة الفضول بتقديم معلومات غير متطابقة مع توقعات المتلقين.
ويستعمل التضليل الإعلامي أساليب أخرى ضد الجمهور لتحقيق أهدافه، تشمل الخداع، والإشاعة، والتشويش، وإخفاء الحقائق والمعلومات، واختلاق الوقائع.
التجربة الفرنسية لمكافحة التضليل الإعلامي
نخلص مما تقدم إلى أن ظاهرة التضليل الإعلامي تُشكّل آفة عالمية تعاني منها كافة المجتمعات على اختلاف درجات تقدمها، وهو ما حدا ببعض الدول إلى التحرك والاشتباك مع تلك المشكلة؛ بحثًا عن حلول لها، ومن أبرز التجارب في هذا الصدد تجربة فرنسا التي وضعت نهجًا لمكافحة التضليل يقوم على ركيزتين: الأولى تتعلق بجهد رسمي من جانب الدولة عبر تدشين مؤسسة مكلفة بتلك المهمة، أما الركيزة الثانية فهي غير رسمية جاءت نابعة من المجتمع بمبادرات تُعزز وتكمل الجهود الرسمية، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
إنشاء وكالة حكومية رسمية لمكافحة التضليل الإعلامي الأجنبي والأخبار الزائفة، تتمثل مهامها في مراقبة المحتوى على شبكة الإنترنت العالمية، وتحديد الهجمات الإلكترونية التي تأتي من دولة أو منظمة أجنبية بهدف زعزعة الاستقرار السياسي.
واللافت أن تبعية هذه الوكالة تعود إلى الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي، وهو ما يجسد بوضوح تعامل فرنسا مع المعلومات المضللة مثلما تتعامل مع أي تهديدات كبرى للأمن القومي، فالتضليل والأخبار الزائفة تعتبر أحد التهديدات غير التقليدية للأمن، وتندرج ضمن أدوات حروب الجيل الرابع.
إطلاق منصة “دي فاكتو” لمكافحة التضليل الإعلامي، التي دشنها مجموعة من الباحثين والصحفيين والمتخصصين الفرنسيين في مجال تطوير القدرات على استعمال وسائل الإعلام والتواصل في إطار المساهمة الفرنسية في مشروع أوروبي أوسع.
وتعتبر هذه المبادرة وليدة جهود بذلتها وكالة الصحافة الفرنسية، ومعهد العلوم السياسية في باريس “سيانس بو”، ومركز الربط للتعليم ووسائل الإعلام “كليمي”، ومنصة “إكس ويكي” التعاونية؛ تلبية لنداء أطلقته المفوضية الأوروبية لإنشاء ثمانية مشاريع وطنية تجمع خبرات صحفيين وأكاديميين وخبراء في تطوير القدرات على الاستعمال الصحيح لوسائل الإعلام والتواصل لمكافحة التضليل الإعلامي في 15 دولة.
وتعتبر “دي فاكتو” منصة مستقلة عن الحكومة والمؤسسات الرسمية الفرنسية، وكذلك عن المبادرات التي تطرحها الحكومة حول التضليل الإعلامي، وفي إطار الجهود التعاونية تحت تلك المظلة لن تقتصر مهام وكالة الصحافة الفرنسية على نشر التدقيق في صحة الأخبار الواردة من هيئتها التحريرية، بل أيضًا من هيئات تحريرية أخرى على غرار صحيفة “ليبيراسيون” وإذاعة “راديو فرانس” وصحيفة “20 مينوت” ومجموعة “لي سورلينيور”.
وتستهدف المنصة نشر محتويات تثقيفية على موقعها الإلكتروني تشرح أساليب تزوير المعلومات والتحقق منها، مع إتاحة أدوات أكثر تخصصًا، والوصول إلى برمجيات مفتوحة المصدر في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، يعد المكون الأكاديمي بُعدًا حاضرًا بقوة في تلك الجهود؛ إذ ستكون منصة “دي فاكتو” مصدرًا لإطلاق ونشر “أبحاث حول مسارات التضليل الإعلامي” وتداعياته على سُبل استيقاء المعلومات، وعن التحديات التي تواجه الأطر التنظيمية للمنصات الرقمية.
نظرة على الواقع في العالم العربي
لا يختلف واقع المشهد الإعلامي والرقمي في العالم العربي عما يشهده العالم من انتشار للأخبار الكاذبة والتضليل الذي يتخذ صورتين رئيسيتين، إما تقديم معلومات خاطئة تمامًا، أو معلومات صحيحة، لكن توظف بشكل خاطئ لخدمة هدف معين. وخلال العقد الماضي الذي شهد ما يسمى بـ”الربيع العربي” تفشت ظاهرة الأخبار المضللة، وبرزت الأدوار السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي التي كانت أحد المحركات الأساسية لموجات متتالية من الاضطرابات والصراعات، وساحة لبث الشائعات من أجل التأثير في الرأي العام.
وانتشر في بعض وسائل الإعلام ظاهرة التلاعب بالأخبار من خلال التلاعب بالمعلومات وترتيبها، بحيث تعطي معاني وانطباعات معينة يتم تفسيرها بشكل يخالف الواقع، وأيضًا التضليل بالانتقائية المتحيزة التي تنتقي بعض الكلمات والحقائق والاقتباسات والمصادر وتتجاهل الأخرى، فتقدم صورة مشوهة. هذا بجانب التضليل بإهمال خلفية الأحداث مما يجعلها ناقصة ومشوهة، والأخطر من ذلك كله التضليل بالمزج والخلط، وعدم التمييز بين الأخبار من ناحية والرأي والتحليل والتعليق من ناحية أخرى، فلا يعرف المتلقي هل هذا جزء من الخبر أو هو رأي الصحفي ووجهة نظره.
وإزاء ذلك الوضع يبرز عدد من المقترحات من أجل مكافحة التضليل الإعلامي على الصعيد العربي، يتمثل في مرصد عربي لمكافحة الأخبار الزائفة والتضليل، وتطوير برامج تدريبية للعاملين في المجال الإعلامي للارتقاء بالمعايير المهنية في صناعة الإعلام، وتوعية الجماهير بأساليب التلاعب التقنية لتجنب الوقوع في فخ التضليل.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول: تُمثل الأخبار الزائفة وحملات التضليل المعقّدة مشكلة كبرى ترتبط بالمشهد الإعلامي في العصر الراهن، ومثارًا لنقاش متزايد حول كيفية معالجة هذه القضايا دون تقويض فوائد الوسائط الرقمية، الأمر الذي يحتم على الحكومات وشركات الإعلام والتكنولوجيا والمستهلكين العمل معًا لحل هذه المشكلات.
فبالنسبة للحكومات يقع على عاتقها المساهمة في محو الأمية الرقمية، وتعزيز المعالجات الصحافة والإعلامية المهنية في مجتمعاتها، أما القائمون على صناعة الأخبار فلا بد من تقديم صحافة عالية الجودة من أجل بناء ثقة الجمهور، وتصحيح الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، وليس العمل على إضفاء الشرعية عليها.
وفيما يتعلق بشركات التكنولوجيا فعليها الاستثمار في الأدوات التي تحدد الأخبار الزائفة، وكذلك العمل على تقليل الحوافز المالية لأولئك الذين يستفيدون من المعلومات المضللة، وتعزيز مبدأ المساءلة والشفافية. وأخيرًا يبقى دور الأفراد المتمثل في متابعة الأخبار من مصادر متنوعة، والتعامل بحذر مع ما يقرؤونه ويشاهدونه.
4 دقائق