تقاريردراسات

الآثار النفسية للشهرة المفاجئة

يتخيل معظم الأشخاص أن الشعور بالسعادة يرتبط بشكل شرطي بتحقيق الثروة والشهرة، ومع ذلك فإن تجربة أن يصبح الشخص مشهورًا وتحت أضواء وسائل الإعلام طيلة الوقت، تضعه في اختبار صعب لتوازنه النفسي، ولهذا فمن غير المستغرب أن يكون الفنانون والموسيقيون والرياضيون المحترفون عُرضة لأضرار نفسية ناجمة عن الوجود في دائرة الضوء الإعلامي.

وقد وثقت دراسات أكاديمية تلك النتيجة، ومن بينها دراسة أجراها جيب فولز الأستاذ الفخري للدراسات الإعلامية في جامعة “هيوستن-كلير ليك” الأمريكية، وجدت أن متوسط ​​عمر المشاهير في أمريكا بشكل عام يبلغ 58 عامًا مقارنة بـ ​​72 عامًا للمواطنين العاديين، وأن المشاهير أكثر عُرضة بنحو أربع مرات للانتحار من الأمريكيين العاديين، وهو الأمر الذي يدفع لاستكشاف التأثير النفسي للوجود في دائرة الضوء الإعلامي، ونستعرضه في التقرير التالي:

مشاهير التواصل الاجتماعي ومتلازمة الثروة المفاجئة

أضحت مسألة تحقيق الشهرة والربح يسيرة في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما في ظل تصاعد الدور التسويقي الذي يلعبه صناع المحتوى والمشاهير وما يعرف بـ”المؤثرين” على اختلاف تصنيفاتهم ومجالات اهتمامهم، لكن بالنسبة لبعض الشباب، يمكن أن تكون المكاسب غير المتوقعة لتلك الشهرة كارثية على المستويين المالي والعاطفي لافتقادهم الخبرة في الحياة.

بل إن الأمر امتد ليشمل الأطفال والمراهقين الذين يكسبون المال كـ”مؤثرين” على منصات التواصل، مثل نجمي يوتيوب الأمريكيين رايان كاجي (9 أعوام)، وإيفان موانا (15 عامًا) اللذين حققا ملايين الدولارات من مقاطع فيديو مثل فك وتركيب الألعاب. كما حققت مواطنتهم ألينا موريس (16 عامًا) ملايين من بيع المصاصات الخالية من السكر، فهذه النماذج وغيرها تكون أكثر عرضة للإصابة بما يسمى بـ”متلازمة الثروة المفاجئة- Sudden Wealth Syndrome”، ذلك المصطلح الذي يشير إلى الضغوط الهائلة للثروة غير المتوقعة، وقد ظهر المصطلح في تسعينيات القرن الماضي خلال “فقاعة الإنترنت”، عندما قام المستثمرون بالمضاربة بأموالهم في الشركات الناشئة عبر الإنترنت.

ويقصد بـ”متلازمة الثروة المفاجئة”، أزمة الهوية التي تصيب الأفراد الذين يحصلون فجأة على مبالغ كبيرة من المال من خلال الفوز باليانصيب، أو المضاربة في العملات المشفرة مثل البيتكوين، أو أرباح ناجمة عن صناعة محتوى، وتقديمه عبر منصات التواصل الاجتماعي. وتشمل أعراض تلك المتلازمة، الشعور بالعزلة عن الأصدقاء السابقين، والإحساس بالذنب بسبب تغير الظروف، والخوف الشديد من خسارة الأموال.

وفي هذا الإطار، يقول كريس بيج، المخطط المالي البريطاني إنه “لمجرد أن شخصًا ما حقق نجاحًا وشهرة في مجال ما وأدر عليه مبالغ كبيرة، فلا يعني هذا أنه يعرف ما يجب فعله بتلك الأموال، وهنا يكون صغر سن الشخص المشهور وكبر المبالغ المالية معضلة شديدة، إذ يصارع هؤلاء المشاهير مشاعر الابتهاج والخوف والتوتر، فهؤلاء الأشخاص عندما دخلوا إلى عالم الشهرة سواء في مجال رياضي أو فني أو كصناع محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي كانوا يتبعون شغفهم، لكن هذه الأموال تخلق حالة من الفوضى العاطفية.

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن عددًا كبيرًا من الشباب الذين يكسبون المال بسرعة ينتهي بهم الأمر بخسارة كل شيء، وهناك العديد من الأمثلة لمشاهير حدث لهم ذلك، من أبرزهم أسطورة كرة القدم الأرجنتيني دييجو مارادونا الذي جمع ملايين الدولارات خلال ثمانينيات القرن الماضي عندما كان في العشرينات من عمره، لكنه أشهر إفلاسه في عام 2009.

ومن بين الأمثلة أيضًا، نجمة البوب ​​الأمريكية بريتني سبيرز التي عانت من مشاكل بالصحة النفسية في العشرينات من عمرها بعد تحقيق الشهرة والثروة، مما أدى لوضعها تحت الوصاية لمدة 13 عامًا (من عام 2008 إلى عام 2021).

التأثير النفسي لوجود المشاهير في دائرة الضوء

يؤدي تسليط الأضواء على المشاهير إلى مجموعة من التداعيات التي تمس واقع حياتهم، وتنعكس على مشاعرهم وحالتهم المزاجية بل ومدى تمتعهم بالاتزان النفسي، ويمكن رصد تلك الآثار السلبية فيما يلي:

غياب الخصوصية:

يتم الإعلان عن كل ما يفعله المشاهير ليراه العالم ويناقشه وربما يسخر منه، والجمهور يميل إلى القراءة عن زلات ونميمة الأثرياء والمشاهير، وكلما كان الأمر محرجًا زاد الإقبال الجماهيري لمتابعته. وتتمثل الاستجابة الطبيعية للمشاهير لذلك الموقف في الشعور بالاستياء من قيود الوجود في دائرة الضوء العامة.

فقد الإحساس بالذات:

يشعر العديد من المشاهير بأنهم غير قادرين على تأكيد فرديتهم في عالم إعلامي محفوف بالصور النمطية، فنظرًا لأن وسائل الإعلام والمعجبين يطورون تصورًا خاطئًا عن أحد المشاهير (والذي غالبًا ما يكون أحادي البعد)، يبدأ المشاهير في فقدان مسار الجوانب متعددة الأوجه لشخصيتهم، الأمر الذي يدفعهم إلى اتخاذ خيارات لم تعد تعكس ذاتهم الحقيقية، مما يزيد من تعريض إحساسهم بالهوية للخطر، فبمرور الوقت  يشعرون بالعزلة والوحدة بشكل متزايد، ويواجهون صعوبة في الوثوق بالآخرين.

فقدان التحديات:

قد تكون تجربة الوصول إلى ذروة الأهداف وإدراكها غير مُرضية بالقدر الذي يعتقده الشخص مسبقًا، فعندما يتم تحقيق حلم الشهرة وجني ثمارها يجد الشخص الأمر مبهجًا في البداية، ولكن بعد ذلك تقفز إلى الأذهان تساؤلات من قبيل هل وصل الأمر لنهايته ولا توجد تحديات وأهداف أخرى، بعبارة أخرى يبدأ الشخص المشهور في الشعور بأنه لم يعد لديه شيء يكافح من أجله، وقد يتجه إلى ملء تلك المساحة العاطفية الفارغة بشيء أكثر إثارة أو فظاظة، فغالبًا ما يلجأ المشاهير إلى اتخاذ خطوات ذات مخاطر أكبر، كوسيلة لاستعادة الشعور بالتحدي.

“متلازمة المحتال- Imposter syndrome

يصاب بعض المشاهير بالحيرة من شهرتهم مع العلم أنهم بعيدون عن معايير ومواصفات استحقاق تلك الشهرة، ويخشى المشاهير من اكتشاف الجمهور أنهم ليسوا موهوبين أو أذكياء أو جذابين، كما يتم تصويرهم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فهم يدركون تمامًا أن معجبيهم قد جعلوهم مثاليين بطريقة يستحيل مطابقتها في الحياة الواقعية. ونتيجة لذلك يمكن أن يبدأ المشاهير في الشعور بأن مواهبهم ليست كافية، مما يشعرهم بحالة من عدم الكفاية.

السعي وراء الاحتفاظ بأضواء الإعلام

يخشى العديد من المشاهير أن تزول شهرتهم، مما يدفعهم إلى الهوس باستمرار بفقدان انتباه معجبيهم ووسائل الإعلام. فبعد أن تصل شهرة أحد المشاهير إلى ذروتها غالبًا ما تكون رحلة الهبوط وحشية. ويمكن لفقدان الأضواء أن يترك هؤلاء المشاهير فريسة للشعور بالحرمان، وبعد ذلك يحاولون يائسين استعادة الشهرة، حتى وإن كلفهم هذا اللجوء إلى سلوكيات التدمير الذاتي كوسيلة للتغلب على مشاعر الفشل الطاغية.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الشهرة تحمل الكثير من المغريات، وتُشبع العديد من الحاجات، فالمشهور يحصل على معاملة خاصة أينما كان، ويتم التعرف عليه في أي مكان، بجانب أن الشهرة تجلب الثروة وقاعدة كبيرة من المعجبين، لكن يرافقها قيود في مقدمتها أن المشاهير لا يستطيعون فعل الأشياء التي يستطيع الشخص العادي القيام بها، كما يكونون مُعرَّضين للملاحقة من جانب المعجبين سواء في الواقع الحقيقي أو في العالم الافتراضي عبر منصات التواصل الاجتماعي، وقد يتحول أحيانًا الهوس إلى تهديدات وحتى أذى جسدي، بالإضافة إلى ذلك فإن مكانة المشاهير يمكن أن تجذب الكثير من الأصدقاء المزيفين، فضلًا عن أن المشاهير دائمًا في مرمى النقد سواء لشخصياتهم أو تصرفاتهم أو مظهرهم.

من جهة أخرى، يشعر الشخص المشهور بضغط نفسي مستمر مصدره الخوف من انحسار الأضواء عنه، وهو ما يحفزه للإقدام على اتخاذ قرارات أو ارتكاب أفعال غير مسؤولة سعيًا لجذب الأنظار وإثارة الجدل، الذي أضحى ضمانة وحيدة للعديد من المشاهير، لا سيما “مشاهير التواصل الاجتماعي” من المراهقين للبقاء في دائرة الضوء، ففي الغالب الأعم لا يمتلك أي من هؤلاء المشاهير مقومات ومؤهلات للتأثير في الجمهور، فلا فكر ولا ثقافة ولا خبرة، والقيمة المضافة لديهم صفر.

وفي ذات الوقت، يضع هؤلاء المشاهير الأفراد العاديين والمتابعين تحت ضغوط نفسية شديدة الوطأة، بفعل ما يرونه من نمط حياة يتسم بالثراء الناتج عن محتوى يغلب عليه السطحية والتفاهة، إن هذا الوضع يبعث برسالة سلبية تضر بالمجتمع وبالقيم الأساسية التي يرتكز عليها، وفي مقدمتها العمل الجاد والسعي لتحصيل العلم كوسيلة للارتقاء بمستوى معيشة الفرد ونهوض الأمة، وبدلًا من ذلك يركض الجميع وراء حلم الشهرة والكسب السريع للأموال.

وختامًا، يبقى القول إن التعامل مع الشهرة وتداعياتها وتحديدًا بالنسبة للمراهقين والشباب يتطلب تأهيلًا نفسيًّا على يد خبراء متخصصين، ودعمًا من الدوائر الاجتماعية المحيطة بالشخص المشهور من أجل تجاوز الآثار السلبية للشهرة.

زر الذهاب إلى الأعلى