شهدت شبكة الإنترنت نموًا سريعًا في السنوات الأخيرة، وانعكست فوائدها على كل جانب من جوانب المجتمع تقريبًا، فالإنترنت مسؤول بشكل أساسي عن تطوير وإثراء التجارة العالمية بشكل لم يكن متصورًا من قبل، كما أسهم في تعزيز التقدم الملحوظ في التعليم والرعاية الصحية وسهّل من عملية الاتصالات في جميع أنحاء العالم، وعلى الرغم من هذه الإمكانيات اللامحدودة والتطورات السريعة التي جلبها الإنترنت لمستخدميه، فإنه لا يمكن إنكار أن له أيضًا جانبًا مظلمًا وآثارًا سلبية لا يمكن إغفالها، حيث أتاح الفرصة لارتكاب جرائم جنائية لم تكن معروفة من قبل، وتجاوزت الحدود المكانية والزمانية، فأصبح حرفيًا أرضًا خصبة لنوع جديد وفريد من الجرائم تعرف الآن باسم “الجرائم السيبرانية”.
ومع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الجديد، ارتفع مستوى الجريمة السيبرانية بشكل كبير، وأصبحت تشكل تهديدًا كبيرًا في المجتمع الرقمي، وأثبت العديد من الدراسات الغربية أن النساء هن أكثر شرائح المجتمع عُرضة للوقوع ضحايا للجرائم السيبرانية، الأمر الذي جعل حياتهن غير آمنة بسبب ارتفاع نسبة الجرائم الممارسة ضدهن في هذا العالم الافتراضي، وهو ما يثير تسـاؤلًا مهمـًا حـول السـمات الشـخصية التـي تتمتـع بهـا شـريحة النســاء اللاتــي يقعــن ضحايــا للجرائــم الســيبرانية.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة جامعة الشارقة دراسة للدكتورة شعاع الجاسر الأستاذ المشارك بكلية الإعلام والاتصال جامعة الملك عبد العزيز، بعنوان “الجرائم السيبرانية الممارسة ضد المرأة السعودية وعلاقتها بالسمات الشخصية للضحية المستخدمة لوسائل الإعلام الجديد”، حيث سعت الدراسة للتعـرف علـى مـدى انتشـار الجرائـم السـيبرانية الممارسـة ضـد المـرأة السـعودية عبـر وسـائل الإعـلام الجديـد، وعلـى أنمـاط هـذا النـوع مـن الجرائـم، وعلاقــة الوقوع ضحيـة لإحدى هــذه الجرائــم الســيبرانية بالمتغيــرات الديموغرافيــة والســمات الشـخصية للمـرأة الضحيـة، والتي نستعرضها على النحو التالي:
مجتمع وعينة الدراسة
يتمثل مجتمع الدراسة في جميع النساء السعوديات المستخدمات لوسائل الإعلام الجديدة واللاتي تبلغ أعمارهن 18 سنة فأكثر، وقد استخدمت الدراسة عينة كرة الثلج التي تستخدم حين يصعب الوصول لكل المبحوثين؛ نظرًا لاتساع المساحة الجغرافية، حيث يتم استخدام كرة الثلج- التي تُسمى أحيانًا بالعينة الشبكية- في حالة عدم إمكانية توفر قوائم المبحوثين للاختيار منهم، وسميت بهذا الاسم لأنه بعد الانتهاء مع مقابلة المبحوث يطلب الباحث من المبحوث أن يدله على حالة أخرى تخدم الدراسة، وفي الدراسة الحالية تم إعداد الاستبيان عبر حساب “Google Form” وإرساله إلى المبحوثات عبر مجموعات تطبيق الواتساب، وقد بلغ عدد مفردات العينة التي استجابت للباحثة (241) امرأة سعودية.
وشكلت الفئة العمرية من (31 – 40 سنة) النسبة الأعلى وبلغت 51.5%، ثم الفئة (18 – 30 سنة) بنسبة 43.6%، وأخيرًا الفئة (من 41 – 50 سنة) بنسبة 5%.
ومن حيث المؤهل العلمي، شكلت المبحوثات اللاتي درسن فترة أو أكملن المرحلة الجامعية 51.9%، تلاها اللاتي درسن فترة أو أكملن المرحلة المتوسطة أو الثانوية بنسبة 44.4% ، ثم اللاتي درسن فترة أو أكملن المرحلة الابتدائية بنسبة 3.7%.
أما فيما يتعلق بالحالة الاجتماعية كان معظم أفراد العينة إما متزوجات ( 53%) أو عزبات (41.9%)، بينما شكلت المطلقات (5.4%).
نتائج الدراسة
أظهرت نتائج الدراسة أن حوالي ثلث أفراد العينة ( 30.3%) قد سبق لهن التعرض للجرائم السيبرانية، وهي نسبة غير بسيطة، خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان تعدد الآثار السلبية للجرائم السيبرانية على المرأة الضحية، والتي تشمل الآثار النفسية والاجتماعية والجسدية والاقتصادية، وتعد هذه النتيجة مقاربة إلى حد ما للإحصائيات الحديثة التي أشارت إلى أن نسبة تعرض سكان المملكة العربية السعودية للتهديدات الإلكترونية بلغ ما نسبته 39%، كما من الممكن تفسير هذه النتيجة في ضوء نظرية النشاط الروتيني التي تنص على أهمية توفر ثلاثة عناصر رئيسة حتى تحدث الجريمة، وهي وجود مجرم ذي نية إجرامية، وقدرته على التصرف بناء على هذه النية، ووجود ضحية مناسبة أو هدف مناسب، وغياب الوصي الذي يمكن أن يمنع الجريمة من الحدوث.
ونظرًا لسهولة ارتكاب الجرائم عبر وسائل الإعلام الجديدة مقارنة بالواقع، وذلك لصعوبة تعقبها وملاحقة صاحبها، فقد ظهر العديد من المجرمين السيبرانيين ذوي الدوافع الإجرامية الذين من الممكن أن يكونوا في صورة مخترقين وملاحقين ومنتحلين ومبتزين، وبالمثل هنالك العديد من الضحايا والأهداف المناسبة في وسائل الإعلام الجديدة؛ مثل اختراق الحسابات، وتشويه السمعة، وسرقة المعلومات الشخصية، والاحتيال المالي، والابتزاز الجنسي، ونظرًا لغياب الأوصياء بشكل كبير على هذه الوسائل، وتوفر حرية التصرف إلى حد ما لمستخدميها انتشرت الجرائم السيبرانية بشكل واضح عبر وسائل الإعلام الجديدة، الأمر الذي قد يفسر سبب تعرض حوالي ثلث العينة لهذه الجرائم.
كما أظهرت النتائج أن جرائم الاختراق السيببراني تصدرت قائمة أنماط الجرائم السيبرانية الممارسة ضد أفراد العينة من النساء السعوديات عبر وسائل الإعلام الجديدة بمتوسط حسابي (5.77)، واحتلت الجرائم الجنسية -(تعني وفقًا للدراسة إيقـاع الضحيـة فـي علاقـات عاطفيـة وهميـة أو الإسـاءة لـها جنسـيًّا)- المرتبة الثانية بمتوسط حسابي (4.75)، ثم الجرائم المالية بمتوسط حسابي (4.67)، وفي المرتبة الرابعة جرائم تشويه السمعة بمتوسط حسابي (4.35)، وجاءت سرقة المعلومات الشخصية في المرتبة الأخيرة بمتوسط حسابي (3.45).
وخلصت نتائج الدراسة إلى عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية في التعرض للجرائم السيبرانية الممارسة ضد أفراد العينة من النساء السعوديات عبر وسائل الإعلام الجديدة؛ وفقًا لمتغير العمر أو متغير المؤهل العلمي، في حين وجدت فروق ذات دلالة إحصائية في التعرض للجرائم السيبرانية الممارسة ضد المرأة السعودية عبر وسائل الإعلام الجديدة؛ وفقًا لمتغير الحالة الاجتماعية لصالح شريحة المطلقات، وبمقارنة هذه النتيجة بإحصاءات الجرائم التي تتعرض لها المرأة السعودية في الحياة الواقعية يمكن القول إن نتائج الدراسة جاءت مختلفة عنها، حيث تشير أحدث الإحصاءات إلى أن الفئة العمرية ما بين 16 -30 عامًا من النساء السعوديات تعد الفئة الأكبر في التعرض لجرائم الابتزاز في الواقع بنسبة 85%، في حين توزع أفراد العينة الحالية ممن تعرضن للجرائم السيبرانية مناصفة تقريبًا بين من تراوحت أعمارهن بين 18- 30 عامًا و31 -40 عامًا.
وأفادت الدراسة بأن درجة تعرض المطلقات للجرائم السيبرانية أكبر من كل فئة العزبات والمتزوجات، الأمر الذي يكشف عن الاختلافات الجوهرية في الممارسات الإجرامية بين الواقع والفضاء السيبراني، وعن وجوب أخذ الحذر عند تعميم نتائج الدراسات التي تهتم بدراسة تأثير السلوك في الواقع على الممارسات السلوكية عبر الإنترنت، وقد يعود هذا الاختلاف أيضًا إلى أن هذه الإحصاءات ركزت فقط على الابتزاز كجريمة تتعرض لها المرأة في الواقع، ولم تشمل باقي الجرائم الأخرى الممارسة ضدها.
وأظهرت النتائج أيضًا عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين أفراد العينة من النساء السعوديات اللاتي وقعن ضحايا للجرائم السيبرانية واللاتي لم يسبق لهن التعرض لهذا النوع من الجرائم وفقًا لسمة “العصابية-Neuroticism” و”الانبساطية- Extraversion” و”المرغوبية الاجتماعية- Agreeableness” و”الإتقان- Conscientiousness”.
في حين وجدت فروق ذات دلالة إحصائية بين أفراد العينة من النساء السعوديات اللاتي وقعن ضحايا للجرائم السيبرانية واللاتي لم يسبق لهن التعرض لهذا النوع من الجرائم وفقًا لسمة “الانفتاح Openness” لصالح من لم يسبق لهن التعرض للجرائم السيبرانية، ويمكن تفسير هذه النتيجة بكون النساء اللاتي يتميزن بسمة انفتاح عالية – وفقًا لنظرية العوامل الكبرى للشخصية- يتميزن بالنضج العقلي والتفوق وسرعة البديهة والسيطرة والطموح والمنافسة، وبالتالي من المتوقع أن يقل تعرضهن للجرائم عمومًا وللجرائم السيبرانية تحديدًا؛ نظرًا لنضجهن وسرعة بديهتهن وسيطرتهن على المواقف اللاتي يتعرضن لها مقارنة بالنساء اللاتي يعانين من انخفاض في سمة الانفتاح، فقد يعود السبب الرئيس لوقوعهن ضحايا لهذه الجرائم هو قلة نضجهن العقلي، وعدم قدرتهن على السيطرة على المواقف التي يكن موجودات بها مما يسهل اصطيادهن ليكن ضحايا للجرائم السيبرانية. وبالتالي تشير هذه النتائج إلى الدور الكبير الذي تلعبه سمات الشخصية للضحية في التعرض للجرائم السيبرانية.
توصيات الدراسة
لقد جاءت الدراسة الحالية متفقة مع نظرية النشاط الروتيني؛ إذ أثبتت نتائجها أن سهولة توفر الهدف وغياب الوصي سهل من إمكانية ارتكاب الجرائم السيبرانية عبر وسائل الإعلام الجديد، ومن ثم توصي الدراسة بما يلي:
أهمية التوعية بالقوانين والتشريعات المتعلقة بالجرائم السيبرانية عبر وسائل الإعلام الجديدة، والعقوبات التي تقع على مرتكبيها، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المحلي في مجال التوعية المجتمعية المتعلقة بها.
ضرورة عقد ورش عمل ولقاءات للتوعية بأخطار الجرائم السيبرانية، والتعريف بالعوامل الشخصية التي تسهل الوقوع كضحية لمثل هذه الجرائم، خاصة وأن نتائج الدراسة الحالية أظهرت اتساع انتشارها في الفضاء السيبراني؛ نظرًا لتوفر شروط ارتكابها وفقًا لنظرية النشاط الروتيني.
إجراء المزيد من الأبحاث حول الجرائم السيبرانية في المجتمع السعودي، حيث تبين وجود فجوة في الدراسات المتعلقة ببحث هذا الموضوع المهم، مع إمكانية تطبيق الدراسة الحالية وأدواتها على شرائح مختلفة من المجتمع كشريحة المراهقين والشباب من الجنسين وكبار السن ومقارنتها بنتائج الدراسة بهدف التعرف عن مدى إمكانية تعميمها على نطاق واسع.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن السمات الشخصية لمستخدمي منصات التواصل الاجتماعي من النساء تلعب دورًا كبيرًا ومؤثرًا في مدى إمكانية التعرض لخطر الجرائم السيبرانية أو تلافي تلك المخاطر، وهذه السمات هي نتاج تثقيف وبناء شخصية المستخدم، ما يعني أن الاهتمام بهذين المكونين سيعزز من حمايتهن خلال الوجود على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.