قراءات

خطاب خادم الحرمين الشريفين أمام مجلس الشورى.. رؤية تحليلية

في كلمة شاملة تحمل، في مضمونها ودلالاتها، مجموعة من الرسائل للداخل والخارج، جاء خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – أيده الله- خلال افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة الثامنة لمجلس الشورى، مجسداً الإطار الذي يضيء مسيرة الوطن التنموية الشاملة، ويحدد توجهات الدولة وأولوياتها خلال المرحلة الراهنة وتطلعاتها وأهدافها المستقبلية. وتطرق فيه – رعاه الله – إلى سياسات المملكة وجهودها لتحقيق التنمية المستدامة، وحدّد الأهداف التي تطمح الدولة للوصول إليها، ويشرح مواقف المملكة حيال الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية، والرؤية السعودية للقضايا الإقليمية والدولية، انطلاقًا من دورها المحوري، وتوظيف ما تملكه من مقومات لمواصلة جهودها كقوة داعمة للاستقرار والرخاء في المنطقة والعالم، مستفيضًا في إبراز معالم السياسات الحكيمة والمتوازنة التي تنتهجها المملكة.
ويمكن استعراض وقراءة أبرز مضامين الخطاب الملكي، على النحو التالي:
إبراز دور رؤية المملكة 2030 في صناعة المستقبل المُشرق؛ وذلك من خلال منظومة من البرامج التي ترتقي بمستوى الخدمات من تعليم وصحة وإسكان وبنية تحتية، وتوفر فرص العمل لأبناء وبنات الوطن، وتسهم في بناء اقتصاد يتمتع بالمتانة والمرونة في مواجهة المتغيرات العالمية، مع الإشارة إلى بدء المرحلة الثانية من رؤية المملكة 2030 منذ مطلع عام 2021 مستهدفة دفع عجلة الإنجاز، وتلبية تطلعات وطموحات الوطن والمواطن.
بالإضافة إلى استمرار العمل على تطوير الجهاز الإداري للدولة على صعيد هيكلة المؤسسات وصناعة وتطوير السياسات وتقديم وتجويد الخدمات، وهو ما يعكس ترسيخ القيادة الرشيدة للمملكة لأحدث النظم الإدارية وعلى رأسها نمط إدارة الأداء الذي يُعنى بالإشراف والرقابة على الموظفين والإدارات والمؤسسات بهدف الوصول إلى تحقيق الأهداف بكفاءة وفاعلية، إذ أرست المملكة التميز في الأداء أساسًا لتقويم مستوى كفاءة الأجهزة العاملة في البلاد.
تسليط الضوء على البيئة المحفزة للاستثمار والجاذبة للمستثمرين، والجهود التي اتخذتها الدولة في هذا المجال، وفي مقدمتها الاستراتيجية الوطنية للاستثمار التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، التي سيتم من خلالها ضخ استثمارات تفوق 12 تريليون ريال في الاقتصاد المحلي حتى عام 2030، والتي تتوزع ما بين مبادرات ومشاريع برنامج شريك، واستثمارات محلية، واستثمارات الشركات.
وقد استند الخطاب الملكي إلى لغة الأرقام التي تمثل حافزًا للمسؤولين والمواطنين نحو المزيد من البذل والعطاء لتحقيق التنمية، إذ انعكست سياسات الاستدامة المالية إيجابًا على التعافي التدريجي للاقتصاد المحلي، مشيرًا إلى توقعات بتحقيق فوائض مالية في الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2022 وانخفاض مؤشرات الدين العام إلى 25.9% من الناتج المحلي، مقابل 29.2% في عام 2021.
تقدم السعودية في المؤشرات والتصنيفات الدولية، إذ احتلت المملكة المرتبة الأولى عالميًا في عدد من المؤشرات الأمنية، مقارنة بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ودول مجموعة العشرين كافة، وجاءت الثانية عالميًا في المؤشر العالمي للأمن السيبراني، وهو ما يُمثل مؤشرًا على نجاح استراتيجيات وخطط المملكة في تلك القطاعات.
الدور المحوري للتعليم في تحقيق التنمية المستدامة، ومن المؤشرات الدالة على ذلك استمرار العمل في برنامج تطوير الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، حيث حصل عدد من الجامعات السعودية على مراكز متقدمة في المؤشرات العالمية، كما تركز برامج الابتعاث إلى الخارج على التخصصات التي تخدم سوق العمل وتتواءم مع رؤية المملكة 2030 بشكل مميز.
إرساء نهج مكافحة الفساد بتكريس مبدأ الشفافية والمساءلة، وتتبع ومراقبة الأداء الحكومي وفاعليته، وتعد “مبادرة الرياض” لتأسيس شبكة عمليات عالمية لتبادل المعلومات بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الاستثنائية الأولى، تأكيداً على الدور الريادي للمملكة على الصعيد العالمي، واستمرارًا لجهودها ومساهماتها الفاعلة خلال رئاستها مجموعة العشرين 2020، في تعزيز التعاون الدولي لمكافحة الفساد وتضييق الخناق عليه. ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن مكافحة الفساد متطلب أساسي لدفع مسيرة التحديث، من منطلق أن الفساد معوق رئيسي لجهود التنمية المستدامة.
استقرار السوق البترولية وتوازنها كركيزة لاستراتيجية السعودية للطاقة، فالمملكة حريصة على استمرار العمل باتفاق “أوبك بلس”، لدوره الجوهري في استقرار أسواق النفط، وتشدد على أهمية التزام جميع الدول المشاركة بالاتفاق، ولعل هذا ما يعكس الدور المحوري والقيادي والمسؤول للمملكة في معالجة تلك القضية الحيوية للاقتصاد العالمي، التي أثبتت بُعد نظر المملكة ونجاح سياستها البترولية.
أولوية قضية التغير المناخي في الأجندة الدولية للمملكة، إذ أخذت على عاتقها تبني تلك القضية، واتخاذ خطوات ومبادرات على صعيد العمل على تعزيز تطبيق اتفاقية باريس للمناخ، وإطلاق مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، الأمر الذي يؤكد ريادة السعودية وقيادتها العالمية لجهود حماية البيئة، وتخفيض انبعاثات الكربون، وتعزيز الصحة العامة وجودة الحياة، وتحسين كفاءة إنتاج النفط ورفع معدلات الطاقة المتجددة، وتحقيق التنمية المستدامة.
كما استحوذت السياسة الخارجية على مساحة كبيرة من خطاب خادم الحرمين الشريفين – أيده الله-، الذي أوضح أن الثقل الإقليمي والدولي للمملكة، ينطلق من 3 ركائز أساسية وهي؛ ريادتها العالمية ودورها المحوري في السياسة الدولية، والتزامها بالمواقف الراسخة نحو إحلال الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة والعالم، وتعزيز مفهوم السلام والتعايش والتنمية المستدامة، وهو ما تناوله الخطاب على نحو مفصل عبر النقاط التالية:
تجديد الدعوة لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، ودعم التعاون لحظرها ومنع انتشارها، وإدانة استخدامها، وتمثل تلك رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي بموقف المملكة الثابت تجاه تلك القضية الشائكة في وقت تشهد فيه فيينا الجولة الثامنة من المحادثات الرامية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني.
الحرص الدائم على الحفاظ على كيان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو ما تجلى في جهود الدبلوماسية السعودية على مدار هذا العام الذي كانت بدايته مع “قمة العلا” التي استطاعت إعادة العمل المشترك إلى مساره الطبيعي، وتعزيز أواصر الود والتآخي ووحدة الصف الخليجي؛ كما استضافت المملكة اجتماع الدورة (42) للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تكللت بإصدار إعلان الرياض الذي تضمن الاتفاق على المبادئ والسياسات لتطوير التعاون الاستراتيجي والتكامل الاقتصادي والتنموي بين دول المجلس وتحقيق تطلعات مواطنيها.
دعم القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب والمسلمين المحورية، والتي تأتي على رأس أولويات سياسة المملكة الخارجية، مع تجديد الالتزام بدعم الشعب الفلسطيني الشقيق لاستعادة حقوقه المشروعة، وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية بحدود عام (1967م) وعاصمتها القدس الشرقية، ويعكس ذلك نظرة استراتيجية عميقة لجوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وآفاق الحل والتسوية التي تستند إلى الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
مطالبة إيران بتغيير سياستها وسلوكها السلبي في المنطقة ودعوتها إلى الحوار والتعاون، لقد فند الخطاب سياسة النظام الإيراني المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة عبر إنشاء ودعم الميليشيات الطائفية والمسلحة، والنشر الممنهج لقدراته العسكرية في دول المنطقة، وعدم التعاون مع المجتمع الدولي فيما يخص البرنامج النووي، وتطويره برامج الصواريخ الباليستية، فضلاً عن دعم النظام الإيراني لميليشيا الحوثي الإرهابية الذي يطيل أمد الحرب في اليمن ويفاقم الأزمة الإنسانية فيها، ويهدد أمن المملكة والمنطقة، في وقت أكدت فيه المملكة ولا تزال الحرص على أمن واستقرار اليمن، واتخذت خطوات لرفع المعاناة الإنسانية عن الشعب اليمني الشقيق، وطرحت مبادرة شاملة لإنهاء الصراع الدائر في اليمن، تستهدف حلًا سياسيًا وفقًا للمرجعيات الثلاث: “المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني الشامل، وقرار مجلس الأمن الدولي 2216”.
الدعوة لإيقاف هيمنة حزب الله الإرهابي على مفاصل الدولة اللبنانية، وهذا الطرح يأتي من منطلق نهج السياسة السعودية الداعمة لمؤسسات الدولة الوطنية في المنطقة والرافض لوجود أي دور للميليشيات المسلحة التي تقوض دولة المؤسسات وتفرض أجندات خارجية تتعارض مع المصلحة الوطنية والقومية، وقد أكد خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، على وقوف المملكة إلى جانب الشعب اللبناني الشقيق، داعيًا جميع القيادات اللبنانية لتغليب مصالح الشعب.
دعم الحلول السياسية لتسوية الأزمات في سوريا وليبيا والسودان بما يحافظ على سيادة ووحدة وسلامة تلك البلدان الشقيقة، ويحقق الأمن والاستقرار فيها، وينهي معاناة شعوبها.
التركيز على البعد الإنساني للسياسة الخارجية للمملكة، عبر الاهتمام بالوقوف إلى جانب الدول الأقل دخلًا، والدول المنكوبة والمتضررة، واللاجئين والمتضررين، إذ لم تألُ المملكة جهدًا في تقديم المساعدات التنموية والإنسانية التي شملت الصحة والتعليم والإيواء، وتوفير المواد الغذائية والمساعدة في تحقيق الأمن الغذائي، استفاد منها قرابة (42) مليون شخص من اللاجئين والنازحين، حيث لعب مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية دورًا رئيسيًا في تلك الجهود.
وختم خادم الحرمين الشريفين الخطاب الملكي السنوي برسائل تحفيز ودعم تمثلت في مخاطبة المواطنين والمقيمين بتوجيه الشكر لهم على تجاوبهم للتعليمات والإجراءات الخاصة بمكافحة فيروس كورونا في توقيت بالغ الأهمية، مع مواجهة العالم موجة جديدة من انتشار الوباء في ظل المتحور أوميكرون شديد العدوى، وبالمثل رسالة شكر للعاملين في فرق مواجهة الجائحة على جهدهم الرئيسي في التصدي للوباء، بالإضافة إلى رسالة شكر إلى الجنود السعوديين البواسل في جميع القطاعات، وفي الحد الجنوبي، فهم العين الساهرة لحماية المملكة وصون أمنها واستقرارها، الذي يجعلها تمضي واثقة الخطى في طريق التنمية المستدامة والتحديث.
من الاستعراض السابق، يتضح أن خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله – أمام مجلس الشورى حمل مجموعة من الرسائل الموجهة للداخل والخارج سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، وذلك على النحو التالي:
أولًا بالنسبة للمواطنين:
تمحورت الرسالة المركزية في خطاب خادم الحرمين الشريفين – رعاه الله – في طمأنة المواطنين بأن المملكة تسير بخطى ثابتة وواثقة في سبيل تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت، والتي تُعد مجرد بداية لمزيد من الإنجازات التي تضمن الرفاه والتقدم والازدهار ليس فقط للجيل الحالي، وإنما للأجيال القادمة بعون الله تعالى.
ومن الانعكاسات الهامة لهذه الرسالة، شعور المواطن السعودي بالفخر والاعتزاز بوطنه وقيادته الرشيدة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – أيدهما الله – وتعزيز مشاعر الهوية والانتماء للمملكة؛ لأنها أصبحت مشاعر لا تقتصر على الحس الوطني فحسب، وإنما قائمة أيضًا على حقائق ومنجزات يستطيع السعوديون تلمسها على أرض الواقع، ويتم استعراضها بلغة الأرقام والتقارير الدولية والريادة السعودية على الصعيد العالمي.
ثانيًا على الصعيد الخارجي:
فقد تضمن خطاب الملك سلمان العديد من الرسائل، يمكن استعراضها فيما يلي:
1- على الصعيد الخليجي والعربي:

التأكيد على أن نبذ الخلافات وتعزيز التعاون هو السلاح الأكثر فاعلية لمواجهة التحديات والمخاطر من جانب وتحقيق التنمية من جانب آخر.
لا بد من التوصل لحل سياسي سلمي للأزمات التي يعيشها عدد من الدول العربية.
تبذل المملكة جهودًا كبيرة من أجل استعادة بعض الدول إلى حاضنتها العربية.
تتقدم المملكة الصفوف في مواجهة المشاريع التخريبية الهدامة التي تقودها بعض الدول الإقليمية وعلى رأسها إيران.
وعلى الرغم من أن خادم الحرمين الشريفين بدأ كلامه عن إيران من منطلق أنها دولة جارة، فإن إشارته إلى الأمل في أن تغير سياساتها وسلوكها السلبي في المنطقة حمل خطابًا تحذيريًا شديد اللهجة بأن السعودية لم ولن تسمح أبدًا في أن يستمر النظام الإيراني في هذا النهج المزعزع للأمن والاستقرار في المنطقة.
2- على الصعيد الدولي:
حمل خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز – رعاه الله – رسالة محورية شديدة الأهمية للمجتمع الدولي تتمثل في أن المملكة العربية السعودية تتبع سياسة مبدئية قائمة على الحفاظ على الاستقرار والسلام في المملكة والمنطقة والعالم، ولذلك تتقدم الصفوف في مواجهة الإرهاب، وتقود الجهود الدولية من أجل التوصل للحول السلمية للأزمات والمشكلات.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الجهود السعودية لتحقيق التنمية والازدهار وتحسين مستوى معيشة المواطن هي جهود عابرة للحدود، وهو ما تم ترجمته في العديد من المبادرات التي أطلقتها المملكة واعتمدتها الأمم المتحدة، لتتحول التجربة السعودية من المحلية إلى العالمية لتستفيد منها شعوب العالم أجمع.
وإجمالًا .. فقد حمل خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز – أيده الله – رسالة أمن وطمأنينة للسعوديين ورسالة سلام ورخاء للبشرية.

زر الذهاب إلى الأعلى