تقارير

انتهازية أردوغان وإرث أتاتورك

في خطوة جديدة مثيرة للجدل، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الذكرى الـ83 لوفاة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية بتصريح لافت تحدث فيه بفخر عن وجود تركيا في ليبيا وسوريا وأذربيجان، مدعيًا أن ذلك يأتي للحفاظ على إرث أتاتورك، معتبرًا أنه يعتنق الإرث السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري لأتاتورك في تركيا.

ونشر أردوغان تغريدة كتبها باللغة التركية على حسابه الرسمي بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” جاء في نصها: “أحيي ذكرى القائد العام لحرب استقلالنا، مؤسس جمهوريتنا غازي مصطفى كمال أتاتورك، بأحر التعازي والرحمة في الذكرى الثالثة والثمانين لوفاته”، وهي التغريدة التي ظهرت في حساب أردوغان باللغة الإنجليزية، بينما غابت تمامًا عن حسابه باللغة العربية الذي يخاطب به الجمهور العربي.

ويسلط ذلك التصريح وآلية النشر المُتبعة عبر حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بأردوغان الضوء مجددًا على تناقضات الرئيس التركي التي لا تنتهي، فهو ينتمي أيديولوجيًا لتيار الإسلام السياسي ويدعم جماعة الإخوان المسلمين، وفي الوقت ذاته يدعي الإخلاص لإرث أتاتورك العلماني، ورغم سعي أردوغان لإحياء الإمبراطورية العثمانية وركضه وراء حلم إقامة خلافة إسلامية يُنصّب نفسه فيها خليفة، فإنه يزعم السير على خطى أتاتورك الذي قام بإلغاء الخلافة بإعلان دستور عام 1921، والذي أسس الجمهورية في تركيا.

ما وراء الخطاب الأردوغاني عن أتاتورك

تحيي تركيا ذكرى وفاة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها في 10 نوفمبر من كل عام، وتحديدًا في تمام الساعة 9:05 صباحًا، وهي اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، حيث تدق صفارات الإنذار بصوت عالٍ في جميع أنحاء البلاد، ليقف المواطنون دقيقة صمت إحياءً لذكراه، بينما تجري مراسم رسمية لإحياء الذكرى عند ضريح أتاتورك في العاصمة أنقرة، وقد شارك فيها أردوغان بحضور رؤساء أحزاب “الشعب الجمهوري” كمال كليتشدار أوغلو، و”الحركة القومية” دولت باهتشلي، و”الخير” ميرال أكشينر، فضلًا عن قادة أركان الجيش، وعدد آخر من المسؤولين، وألقى أردوغان كلمة قال فيها  إن “غازي أتاتورك وجد في سوريا وليبيا والقوقاز وأنا اليوم في سوريا وليبيا وأذربيجان، إذا كان هناك أحد يسير على نهج أتاتورك فهو نحن”.

ويشار إلى أن لقب غازي ويعني المجاهد كان لا يمنح إلا للسلطان، لكن أتاتورك حصل عليه بعد الانتصار التركي في معركة “سقاريا” عام 1921 ضد اجتياح الجيش اليوناني لتركيا.

وهنا تثار سلسلة من التساؤلات أبرزها لماذا ألقى أردوغان تلك الكلمة؟ وما الأهداف التي يتوخاها من ورائها؟ ويمكن الإجابة ببساطة بأن السبب يكمن في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة عام 2023، فالفوز بها الآن أهم هدف لأردوغان الذي تظهر استطلاعات الرأي التي تجريها شركات أبحاث مستقلة، تراجع شعبيته، وكذلك حزبه العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، بسبب الأوضاع المتردية التي تشهدها البلاد على كافة الأصعدة، ولا سيما الاقتصادية منها، والناجمة عن تبني سياسات فاشلة وتدخلات أردوغان في السياسة المالية عبر تعيينات وإقالات متكررة لكبار المسؤولين في البنك المركزي.

ويسعى أردوغان من وراء ذلك الخطاب عن إرث أتاتورك إلى منازعة حزب الشعب الجمهوري في هذا الإرث الذي يكتسب من خلاله رصيدًا كبيرًا لدى الناخبين، لا سيما في ظل مخاوف من منافسة قوية من جانب الحزب في انتخابات الرئاسة المقبلة عبر مرشحين محتملين أبرزهم عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو.

كما يهدف أردوغان أيضًا إلى مغازلة القاعدة الانتخابية التي كانت تشكل تقليديًا تيار “يمين الوسط” في السياسة التركية، والذي كان يمثل دائمًا منطقة وسطى براجماتية بين العلمانيين المؤيدين لأتاتورك والمحافظين المؤيدين للعدالة والتنمية.

ومن بين دوافع أردوغان إلى ارتداء قبعة أتاتورك رغبته في تقديم نفسه على أنه “أتاتورك الثاني”، وأنه المنقذ الثاني للأمة التركية، ويشمل ذلك ادعاء أردوغان أنه يقود “حرب التحرير الثانية لتركيا” بعد الحرب الأولى التي قادها أتاتورك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبدا ذلك واضحًا في أكثر من مناسبة من أبرزها حين وصف أردوغان في أبريل 2018 الغزو التركي لمنطقة عفرين في شمال سوريا التي يوجد فيها الأكراد بأنها “حرب التحرير الثانية”.

ازدواجية الخطاب الأردوغاني

تعتبر الازدواجية والتناقض سمة أساسية في الخطاب العام للرئيس التركي، ويتضح ذلك بشكل أكثر جلاءً في اختلاف طبيعة المفردات المستخدمة في الخطاب والأساس الأيديولوجي والفكري الذي ينطلق منه، تبعًا لتغير الجهة المخاطبة، وهو ما يظهر من خلال النقاط التالية:

الخطاب الموجه إلى العالم العربي

تتمحور خطابات وتصريحات ورسائل أردوغان الموجهة إلى العالم العربي حول دعم تيار الإسلام السياسي والترويج لمشروعهم الخاص بالخلافة، الذي سيكفل له- وفقًا لتصوره- استعادة الإمبراطورية العثمانية البائدة، وقد ظهرت النزعة العثمانية الجديدة في تصرفات أردوغان واستخدامه للقوة العسكرية في سوريا والعراق وليبيا، فبينما ادعى أن الاعتداء العسكري والتوغل في الأراضي السورية والغارات المتكررة في شمال العراق دفاع عن الأمن القومي التركي ضد الأكراد، إلا أن الأتراك قاموا بنهب الثروات لا سيما النهب المُمنهج للآثار في تدمر السورية والموصل، ونهب بترول الموصل في العراق ومنطقة الجزيرة في سوريا. وبالمثل جاء الوجود العسكري التركي في ليبيا تنفيذًا لاستراتيجية تُسمَّى بـ”الوطن الأزرق” تهدف إلى الهيمنة على شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة، من أجل استنزاف ثروات تلك المناطق.

واللافت أن خطاب أردوغان في الداخل التركي يتضمن اعترافًا واضحًا بتلك الأطماع ومخططات الهيمنة، ومن الشواهد على ذلك تصريحاته أمام منتدى “تي آر تي وورلد” الذي عقد في إسطنبول عام 2019، حينما قال إن “الأتراك يوجدون في ليبيا وسوريا، من أجل ما سماه بـ”حقهم”، معتبرًا أن الأتراك اليوم يوجدون في “جغرافيتهم احترامًا لإرث الأجداد”، على حد زعمه.

تحولات الخطاب نحو الاتحاد الأوروبي

مر الخطاب الأردوغاني تجاه أوروبا بتحولات متعددة فمنذ بداية وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 وحتى عام 2010 كان الخطاب في إطار دبلوماسي يعمل على تعزيز التعاون من أجل الوفاء بمتطلبات العضوية في الاتحاد الأوروبي، لكن مع بداية عام 2011 وموجة الاحتجاجات التي شهدها عدد من البلدان العربية والتي عرفت بما يسمى بـ “الربيع العربي”، بدا التحول في السياسة الخارجية التركية من التوجه نحو أوروبا إلى الانخراط في الإقليم عبر تدخلات سياسية وعسكرية سافرة، ورافق ذلك خطاب عدائي تجاه أوروبا استخدمت فيه أنقرة  أوراقًا للضغط والابتزاز من أهمها ورقة اللاجئين والمهاجرين الفارين من الصراع في سوريا والتي بموجبها عقدت تركيا اتفاقًا مع الاتحاد الأوروبي حصلت بموجبه أنقرة على مساعدات بمليارات الدولارات مقابل وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، ولم يكن هذا الاتفاق كفيلًا بوضع حد للابتزاز التركي الذي تجدد في صدامات أخرى مع بروكسل من بينها النزاع مع اليونان وقبرص على الغاز في شرق المتوسط، حيث قامت في فبراير 2020 بفتح الحدود والسماح للاجئين بعبور الحدود إلى بلغاريا واليونان.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ينتهج سياسة براجماتية متقلبة لا تتقيد بأيديولوجية بعينها، فلكل سياق لغة خطاب ومفردات خاصة تلائم الهدف المرحلي، فسياسات تركيا أردوغان تعتمد على تقاربات تكتيكية وليست تحالفات استراتيجية دائمة.  ونخلص من ذلك إلى أن الأيديولوجية التي تحكم تركيا ليست “الإسلاموية”، كما يعتقد البعض ولكنها “الأردوغانية” وهي مزيج من أيديولوجية الإخوان المسلمين والقومية التركية والشعبوية المناهضة للنخبة، وتتسم بالطابع الانتهازي.

زر الذهاب إلى الأعلى