تقارير

حروب الجيل  الرابع.. الخصائص والأدوات

لم تعد الحرب اليوم كما كانت في الماضي، فالحروب الآن ليست مقصورة على استخدام الأسلحة والمعدات العسكرية فقط، بل أخذت أشكالًا جديدة، واستحدثت وسائل وأساليب أخرى لتحل محل الحروب التقليدية بين الجيوش النظامية المختلفة، وذلك تزامنًا مع التطور التكنولوجي المستمر وخاصة في مجال الاتصالات والمعلومات، الأمر الذي دفع الباحثين ومراكز الدراسات  الاستراتيجية إلى تسمية هذا النوع من الحروب بـ”حروب الجيل الرابع”.

وجاء استحداث هذا النوع من الحروب بغية تفادي الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الكبرى في أغلبية الحروب التي خاضوها، مع أنهم يشكلون الطرف الأقوى من كافة النواحي في مواجهة دول تعتبر ضعيفة اقتصاديًا وعسكريًا، إذ أثار ذلك الوضع تساؤلًا لدى الاستراتيجيين، مفاده كيف تنجح الولايات المتحدة في علاج هذه المعضلة؟ فعلى الرغم من أنها دائمًا ما تكون الطرف الأقوى عسكريًا واقتصاديًا فإنه قد تنتهي بها الأمور إلى الهزيمة، فكانت الإجابة هي جعل الخصم يقتل نفسه بنفسه دون إطلاق رصاصة واحدة، فاستثمار 1% من تكلفة الحرب على الإعلام الخبيث والشائعات كفيل بتمزيق أواصر الدولة المستهدفة. ومن هنا انطلقت فكرة الجيل الرابع من الحرب غير المتكافئة، فبدل قوة النيران التي تم تجاوزها، حلت محلها قوة إشاعة الفوضى وتفجير الدول من الداخل.

مفهوم حروب الجيل الرابع

يطلق عليها “الحروب اللامتماثلة- Asymmetric Warfare” أو الحروب غير المتكافئة والتي تعني وفقًا لأنطونيو إتسيفاريا- الأكاديمي العسكري الأمريكي – أنها “تلك الحروب التي تعتمد على نوع من التمرد تستخدم فيه القوات غير النظامية كل الوسائل التكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بهدف إجبار الخصم – الذي يمثل قوة نظامية-  على التخلي عن سياسته وأهدافه الاستراتيجية، أما ماكس مايورانيج – المحاضر في معهد الدراسات الاستراتيجية بكلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي- فيعرف حروب الجيل الرابع بأنها الحرب التي تكون بالإكراه، وتعمل على إفشال الدولة وزعزعة استقرارها، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية.

وتستهدف حروب الجيل الرابع بشكل أساسي القطاع المدني للدولة من خلال استخدام استراتيجية الهدم من الداخل عن طريق توسيع الخلافات داخل مكونات الدولة وإنهاكها لتتآكل ببطء، ولعل الاتحاد السوفيتي السابق كان من أبرز من تعرض لذلك  النمط من الحروب.

أما فيما يتعلق بأهداف حروب الجيل الرابع، فهي عديدة ويمكن تلخيصها فيما يلي:

إنهاك المؤسسة العسكرية لتتآكل ببطء وفي النهاية إرغام الدولة المستهدفة على تنفيذ ما تريده الجهات التي تقف وراء تلك الحرب.

تحويل الدولة المستهدفة إلى دولة فاشلة، وذلك عبر عملية تحدث بخطوات يتم تنفيذها ببطء شديد باستخدام مواطني الدولة ذاتها.

تفتيت مؤسسات الدولة بالكامل.

تحقيق نفس أهداف الحروب التقليدية.

تجنب مشكلات ما بعد الحروب التقليدية مثل الروح العدائية ضد الدولة المعتدية.

لذلك يمكن القول إن الجيل الرابع من الحروب هو مفهوم يعبر عن الصراع الذي يتميز باللامركزية من حيث تغير أسس الحرب وعناصرها، ما يعني تجاوز المفهوم العسكري الضيق للحروب إلى المفهوم الواسع، حيث توظف القوى الناعمة في هذه الحروب إلى جانب الأدوات العسكرية.

ففكرة هذه الحروب تعتمد على صناعة وتوجيه نوع من التمرد أو الاحتجاج أو المعارضة أو الجماعات المسلحة “الميليشيات” داخل الدولة المستهدفة، حيث لا يكون الصراع المسلح بين قوتين عسكريتين نظاميتين، بل بين الدولة ومجموعات غير نظامية “ميليشيات” تستخدم فيها كل الوسائل التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بهدف إجبار الدولة على التخلي عن سياساتها وأهدافها الاستراتيجية. ويكون القائمون على هذه الحروب في بعض الأحيان أطرافًا غير منظورة تسعى لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار داخل الدول والمجتمعات.

بالإضافة إلى ذلك، تجمع حروب الجيل الرابع أنواعًا مختلفة من الحروب، كالحرب الإعلامية والنفسية والحرب العسكرية دون وجود جيوش نظامية، وتستخدم فيها منظومات وبرامج مخابراتية تجسسية وفرق خاصة للخلايا النائمة، وتسخر لها منظومات متكاملة مساندة (معلومات لوجستية- وسائل الاتصال- موارد وأجهزة ومعدات متطورة)، لتحقيق مكاسب وأهداف سياسية وعسكرية واقتصادية في بقعة ما من أرض الصراع التي تتمتع بأهمية خاصة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، أو دولة لها أهمية ما على صعيد الجغرافيا السياسية، وغالبا ما يتم تنفيذها مع الدول التي يحمل التدخل العسكري المباشر فيها تكلفة عالية للغاية تجعل ذلك الخيار شبه مستحيل.

ويُخطط لعمليات حروب الجيل الرابع بعناية فائقة، مع ضرورة تأمين البيئة والمناخ المناسبين لتبدو عملياتها نمطية وشائعة، بغرض صرف الأنظار عن منفذيها وارتباطهم التنسيقي العملياتي، ودوافعهم لإحداث التأثير الاستراتيجي للحدث المطلوب توظيفه سياسيًا أو إعلاميًا لكسر إرادة الخصم أي  (الدولة المستهدفة) أو نخر منظومته الأمنية، أو اختراق مقصود لمؤسساته الأمنية لبيان نياته وأبعاد تخطيطه من أجل مواجهة المؤامرة القائمة.

وتوجد سمات مختلفة لهذا الجيل من الحروب تجعلها مختلفة جذريًا عن الأجيال السابقة، تتمثل في أنها ليست نمطية كحروب الأجيال السابقة، فهي تعتمد على التقدم التكنولوجي وتستخدم القوة الذكية كسلاح ذهني، كما تعمل على تحويل الدولة المستهدفة من حالة الدولة الثابتة إلى الحالة الهشة.

بالإضافة إلى أنها تتسم بعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة والعسكريين والمدنيين، وتعتمد على شبكة صغيرة من الاتصالات والدعم المالي غير الواضح، فضلاً عن عدم وجود تسلسل هرمي، بجانب الاعتماد على ميليشيات مسلحة وجماعات إرهابية مثل تنظيم “داعش” الإرهابي.

خصائص الجيل الرابع من الحروب

تجسد حروب الجيل الرابع حالة من الحرب طويلة الأمد ومتعددة الجبهات، يصعب فيها التفريق بين المقاتلين وغير المقاتلين، والجندي والمدني والسياسة والحرب، وتتسم بمجموعة من الخصائص، تتمثل فيما يلي:

  • اجتماعيًا: تتدهور فكرة الدولة في مقابل بروز حالة من الولاء لثقافات بعينها عابرة للدول في العالم بأسره، وغالبًا ما يرافق ذلك إضعاف التجانس المجتمعي. فهي تعمل على خفض الانسجام في المجتمع، ويصبح العالم المعولم هو البيئة المثالية لتلك الحروب التي تحقق نجاحًا كبيرًا في المجتمعات المفتوحة.
  • سياسيًا: أنهت حروب الجيل الرابع احتكار الدولة للحرب، كما شجعت على إعادة ظهور الكيانات من غير الدول كالقبائل والجماعات العرقية وغيرها، وأظهرت الدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه الحملات الدعائية والضغط النفسي في التأثير على التوجهات العامة لصانعي القرار ومن بإمكانه التأثير عليهم.
  • عسكريًا: انتشار القوات المتحاربة بمعزل عن الحدود السياسية والجغرافية للدول المجاورة، والهدف الرئيسي من العمل العسكري هو القضاء على إرادة الشعب وإحكام السيطرة على نظامه السياسي، ويعد الإرهاب هو الوسيلة الأكثر شيوعًا في تحقيق ذلك الهدف، وهو الإنهاك عسكريًا ونفسيًا وليس القضاء على الدولة تمامًا.

بالإضافة إلى غياب الطابع المؤسسي، فهي حروب شبكية، حيث لا يوجد لها مركز ثقل يعكس الهيكل المؤسسي، وكذلك غياب القيادة فيها واعتمادها على وجود أفراد يعملون منفردين بناء على تعليمات محددة من منظمة مركزية.

أدوات حروب الجيل الرابع

تتنوع وسائل حروب الجيل الرابع التي يتم من خلالها تجنيد أفراد ومنظمات وأحزاب داخل الدولة المستهدفة بحيث يتم إقناعهم بحتمية إسقاط الحكومة القائمة، وتفتيت الكيان النظامي للمجتمع، ومن ثم تسهيل عملية اختراقها.

الإعلام الرقمي:

يعد الإعلام هو أقوى أسلحة حروب الجيل الرابع لا سيما وسائل الإعلام الجديد، وتحديدًا مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت أشبه بإدمان إلكتروني جديد لدى الملايين من سكان العالم، ووسيلة مثلى لنشر الشائعات واستخدام الحرب النفسية على أوسع نطاق بتضخيم الأخطاء الصغيرة الفردية، وتسفيه الإنجازات والانتصارات الكبيرة.

ويستخدم الإعلام من قبل الدول الفاعلة في حروب الجيل الرابع للتأثير على مواطني الدولة المستهدفة وكسب تعاطفهم؛ بهدف توجيه الصورة الذهنية لدى هذه الشعوب بما يخدم أجندتها في مقابل التنفير من النظام الحاكم، الأمر الذي من شأنه زعزعة أركان الدولة، ويجعل الإعلام أداةً أكثر فتكًا من الجيوش العسكرية.

الفضاء الإلكتروني:

أسهمت شبكات الإنترنت في إيجاد قدرة عالية وسريعة على الحشد، تستطيع تنظيم احتجاجات واضطرابات يتم توجيهها من قِبل أجهزة استخبارات أجنبية.

الإرهاب والميليشيات المسلحة:

الإرهاب والميليشيات المسلحة التي ترفع السلاح في وجه الدولة، وكذلك تحريك المظاهرات بحجة السلمية، ثم الاعتداء على المنشآت العامة والخاصة.

الحرب النفسية عبر الإعلام:

استخدام الحرب النفسية المتطورة من خلال الإعلام والتلاعب النفسي، والاعتماد على محطات فضائية كاذبة تقوم بتزوير الصور والحقائق، وتمويل صفحات تواصل اجتماعي تنشر معلومات مضللة.

اللعب على وتر التوترات العرقية والطائفية:

تحريض الأقليات العرقية أو الدينية على التمرد، وضرب طبقات المجتمع ببعضها البعض، واستخدام كل الضغوط المتاحة سياسية واقتصادية واجتماعية.

تأثير منظمات المجتمع المدني والمعارضين بالخارج:

وذلك من خلال استخدام منظمات المجتمع المدني والمعارضين في الخارج، والاعتماد على العملاء والخونة في الدولة المستهدفة، وتسليط الأضواء عليهم، بل وحتى منحهم جوائز عالمية من أجل تلميع صورتهم وتقديمهم في صورة شخصيات مؤثرة.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن مصطلح حروب الجيل الرابع يُستخدم للإشارة إلى محاولات الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، التلاعب بدول الشرق الأوسط، وتحقيق مخططها لتغيير خارطته إلى “شرق أوسط جديد” باستخدام طرق حديثة لا تشمل الاحتلال الفعلي للأراضي والمواجهات المباشرة مع الجيوش النظامية، وإنما تعتمد في الأساس على حروب المعلومات ونشر الشائعات، إضافة إلى استخدام الجماعات المأجورة لتنفيذ عمليات نوعية على الأرض.

بالإضافة إلى ذلك، صاحب تزايد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي تبلور عدد من الظواهر السلبية ذات الصلة بحروب الجيل الرابع؛ مثل تحريف الحقائق، ونشر الشائعات، واستخدام التنظيمات الإرهابية فضاء التواصل الرقمي من أجل تجنيد واستقطاب الشباب من أجل استهداف بنية الدولة وزعزعة استقرار الأنظمة السياسية.

كما تطورت آليات الحرب النفسية نتيجة التطور التكنولوجي في طرق وأساليب الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، وتبلورت هذه الأساليب في العمل على هدم النظم والأسس والمبادئ التي تقوم عليها الدول بالتشكيك والشائعات، أو جذب مجموعة من الشباب بالخداع والتضليل للعمل ضد الدولة، فهذه الحروب تستهدف الأفراد وتسعى إلى التلاعب بمدركاتهم، وإثارة سخطهم على الأوضاع القائمة بغرض الانتقاص من شرعية الحكومات ونظم الحكم القائمة، والتشكيك في مصداقية وسائل الإعلام التقليدية من خلال إثارة التوترات المجتمعية، والترويج للأفكار المتطرفة والهدامة، وبث الشائعات ونشر الأخبار الكاذبة التي تزداد خطورتها بالنظر إلى أن مستقبلي الشائعات الذين يساعدون على ترويجها ليسوا أعداء وإنما هم، عادة، مواطنون صالحون تعرضوا للخداع، وتحولوا إلى أدوات لترديد ونشر الأكاذيب دون أن يدركوا أنهم فريسة.

وقد جسّد ما يسمى بالربيع العربي نموذجًا واضحًا لحروب الجيل الرابع التي استهدفت الدول العربية كافة مع اختلاف الأدوات المستخدمة في كل حالة، فعلى سبيل المثال تم الاعتماد على الميليشيات في ليبيا وكذلك في اليمن حيث ميليشيات الحوثي الإرهابية، بينما تم الاعتماد على سلاح الشائعات في دول يصعب استهدافها بشكل مباشر كالمملكة العربية السعودية ومصر.

وتباينت درجات التأثر الشعبي بتلك الحروب تبعًا لدرجة الوعي بتلك المؤامرات، لذا يُعد الوعي حائط الصد وخط الدفاع الأول في مواجهة هذه الحروب غير التقليدية، وفي القلب من تلك العملية تأتي أهمية الدور الذي يقوم به الإعلام بكافة أشكاله سواء كان تقليديًا أم جديدًا.

زر الذهاب إلى الأعلى