تقارير

تراجع شعبية بايدن.. الأسباب والتداعيات

أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن مع توليه مقاليد السلطة في الولايات المتحدة في 20 يناير الماضي وعودًا كبرى في خطاب تنصيبه بتوحيد الأمريكيين والسعي إلى رأب الصدع الداخلي في ظل الانقسامات الحزبية، مع تأكيده على أن الولايات المتحدة مستعدة لقيادة العالم، متخذًا من شعار “أمريكا عادت” عنوانًا رئيسيًّا لسياسته الخارجية، إلا أن أيًا من تلك الملفات لم تشهد اختراقات كبرى على النحو المأمول لدى القاعدة العريضة من الأمريكيين، وهو ما انعكس في شعبية بايدن التي سجلت في الأشهر الـ9 الأولى له في الرئاسة تراجعًا سريعًا لم تعرفه شعبية أي رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية.

ووفقًا لنتائج استطلاع نشره معهد “غالوب” لبحوث الرأي العام في 23 أكتوبر الجاري، فإن شعبية بايدن انخفضت من 56% إلى 44.7%، ليفوق معدل انخفاض شعبيته البالغ 11.3% المعدلات الخاصة بالرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة منذ عام 1945. وقد تجاوز بايدن بذلك الرقم القياسي الذي حققه الرئيس الأسبق باراك أوباما لأسرع انخفاض في الشعبية في الأشهر التسعة الأولى من رئاسته بنسبة 10.1%، بينما بلغ معدل انخفاض شعبية سلف بايدن الرئيس السابق دونالد ترامب 4.4% فقط في الفترة ذاتها.

يُرجع العديد من المراقبين والمتابعين للشأن الأمريكي، التراجع الحاد في شعبية الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة إلى جملة من العوامل والأسباب التي أدت إلى اهتزاز ثقة الأمريكيين بالإدارة الديمقراطية الحالية وقدرتها على إدارة الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية،  وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

تراجع الثقة في تعامل الإدارة الأمريكية مع أزمة كورونا

أدت سلالة دلتا المتحورة من فيروس كورونا، سريعة الانتشار، إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالفيروس وحالات دخول المستشفيات والوفيات، مما أثار انتقادات جماهيرية لأسلوب إدارة بايدن لتلك الأزمة، وهو ما رصدته مذكرة أعدها الخبير الاستراتيجي الديمقراطي سيمون روزنبرغ اعتبر فيها أن التراجع الحاد لبايدن لا يمكن تفسيره إلا من خلال أن الجمهور يرى أن الرئيس الأمريكي لا يتعامل بشكل جيد مع أزمة الوباء ويعطيها الأولوية، في حين يتم إنفاق عشرات الملايين من الدولارات لتسويق أجندة بايدن التشريعية التي ترتكز على التوسع في إنشاء وتطوير البنية التحتية، وزيادة حزم الإنفاق الاجتماعي وحل مشكلات التغير المناخي.

واللافت أن السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جين ساكي أقرت ضمنًا بأن الإدارة الأمريكية اعتقدت بشكل خاطئ أنه قد تم اجتياز أزمة الوباء، مشيرة إلى أن استمرار الوباء يؤثر بلا شك على أعداد مؤيدي بايدن، وإن وصفت استطلاعات الرأي بـ”المتقلبة”.

السياسات الاقتصادية المتعثرة وأزمة تمويل الحكومة الفيدرالية

تواجه السياسة الاقتصادية للرئيس الأمريكي تعثرًا نابعًا ليس فقط من الخلافات مع الحزب الجمهوري، بل إن الأخطر هو الانقسامات داخل حزب بايدن “الحزب الديمقراطي” بين الجناحين اليساري والمعتدل حول خطة بايدن الاستثمارية الضخمة لتطوير البنية التحتية والبالغ قيمتها 1.2 تريليون دولار، وحزمة الإصلاحات الاجتماعية التي تقدر بـ 3.5 تريليون دولار، إذ جعل بايدن من إقرار هذين المشروعين الضخمين محورًا أساسيًا لولايته الرئاسية.

وبينما يضغط الأعضاء الأكثر يسارية في الحزب الديمقراطي من أجل إقرار النصّين في وقت واحد، يريد الأعضاء الأكثر اعتدالًا التصويت أولًا على مشروع قانون البنية التحتية، الذي يحظى بتأييد أكبر كونه ينصّ على استثمارات في مشاريع منتجة، على أن يأخذوا مزيدًا من الوقت لبحث وإقرار حزمة الإنفاق الاجتماعي.

ولم تقف الأزمات المتعلقة بإدارة السياسة الاقتصادية والمالية لإدارة بايدن عند هذا الحد، بل ظهر خلاف بشأن رفع سقف الدين، للحيلولة دون مواجهة الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، عجزاً عن سداد ديونها لأول مرة، ففي حين يشدد الجمهوريون على ضرورة تحمل الديمقراطيين وحدهم مسؤولية رفع سقف الدين لأن حزبهم يريد إنفاق تريليونات الدولارات لتوسيع البرامج الاجتماعية والتصدي لتغير المناخ. في المقابل، يقول الديمقراطيون إن “زيادة الاقتراض لازمة إلى حد بعيد لتغطية تكاليف خفض الضرائب، وبرامج الإنفاق خلال إدارة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، والتي أيدها جمهوريو الكونجرس”.

ويعتقد الأمريكيون أن بايدن لا يركز بشكل كافٍ على حل المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها المواطن، حيث تراجعت ثقة المستهلك في السياسة الاقتصادية للحكومة بشكل ملحوظ خلال الأشهر الستة الماضية، وفقًا لجامعة ميتشيغان الأمريكية.

ويشير استطلاع للرأي أجرته شبكة فوكس نيوز الأسبوع الماضي، أن 53% من الأمريكيين قلقون للغاية بشأن التضخم وارتفاع الأسعار، كما أفادت نتائج استطلاع حديث أجرته  مؤسسة يوجوف الأمريكية بأن التضخم والاقتصاد بشكل عام يمثل مشكلة لبايدن، حيث يرى 60% من الشعب الأمريكي أن الرئيس لا يركز بشكل كافٍ على مشكلة التضخم.

الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان

تعرض بايدن لانتقادات شعبية لاذعة وهجوم سياسي عنيف على خلفية الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، الذي أضر بسمعة الولايات المتحدة لا سيما بعد اعتراف رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي أمام لجنة بالكونجرس بأن واشنطن خسرت الحرب التي استمرت 20 عاماً في أفغانستان.

وتعتبر تلك أكبر هزيمة للولايات المتحدة منذ حرب فيتنام، وهي نهاية مُذلةٌ تمامًا لأطول حرب خاضتها في تاريخها، وإثر ذلك تزايدت الدعوات لعزل بايدن والتي جاءت من جانب سياسيين جمهوريين بارزين في مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والسيناتور الجمهوري البارز، ليندسي غراهام، الذي دعا بايدن بشكل صريح إلى التنحي عن منصبه في حال ترك أي مواطن أمريكي أو متعاون أفغاني في أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على السلطة، كما وصفت النائبة الجمهورية مارجيوري تايلور جرين “فشل بايدن كرئيس بأنه لا يوصف”.

وعلى الصعيد الشعبي أيضًا، واجه بايدن شخصيًّا انتقادات لاذعة وصلت إلى حد الصراخ الذي لاحقه من جانب أصدقاء وعائلات ضحايا جنود أمريكيين قضوا في الحرب بأفغانستان خلال جولة أجراها في ولاية نيو جيرسي المتضررة من إعصار “إيدا”، إذ اعتبروا أن هذه الدماء ذهبت سُدى، فضلًا عن تحميلهم الرئيس مسؤولية التخلي عن أفغانستان لتسقط في قبضة الإرهاب.

توتير العلاقات مع الحلفاء

رغم الانتقادات التي حملها بايدن على إدارة سلفه دونالد ترامب واعتباره أن استراتيجية ترامب مع الحلفاء وإزاء التحالفات أدت إلى تدمير نفوذ أمريكا، فإن الرئيس الديمقراطي لم يلتزم بوعوده بتعزيز العلاقات مع حلفاء واشنطن، وقد تجلى في تحركاته الأخيرة التي أثارت قلقهم، فعلى سبيل المثال توترت العلاقات مع باريس على نحو غير مسبوق، وتم استدعاء السفير الفرنسي لدى واشنطن بعد الإعلان عن تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، الذي تحصل بموجبه الحكومة الأسترالية على غواصات تعمل بالدفع النووي وإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية.

بالإضافة إلى ذلك أدى الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وتهميش الاتحاد الأوروبي خلال عملية الإجلاء التي قادتها الولايات المتحدة، إلى تشكك الحلفاء في التزامات واشنطن في الخارج، ولعل ذلك ما دفع وزراء دفاع الاتحاد إلى بحث مقترح لتشكيل قوة عسكرية أوروبية للرد السريع، ليتم اللجوء إليها في الأزمات ويبلغ عدد عناصرها خمسة آلاف. وسبق وأن شكّل الاتحاد الأوروبي في 2007 نظامًا يُسمى “بالتجمعات التكتيكية”، ولكنه لم يتم استخدامه أبدًا لأنه تتطلب إجماعًا من الدول الأعضاء لكي يتم تفعيله.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تراجع شعبية بايدن حال استمراره سيكون له تداعيات كبرى على حظوظ الديمقراطيين خلال انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة العام المقبل، فضلاً عن أن أجندته التشريعية المثيرة للانقسام داخل الحزب الديمقراطي تنذر بتقويض قدرة إدارته على تنفيذ وعوده الانتخابية ما يضع الديمقراطيين في مأزق أمام الناخبين. بالإضافة إلى أن إدارة بايدن تتسم بالجمود والبطء في اتخاذ القرار، فهي تمثل نمطًا كلاسيكيًا للسياسة الأمريكية على النقيض من إدارة سلفه الجمهوري دونالد ترامب الذي طبع ولايته الرئاسية بسمات غيّرت من شكل السياسة الأمريكية، إذ كانت إدارته تتسم بالقوة والجرأة في اتخاذ القرارات، وإجادة مخاطبة الجماهير بخطابات شعبوية.

زر الذهاب إلى الأعلى