تقارير

القوة الناعمة للسعودية

اتجهت العديد من الدول منذ سنوات إلى استخدام القوة الناعمة للحفاظ على مصالحها، وضمان حضورها الفاعل في أوساط المجتمعات والمناطق المختلفة حول العالم، حيث أضحت القوة الناعمة أسلوبًا مهمًا في التأثير على العقول وكسب العواطف، ومعرفة سلوك الشعوب واتجاهاتها وميولها. ويعتبر التسامح وقبول الآخر بعقلية منفتحة من أبرز عوامل صعود القوة الناعمة التي تعددت أساليبها وتنوعت أنماطها وأشكالها، وأسهمت في التأثير أكثر من النمط التقليدي الذي كان مستخدمًا لعقود، والمتمثل باستخدام القوة الصلبة.

وتُشكّل القوة الناعمة عنصر دعم ومساندة في عدد من القضايا فهي تمهد لإبرام اتفاقات ومعاهدات اقتصادية أحيانًا، وإنشاء تحالفات على مستوى الدول في أحيان أخرى، كما تعد في الوقت الحاضر أداة أساسية لزيادة النفوذ والحضور الفاعل القائم على استراتيجية تعزيز سمعة الدولة وصورتها الذهنية ومكانتها على المستويين الإقليمي والعالمي.

وتعتبر المملكة العربية السعودية نموذجًا مهمًا للدول التي تتمتع بعناصر القوة الناعمة، سواء في صورها التقليدية ممثلة في المكانة الدينية الرائدة كونها مهبط الوحي وبلد الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، فإليها يحج ويعتمر المسلمون من شتى بقاع الأرض، أو في النفط بوصف المملكة أكبر مصدر للنفط في العالم، أو على صعيد الدور الإنساني من خلال المساعدات التي تقدمها مملكة الإنسانية لإغاثة ومساندة المنكوبين، والوقوف بجوار شعوب العالم في أوقات الكوارث والأزمات المختلفة.

وقد تبنت القيادة الرشيدة للمملكة استراتيجية تقوم على تعزيز وتطوير مصادر القوة الناعمة التقليدية وإضافة عناصر جديدة لتلك القوة تمثلت في قطاعات مستحدثة مثل السياحة والترفيه وإطلاق ورعاية مبادرات إقليمية ودولية لتشكل تلك العناصر مجتمعة للقوة الناعمة – تقليدية وجديدة- بجانب القوة الصلبة، القوة الذكية التي تمتلكها المملكة وتمارس من خلالها التأثير على الساحتين الإقليمية والدولية.

القوة الناعمة وأدواتها

يعود مصطلح القوة الناعمة إلى أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جوزيف ناي الذي صاغه في كتابه “وثبة نحو القيادة bound to lead ” الذي أصدره عام 1990 ثم عاود استخدامه في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية The paradox of American power” عام 2002، ويستدعي مصطلح القوة الناعمة بشكل تلقائي نقيضه القوة الصلبة أو القاسية أو الخشنة.

وقد عرّف جوزيف ناي، القوة الناعمة بأنها في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استنادًا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد”، وهذه الجاذبية يمكن نشرها بطرق شتى: الثقافة الشعبية، الدبلوماسية الخاصة والعامة، المنظمات الدولية، مجمل الشركات والمؤسسات التجارية العاملة.

ويحصر جوزيف ناي القوة الناعمة لأي دولة من الدول الكبرى الفاعلة في المسرح العالمي في ثلاثة عناصر أساسية: أولًا الثقافة العامة وما إذا كانت جاذبة أم منفرة للآخرين. وثانيًا القيم السياسية ومدى جدية الالتزام بها سواء في الداخل أم في الخارج سلمًا أم حربًا. وثالثًا السياسة الخارجية المنتهجة ودرجة مشروعيتها وقبولها الطوعي من جانب دول العالم وشعوبه بما يعزز مكانة الدولة.

وتشمل القوة الناعمة مجموعة من أدوات الإقناع والجذب والتي تتم من خلال السمعة الدولية والسلطة المعنوية والأخلاقية والوزن الدبلوماسي والقدرة الإقناعية والجاذبية الثقافية والمصداقية الاستراتيجية والشرعية.

كما حدد ناي القوة الذكية بوصفها القدرة على مزج مصادر القوة الصلدة والناعمة، لكي تنتج استراتيجيات فعالة، فعلى عكس القوة الناعمة فإن القوة الذكية مفهوم تقييمي ووصفي، يعتمد على كيفية استخدامها.

رؤية المملكة 2030 ومظاهر القوة الناعمة السعودية

ارتبط التطور الذي تشهده كافة عناصر القوة الناعمة السعودية خلال السنوات القليلة الماضية برؤية المملكة 2030 التي أطلقها القائد الملهم سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، في 25 أبريل 2016، لا سيما عبر برامجها الرائدة ومستهدفاتها الطموحة ومشروعاتها العملاقة التي غطت كافة المجالات، وعلى هذا النحو تتعدد مظاهر القوة الناعمة للمملكة لتشمل:

السياحة والترفيه

تعد السعودية مركزًا لأربعة عوالم مهمة هي العالم الإسلامي  والعالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وعالم إنتاج الطاقة، وبفضل رؤية 2030 ستصبح مركزًا أيضًا للسياحة والترفيه، فمن معالم النهضة التي تشهدها المملكة في هذين القطاعين تعزيز السياحة الدينية، وفتح المجال أمام أنماط سياحية جديدة تجمع بين الثقافة والمغامرات والسياحة البحرية، حيث يستهدف قطاع السياحة 100 مليون زائر سنويًا بحلول عام 2030 منها 55 مليون زائر من الخارج. وتمتاز المملكة بوجهات سياحية ذات تنوع جغرافي وتاريخي، تسلط الضوء على الموارد الطبيعية والكنوز الأثرية والأماكن التاريخية، التي تلبي تطلعات السياح.

وفي هذا الإطار، وجدت المملكة بقوة في المعارض السياحية الدولية، واعتنت بتسويق الوجهات والمواقع والمسارات والمنتجات والباقات السياحية داخليًا وخارجيًا. كما تعمل المملكة على تنفيذ العديد من المشروعات السياحية العملاقة من أبرزها مشروع نيوم الذي تبلغ تكلفته الإجمالية نحو 500 مليار دولار، ومشروع القدية الترفيهي بتكلفة نحو 10 مليارات دولار، حيث يستهدف المشروع استضافة أول سباق لسباقات “فورمولا 1” الشهيرة بحلول العام 2023.

بالإضافة إلى مشروع أمالا السياحي أو ما يشتهر باسم “ريفيرا” السعودية والذي يوجد في مدينة تبوك على مساحة إجمالية تبلغ نحو 3800 كيلو متر مربع، حيث سيتضمن نحو 2525 فندقًا، وبدأ العمل فيه بالفعل منذ سبتمبر 2018 على أن ينتهي العمل فيه بحلول 2028.

كما اتخذت المملكة خطوات مهمة لجذب السائحين إليها من بينها التأشيرة السياحة التي تم الإعلان عنها عام 2018، بالإضافة إلى استضافة الأحداث الرياضية المهمة التي يوجد لها جمهور غفير حول العالم وهي السياسة التي من شأن الاستمرار في انتهاجها أن تدعم تدفق السياحة إلى أكبر اقتصاد في الوطن العربي.

وفي مجال الترفيه، تبرز مواسم السعودية وفي مقدمتها موسم الرياض، كواحدة من أبرز الخطوات التي اتخذتها المملكة من أجل التحول نحو أن تصبح واحدة من أهم الوجهات السياحية والترفيهية في العالم، وتشتمل تلك المواسم على فعاليات فنية ورياضية وثقافية، وأحدث التقنيات التكنولوجية في مجال الترفيه والألعاب.

الاقتصاد الرقمي

بذلت المملكة جهدًا كبيرًا لتعزيز بيئة الاستثمار من خلال التشريعات والأنظمة واللوائح التي تسهل على المستثمرين، والمشروعات العملاقة التي تفتح آفاقًا واسعة للعمل مثل مشروع نيوم، وذا لاين، والمشروعات التي تشهدها الرياض في ظل إعلان سمو ولي العهد، حفظه الله، عن خطة لتكون من أكبر 10 مدن اقتصادية في العالم، بجانب العمل على تحويل المملكة لقاعدة تضم المراكز الإقليمية للشركات ما يجعلها مركزًا ماليًا رائدًا في منطقة الشرق الأوسط، وقد منحت المملكة تراخيص إلى 44 شركة دولية لإنشاء مقرات إقليمية في الرياض، تشمل شركات متعددة الجنسيات في قطاعات منها التكنولوجيا والأغذية والمشروبات والاستشارات والتشييد.

وتحتل المملكة مركزًا اقتصاديًا مرموقًا؛ حيث إن اقتصادها هو الأكبر في الشرق الأوسط، ومن أكبر عشرين اقتصادًا في العالم. كما يعد الاقتصاد المزدهر إحدى ركائز رؤية المملكة 2030؛ إذ تستهدف المملكة رفع حجم اقتصادها ليصبح ضمن الخمس عشرة مرتبة الأولى على مستوى العالم، وذلك عبر إيجاد بيئة استثمارية جاذبة وتنويع اقتصادها، لرفع نسبة الصادرات غير النفطية من 16% إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي ورفع نسبة مساهمة القطاع الخاص من 40% وحتى 65% من الناتج المحلي.

وقد عملت المملكة من خلال مجموعة العشرين على تسخير جهودها لتمكين الاقتصاد الرقمي ومعالجة تحدياته من خلال تمكين القطاع الخاص من الاستفادة من الاقتصاد الرقمي وتحديد إطار عمل لاقتصاد موثوق يتمركز حول الإنسان.

المبادرات الإقليمية والدولية

يعد امتلاك زمام المبادرة إزاء القضايا والتحديات الإقليمية والدولية من السمات التي ميزت السياسة السعودية وهو ما تمثل بجلاء خلال رئاسة المملكة لمجموعة العشرين، حيث أطلقت مبادرة لمعالجة انتشار فيروس كورونا المستجد؛ وتعهدت خلال قمة مجموعة دول العشرين في مارس 2020 برصد 500 مليون دولار لدعم جهود مكافحة الوباء، وتعزيز الجاهزية والاستجابة للطوارئ والجهود الدولية للتعامل مع فيروس كورونا ومعالجة آثاره.

كما تبنت المملكة نهج الاقتصاد الدائري للكربون كإطار عمل لتعزيز الحصول على طاقة مستدامة وموثوقة وأقل تكلفة، ما يشمل مجموعة متنوعة من حلول وتقنيات الطاقة المبنية على البحث والتطوير والابتكار، بالإضافة إلى إطلاقها مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، والتي عقدت قمة بشأنها في الرياض قبل أيام، تم خلالها التوافق على إنشاء منصة تعاون دولية لتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، وتأسيس مركز إقليمي للتغيّر المناخي، كما قررت المملكة تأسيس مركز إقليمي للتنمية المستدامة للثروة السمكية للإسهام في رفع التنوع البيولوجي البحري وخفض مستوى الانبعاثات في قطاع الأسماك، وإنشاء برنامج إقليمي لاستمطار السحب.

العطاء الإنساني وأنشطة الإغاثة

تعتبر المساعدات الإنسانية والإغاثية والإنمائية جزءًا أساسيًا من أدوات القوة الناعمة، وذلك في إطار دور رائد تلعبه المملكة على المستويين الإنساني والتنموي تجاه مختلف شعوب العالم، إذ تمد يدها بالخير والعطاء لتقديم المساندة والدعم انطلاقًا من مكانتها البارزة في المجتمع الدولي وكقائدة للعالمين العربي والإسلامي.

وتعد السعودية أكبر دولة مانحة للمساعدات الإنسانية في العالم خارج منظومة الدول الأعضاء في لجنة المساعدات الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ويتصدر مركز الملك سلمان للإغاثة والمساعدات الإنسانية الذي تأسس في مايو 2015 برأسمال يبلغ مليار ريال، قائمة المؤسسات المعنية بالإغاثة ليس فقط من حيث قيمة المساعدات والمعونات التي تمر من خلاله، بل أيضاً الأساليب المتطورة التي يتبعها في هذا المجال.

وتأسيسًا على ما سبق، يتضح أن المملكة العربية السعودية بفضل رؤية قيادتها الرشيدة الحكيمة استطاعت أن تحقق نقلة نوعية في توظيف القوة الناعمة لتعزيز مكانة المملكة إقليميًا ودوليًا، فقامت بتحقيق طفرات وتحديث لعناصر قوتها الناعمة التقليدية، وعملت على إضافة عناصر جديدة باقتحام مجالات لم تكن مستغلة كالسياحة والترفيه، من أجل تعزيز مكانتها وريادتها الإقليمية والدولية.  

زر الذهاب إلى الأعلى