تقدير موقف

المجتمع الدولي وخدعة طالبان الجديدة

يسود المجتمع الدولي حاليًا حالة من الترقب لتطورات المشهد في أفغانستان عقب سيطرة حركة طالبان على السلطة والإطاحة بالحكومة الأفغانية، وإعلانها عن إمارة أفغانستان الإسلامية، فعودة الحركة التي ظلت مطاردة من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “الناتو” على مدى عقدين إلى السلطة تجسد إحياء لمشروع سياسي لواحد من أبرز تيارات “الإسلام السياسي” الحركي، وبينما تعامل المجتمع الدولي مع أفغانستان في ظل حكم “طالبان” كدولة منبوذة، تطل الحركة بشكل جديد تسعى من خلاله إلى الإيحاء بأنها ستكون أكثر مرونة في سياستها داخليًا وخارجيًا.

وقد أسهمت الولايات المتحدة في التمهيد لتحرك طالبان عبر أدوات سياسية وعسكرية، تمثلت في الاعتراف الضمني بالحركة عبر توقيع اتفاق للسلام معها، ووقف الدعم الميداني للقوات الأفغانية في مواجهة عناصر طالبان، الأمر الذي أثار تساؤلات واضحة حول ما إذا كانت واشنطن تعيد اللعب بورقة تيار الإسلام السياسي في صراعاتها مع القوى الدولية، فضلًا عن المآلات المتوقعة لتمكين طالبان من الحكم على إمكانية تكرار النموذج في الدول التي تعاني من انهيار في مؤسساتها، إضافة إلى مستقبل العلاقة بين طالبان والجماعات المتطرفة.

ما هي دوافع اهتمام الإعلام العالمي بزحف طالبان؟

منذ بدء القوات الأمريكية الانسحاب من أفغانستان في مطلع مايو الماضي، باتت عدسات وسائل الإعلام الغربية مسلطة على الأوضاع الميدانية في أفغانستان وسط ترقب لمدى قدرة الحكومة الأفغانية على ترسيخ أقدامها من دون الدعم العسكري الأمريكي ودعم حلف الناتو، ويمكن تفسير هذا الاهتمام بعدد من العوامل:

اختبار حقيقي لفكرة الدعم الخارجي في إعادة بناء مؤسسات الدولة ما بعد الصراعات

فقد أثارت سيطرة مقاتلي طالبان الذين يقدر عددهم بنحو 80 ألف مقاتل على مساحات واسعة من مناطق الريف ثم سقوط نصف عواصم الولايات في قبضة التنظيم خلال أقل من أسبوع تساؤلات عميقة حول جدوى إنفاق 88.3 مليار دولار على مدى 20 عامًا على تسليح وتدريب  300 ألف و699 جنديا يخدمون في الجيش وقوى الأمن الأفغانية.

التداعيات الاستراتيجية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان

خاصة مع إمكانية عودة الأراضي الأفغانية كحاضنة للتنظيمات الإرهابية ما يشكل تهديدًا ليس فقط على جوار أفغانستان، بل يمتد ذلك الخطر إلى الشرق الأوسط وأوروبا، فضلًا عن تبعات خطوة الانسحاب على توازنات القوى الدولية، إذ ينظر بعض المحللين إلى أن واشنطن أرادت من وراء ذلك القرار تحويل أفغانستان إلى برميل بارود في خاصرة الصين وروسيا، للحد من صعودهما على الساحة السياسية الدولية.

مخاوف من أزمة لاجئين عالمية جديدة

فمع تحقيق طالبان انتصارات  ميدانية متتالية بدأت تتصاعد مخاوف من أزمة لجوء عالمية مع اتجاه الأفغان إلى الهرب من البلاد خوفًا من بطش وانتقام الحركة، وهو ما أدى إلى إطلاق مسؤولين غربيين تحذيرات من أزمة كبرى في أوروبا مشابهة لموجات الهجرة غير الشرعية التي ضربت القارة العجوز مع تفاقم الأوضاع المأساوية في الشرق الأوسط بسبب الحرب السورية والأزمة اليمنية والصراع في ليبيا وجرائم تنظيم “داعش” الإرهابي.

علمًا بأن الصراعات المستمرة في أفغانستان منذ 40 عاماً أدت إلى موجات هجرة متتالية، فعلى سبيل المثال تستضيف باكستان حوالي 2 مليون و800 ألف لاجئ أفغاني، وإيران بها نحو 800 ألف، وتركيا تستضيف 200 ألف، هذا فضلًا عن موجات الهجرة إلى أستراليا وأوروبا.

ما كواليس الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؟

يمثل قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان واحدًا من القرارات التي لاقت إجماعًا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فجذور الانسحاب تعود إلى اتفاقية السلام التي وقعتها حركة طالبان مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب  في الدوحة في 29 فبراير 2020، وبعد رحيل الإدارة الجمهورية، ومجيء الإدارة  الديمقراطية بقيادة الرئيس جو بايدن كانت الأخيرة أكثر تصميمًا على الوفاء بذلك الاتفاق الذي يتماشى مع وعد انتخابي لبايدن، ولذا فإن ما يثار حاليًا في الداخل الأمريكي من انتقادات من جانب الساسة الجمهوريين وعلى رأسهم ترامب الذي دعا بايدن للتنحي، واعتبر أنه أذل الولايات المتحدة بصورة فاقت أي رئيس آخر في التاريخ، لا يمكن قراءتها إلا من خلال منظور المكايدات السياسية بين الحزبين، فالواقع يشهد أن القرار كان استراتيجيًا بالدرجة الأولى.

وتستهدف واشنطن من وراء ذلك الانسحاب إعادة نشر المعدات العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقف نزيف الأموال المنفقة على الوجود العسكري الذي كبّد واشنطن خلال 20 عامًا أكثر من تريليون دولار، إذ سيتم توجيه تلك الأموال لتمويل المبادرات التي تُعزز مكانة واشنطن وتمكنها من التنافس مع الصين.

لذا يمكن القول إن طالبان حصلت على ما تريد بمجرد توقيع اتفاق السلام مع واشنطن، والذي لم يتطرق إلى تمكين الحكومة الأفغانية من البقاء، تاركًا تسوية الصراع بين طالبان والحكومة الأفغانية إلى محادثات تجري في الدوحة لم تحقق أي نتيجة على مدى أكثر من عام، بل إن التغير في الوضع الميداني وامتناع واشنطن عن استخدام الدعم الجوي للقوات الأفغانية خلال المعارك مع طالبان كان بمثابة ضوء أخضر لا تخطئه العين على زحف طالبان، وتأكد وجود قنوات اتصال مفتوحة على مدار الساعة بين واشنطن وطالبان في ما يشهده مطار حامد كرزاي الدولي في كابل من عمليات إجلاء تقوم بها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” للرعايا والدبلوماسيين، وكذلك للمترجمين والمتعاونين الأفغان، إذ تشير كافة التصريحات الواردة من الجانب الأمريكي إلى استقرار للوضع ومضي عمليات الإجلاء في مسارها دون أي عوائق أو عراقيل أو صدامات مع طالبان.

هل توظف أمريكا طالبان في صراعها مع الصين؟

في ظل الصراع المحموم بين الولايات المتحدة والصين والذي اتخذ حتى الآن شكل حروب تجارية  ولم يصل إلى حد استخدام القوة العسكرية، تبرز بعض الاتجاهات التحليلية للمشهد الراهن في أفغانستان بأنه جزء من تهيئة المجال إلى إشعال حرب في المنطقة تستهدف عرقلة الصعود الصيني، إذ قد تدفع الولايات المتحدة إلى إثارة ملف أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ، وتبارك دعم طالبان للحزب الإسلامي التركستاني الذي تصنفه بكين تنظيمًا إرهابيًا، مع أدلجة الصراع بأنه ضد حكومة شيوعية على غرار ما فعلته واشنطن أثناء الحرب السوفيتية الأفغانية (1979- 1989) حينما دعمت ما سمي بـ”الجهاد الأفغاني”، الذي استقطب المسلمين من شتى بقاع الأرض وكان الساحة الرئيسية التي من خلالها تشكل تنظيم القاعدة.

وكان سقوط الاتحاد السوفيتي السابق في المستنقع الأفغاني في نهاية السبعينيات أحد معاول هدم الدولة السوفيتية التي تفككت بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب في أفغانستان.

كيف تسعى طالبان إلى تغيير الصورة الذهنية النمطية عن الحركة؟

في المقابل، ومنذ استيلائها على الحكم، سعت حركة طالبان إلى تغيير صورتها الذهنية المترسخة، وذلك عبر تصدير خطاب مغاير يجعلها أكثر مدنية وأقل تطرفًا، مستهدفة بذلك أكثر من جهة:

الداخل الأفغاني: لطمأنة المواطنين الذين فزعوا بمجرد دخول طالبان إلى العاصمة كابل، وسعوا إلى الفرار بشكل هستيري خوفًا من بطش الحركة والمستقبل المظلم الذي ينتظرهم في ظل حكم طالبان.

الغرب: عبر توجيه مجموعة من رسائل الطمأنة بأن الحركة ستتخلى عن سلوكها المتطرف، وستعمل على الانفتاح على العالم الخارجي، وستمنع الجماعات المتطرفة من أن تتخذ من أفغانستان بيئة حاضنة لها.

العالم الإسلامي: بتأكيدها على أن نظام الحكم سيكون إسلاميًّا، وأنها لن تتخلى عن مرجعيتها الدينية.

وفي سبيلها لتغيير هذه الصورة، بادرت الحركة بالإعلان عن بعض الإجراءات منها:

إصدار عفو شامل بحق الجميع:

إذ أعلن المتحدث باسم حركة طالبان أن الحركة لا تنوي تصفية حساباتها مع خصومها داخل أفغانستان لا سيما هؤلاء ممن ثبت تورطهم بالتخابر مع الولايات المتحدة أو العمل لصالحهم كمرشدين عن الحركة وعناصرها خلال فترة الوجود الأمريكي داخل الأراضي الأفغانية، بل إنها فتحت قنوات اتصال مع مسؤولين سابقين بشأن الحكومة المقبلة، فضلًا عن تواصلها مع الطيارين والعسكريين السابقين في الجيش الأفغاني للانضمام إلى النظام الجديد.

الانفتاح على العالم الخارجي:

فقد أكدت طالبان أن أفغانستان في العهد الجديد لن تصبح قاعدة للإضرار بالدول الأخرى، ولن تكون ملاذًا آمنًا للإرهاب، مناشدة العالم للمساهمة في إعادة بناء أفغانستان الجديدة.

احترام حقوق المرأة:

يدرك قادة الحركة أن وضع المرأة في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة سيكون من بين المحددات الرئيسية للعلاقة التي تجمع النظام الجديد بالمجتمع الدولي، فمع سيطرة مقاتلي طالبان على العاصمة تعالت التحذيرات الدولية من انتهاك حقوق المرأة، وازدادت المخاوف لدى النساء والفتيات في البلاد.

وسعيًا لتجاوز ذلك المحك الصعب، خرج المتحدث باسم طالبان مطلقا عدة تصريحات عن احترام حقوق المرأة والسماح لها بالتعليم بل ودعوتها للمشاركة في الحكومة الجديدة، وحاولت الحركة تعزيز تلك الصورة بشكل عملي من خلال بث صور لفتيات يذهبن إلى المدرسة في صباح اليوم التالي من سيطرة طالبان على مقاليد الحكم، وكذلك ظهور قادة من الحركة في مقابلات تلفزيونية مع مذيعات أفغانيات.

إظهار التمدن:

في محاولة لتغيير الصورة النمطية المترسخة في الأذهان بشأن الحركة وخلفياتها الدموية، قام بعض أعضاء طالبان ببث فيديوهات عن ممارسة أنشطة ترفيهية بمدن الملاهي في العاصمة كابل وبعض المدن المجاورة لها، وكذلك بث مقاطع فيديو لممارسة عناصر الحركة للرياضة داخل إحدى صالات الألعاب الرياضية في القصر الرئاسي بكابل.

  • إظهار المسؤولية أمام المجتمع الدولي، وهو ما بدا في مؤشرات عدة من أبرزها:
  • العمل على فرض الاستقرار الأمني بإطلاق حملات لجمع الأسلحة من المدنيين.
  • احترام القانون وحصانات البعثات والمقرات الدبلوماسية، عبر التعميم على عناصر الحركة بعدم دخول أي مقرات خالية للسفارات.
  • التعهد بمكافحة الأنشطة غير المشروعة، وهو ما تجلى في توجيه رسالة طمأنة للعالم بأن أفغانستان لن تكون مركزًا لإنتاج أي نوع من أنواع المخدرات، مع مطالبة المجتمع الدولي بمساعدة ودعم المزارعين الأفغان لحثهم على ترك زراعة الخشخاش (نبات يشتق منه مخدر الأفيون) والحشيش والمواد المخدرة.
  • ماذا عن موقف المجتمع الدولي من طالبان؟

تباينت المواقف الدولية إزاء سيطرت حركة طالبان على السلطة في أفغانستان، وهو ما يمكن قراءته من خلال التصريحات الصادرة عن الساسة والعسكريين والخطوات العملية التي اتخذتها بعض الحكومات الغربية من الحركة وهو ما اتخذ 3 أنماط على النحو التالي:

  • الرفض التام لسيطرة طالبان على الحكم: تقود هذا الاتجاه كندا التي أعلنت أنها لا تعتزم الاعتراف بحكومة طالبان، مرتكزة إلى سببين وهما إسقاط الحركة للحكومة الأفغانية المنتخبة باستخدام القوة المسلحة، وكون الحركة مصنفة بموجب القانون الكندي جماعة إرهابية.
  • فتح قنوات للحوار: يميل غالبية المجتمع الدولي إلى التعامل بطريقة برجماتية مع الوضع الراهن عبر فتح قنوات للاتصال مع طالبان والتعامل معها كسلطة أمر واقع، مع الإحجام عن اتخاذ أي خطوة على صعيد الاعتراف الدبلوماسي لحين استيضاح معالم المرحلة الانتقالية واختبار سياسات الحركة، وعلى هذا المسار تبرز مواقف الاتحاد الأوروبي الذي أقر بربح طالبان الحرب ووجوب الحوار معها، ودعوة قائد الجيش البريطاني الجنرال نيك كارتر العالم لإعطاء حركة طالبان متسعاً لتشكيل حكومة جديدة متحدثًا عن إمكانية اكتشاف أن الحركة باتت أكثر عقلانية، بجانب إبداء الصين استعدادها لإقامة علاقات ودية مع طالبان، فضلًا عن تواصل روسيا عبر سفارتها مع ممثلي الحركة.
  • التضييق الاقتصادي: تزعمت تلك الجبهة ألمانيا والولايات المتحدة من أجل ممارسة الضغط على الحركة والتأثير على سلوكها خلال المرحلة القادمة، إذ سارعت برلين إلى تعليق مساعدات تنموية لأفغانستان تبلغ 430 مليون يورو، فيما جمدت واشنطن أصولًا مملوكة للبنك المركزي الأفغاني بقيمة 5 مليار دولار. ويعتبر إبقاء طالبان على قوائم الإرهاب ورقة ضغط قوية لترويض الحركة.

هل تم ترويض قيادات جديدة لطالبان؟

تعرضت حركة طالبان إلى تغييرات كبرى في قيادتها على مدى العقدين الماضيين، فبعد وفاة الملا محمد عمر عام 2013 والذي لم تكشف الحركة عن موته إلا بعد سنتين، تولى زمام القيادة الملا أختر محمد منصور، الذي قُتل في غارة لطائرة أمريكية مسيرة في باكستان في مايو 2016 ، ليخلفه على الفور الملا هبة الله أخوند زادة الذي كان اهتمامه منصبًا حتى ذلك الحين على المسائل القضائية والدينية أكثر من الحرب.

ويرى العديد من الخبراء أن دوره على رأس طالبان سيكون رمزيًا أكثر منه عمليًا، في حين يبرز دور الملا عبد الغني برادر الذي يعد قناة الاتصال الرئيسية للحركة مع الولايات المتحدة، ومن دلائل ذلك تدخل الرئيس السابق ترامب لدى باكستان في عام 2018 من أجل الإفراج عن برادر الذي اعتقلته السلطات الباكستانية عام 2010، وذلك حتى يتسنى له المشاركة في مفاوضات السلام، حيث تم تعيينه رئيسًا للمكتب السياسي لطالبان في العاصمة القطرية الدوحة، وقاد وفد الحركة في المفاوضات مع الأمريكيين، وبعدما توجت بالتوصل لاتفاق، تواصل برادر هاتفيا  في مارس 2020 مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سابقة تاريخية، ويبرز اسم الملا عبد الغني برادر حاليًا بقوة في بورصة التكهنات بشأن الرئيس المقبل لأفغانستان.

ماذا عن انعكاسات سيطرة طالبان على حركة التنظيمات الإرهابية عالميًا؟

مما لا شك فيه أن سيطرة حركة طالبان على مقاليد السلطة في أفغانستان، يزف بشرى للجماعات الإرهابية التي تسعى نحو ملاذ آمن في جبال أفغانستان الوعرة، وتفتح تساؤلات عديدة حول شكل العلاقة بين “طالبان 2021” والجماعات الإرهابية، وحجم التغيرات التي قد تطرأ عما كانت عليه خلال حكم طالبان في الفترة من 1994 إلى 2001، فإيواء الحركة لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن كان سببًا رئيسيًا للحرب الأمريكية على أفغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وتتمتع طالبان بعلاقات راسخة مع تنظيم القاعدة وعدد من التنظيمات المتطرفة، واللافت أن الحركة أكدت في أكتوبر 2020 في بيان نشرته على موقعها المعروف باسم “صوت الجهاد” أنها ليس لها أي التزامات تقضي بقطع علاقاتها مع “القاعدة” بموجب الاتفاق مع الولايات المتحدة، وأوضح المتحدث باسم الحركة سهيل شاهين أن طالبان ملتزمة بعدم السماح لأي شخص باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها، وهما مسألتان مختلفتان، فعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات ضد أمريكا أو حلفائها لا يعني فك الارتباط بالقاعدة، وإنما يشير إلى اتباع نهج جديد يرتكز على ما تصفه طالبان بـ”استهداف العدو القريب والحكومات المحلية”، ما يعني أن الإمارة الإسلامية التي ستؤسسها طالبان ستوفر ملاذات آمنة للحركات المتطرفة لتنفيذ عمليات في بلدانها الأصلية.

ولذا على الأرجح ستشكل التطورات الأخيرة في أفغانستان حافزًا للتنظيمات الإرهابية والأصولية العنيفة مثل القاعدة وداعش وغيرهما من الجماعات المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، بأن اللجوء إلى العنف وحمل السلاح وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية، فليس من المستبعد أن تشهد المرحلة القادمة نشاطًا للإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما الساحات المشتعلة في سوريا والعراق، واليمن وليبيا، وستكثف تلك الجماعات الإرهابية من آلة الدعاية والتجنيد لاستقطاب الشباب واختطاف عقولهم والتغرير بهم تحت ستار من الأفكار والفتاوى المغلوطة التي تشوه الإسلام، ولا تستهدف سوى تنفيذ مشاريع سياسية للحكم تدعم مخططات خارجية محكمة تستهدف المنطقة والسيطرة على ثرواتها وتقسيم شعوبها وتفتيت وحدتها.

لماذا يروج الإخوان المسلمون لطالبان؟

يمكن قراءة احتفاء جماعة الإخوان المسلمين الكبير باستيلاء حركة طالبان على  السلطة في أفغانستان بالرجوع إلى أكثر من محدد:

أولًا: صناعة الرمز: فجماعة الإخوان المسلمين دائمًا ما كانت تسعى لصناعة رمز لها أو إيجاده سواء كان شخصًا أو كيانًا، إذ سعت الجماعة في ظل حالة الانهيار التي واجهتها بعد إزاحتها من حكم مصر عقب ثورة 30 يونيو عام 2013، إلى البحث عن رمز “أيقونة” تستطيع الالتفاف حوله بعدما انهارت الصورة الذهنية لقادتها الذين فروا بشكل مهين، ووجدت ضالتها في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ اعتبره أتباع الجماعة “خليفة للمسلمين”، واتخذوا من تركيا ملاذًا آمنًا لهم، وسعوا إلى الترويج لها بوصفها قائدة العالم الإسلامي والكيان المدافع عن الإسلام والمسلمين.

وأخذت الجماعة في اختلاق البطولات الوهمية والانتصارات الزائفة وتجميل القبيح، كتوصيف الاعتداءات العسكرية التركية على شمال سوريا وتدخل أنقرة في ليبيا، على أنه نصرة للمسلمين والمضطهدين واسترجاع لحقوقهم المسلوبة.

ومع استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، سارع الإخوان للتهليل بالحركة، معتبرين ما حدث انتصارًا ساحقًا لطالبان على القوة الأعظم في العالم، متجاهلين أن ما حدث يأتي استكمالًا لدورها الوظيفي الذي تقوم به منذ تأسيسها.

ويُؤشر هذا الزخم الترحيبي من جانب الجماعة بطالبان على أن الحركة المسلحة في أفغانستان يتم تأهليها إخوانيًا لتكون النموذج والرمز والأيقونة المقبلة لهم.

ثانيًا: التشدق بأي نموذج حكم إسلامي: ظهر هذا جليًا في الترحيب المتبادل بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام الملالي في طهران، فهناك العديد من الشواهد الدالة على أن قادة إيران قبل وصولهم إلى الحكم كانوا منبهرين بتجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فاتخذوها مثالًا يُحتذى به كجماعة دينية منظمة استطاعت الدخول إلى غمار عالم السياسة، وهو ما تجسد في لقاء بين مؤسس الجماعة حسن البنا والخميني عام 1938 في القاهرة، وترجمة كتابات القيادي الإخواني سيد قطب ومنها كتابا “المستقبل لهذا الدين” و”الإسلام ومشكلات الحضارة” والعديد من الأدبيات الأخرى الخاصة بالجماعة إلى اللغة الفارسية ونشرها في الحوزات العلمية في مدينتي قم ومشهد.

إلا أنه مع قيام الثورة الإيرانية عام 1979م ووصول نظام الملالي الطائفي إلى سدة الحكم، تحولت حالة الانبهار إلى جماعة الإخوان المسلمين بعدما عايشوا وصول تنظيم ديني إلى السلطة، حيث توجه وفد من الجماعة إلى طهران لتهنئة الخميني، ومنذ ذلك الوقت أصبحت التجربة الإيرانية ملهمة للإخوان ومحفزة لهم بإمكانية تكرارها في مصر والدول العربية.

ويُوضح هذا المثال أن أنصار الحركات الدينية أو ما يُطلق عليهم مجازًا جماعات الإسلام السياسي يُرحبون بوصول أي نموذج مشابه لهم إلى سدة الحكم حتى وإن كان مختلفًا عنهم مذهبيًا كما هو الحال بين جماعة الإخوان المسلمين “السنية” ونظام الملالي في طهران “الشيعي” رغم صراعهما المذهبي.

ومن هذا المنطلق، يمكن تفُّهم الترحيب والتهليل الإخواني باستيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان.

ثالثًا: أمل جديد: شكّلت سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان أملاً جديدًا لجماعة الإخوان المسلمين بعد أفول نجمهم وفقدانهم الحاضنة الشعبية وتراجع شعبيتهم في الدول العربية. فترى الجماعة في طالبان بارقة أمل لاستقطاب أنصار جدد ومحاولة استعادة زخمها على الأرض، وهو ما تعكسه تغريدات القيادية الإخوانية توكل كرمان التي أكدت أن تجربة طالبان المسلحة هي الأجدى والأنجح للإخوان.

نتائج واستخلاصات ختامية

وتأسيسًا على ما سبق، يخلص التحليل إلى جملة من النتائج تتمثل فيما يلي:

  • ارتباط تمكين مشاريع الحكم الخاصة بتيار الإسلام السياسي بمخططات القوى الكبرى، فلم يكن بمقدور طالبان أن تفرض السيطرة خلال أيام معدودة على أفغانستان من دون مباركة أمريكية لتلك الخطوات التي تتلاقى مع أهداف استراتيجية تتوخاها واشنطن لإعادة رسم خارطة توازن القوى في تلك المنطقة التي تحتل أهمية كبرى في السياسة الأمريكية ورغبة واشنطن في الحفاظ على دورها القيادي العالمي وتقويض النظام الدولي متعدد الأقطاب.
  • الطفرة المتوقعة في نشاط الجماعات الإرهابية خلال المرحلة القادمة، إذ يمثل استشعار أتباع تيار الإسلام الحركي نشوة الانتصار في أفغانستان، حافزًا يشجعهم على استلهام ذلك النموذج والسعي لمحاولة محاكاته في بعض الدول التي تعاني من انهيار بفعل الحروب والصراعات في منطقة الشرق الأوسط كسوريا واليمن وليبيا.
  • تمثل طالبان نموذجًا لما تضمنته أدبيات العلوم السياسية لا سيما نظريات العلاقات الدولية عن تأثير “الفاعلين من دون الدولة- Non state actors” في السياسة الخارجية للدول القومية، والتهديدات الأمنية العابرة للحدود المتمثلة في الإرهاب وارتداداته على المنظومة الأمنية الإقليمية والدولية وآليات مواجهة حروب الجيل الرابع، فصعود طالبان مجددًا يحتم وضع مقاربة دولية أكثر وضوحًا بشأن التعامل مع الجماعات المسلحة ومعايير محددة لتحولهم من فاعلين دون الدولة إلى ممارسة سلطة الدولة.
  • الرهانات الخاسرة على دور القوى الخارجية في بناء الدولة ومؤسساتها، إذ لم تتمكن جهود أكثر من 20 عامًا في تأسيس أجهزة أمنية قادرة على التصدي لعناصر طالبان، والحفاظ على بقاء الحكومة الأفغانية، كما أكدت الولايات المتحدة أنها لم تكن تهدف يومًا لبناء الدولة أو نشر الديمقراطية.
  • غلبة النزعة البرجماتية على سلوك الدول سواء بشكل منفرد أو على مستوى المجتمع الدولي بوجه عام، فالعلاقات والمصالح الدولية تتجرد من أي تفكير في الأبعاد القيمية مثل أوضاع حقوق الإنسان وأوضاع المرأة في ظل حكم طالبان.
  • مراوغات تيار الإسلام السياسي، تعتبر محاولات تحسين الصورة وغسيل السمعة سمة أساسية لممارسات حركات الإسلام السياسي التي تسعى دومًا إلى تصدير صورة للغرب، تظهر التحلي بعقلية متفتحة وابتعادها عن التوجهات المتطرفة، ولعل تجربة طالبان الجديدة – حال نجاحها- ستكون من بين النماذج الهامة التي تحيي آمال جماعات متطرفة مثل الإخوان المسلمين في القدرة على العودة مجددا إلى المشهد السياسي، وذلك رغم الانتكاسات والضربات القاصمة التي تعرضت لها.

زر الذهاب إلى الأعلى