قراءات

صعود طالبان واستراتيجيات القوى الدولية.. قراءة تحليلية

بعد نحو 20 عامًا من الإطاحة بحكم حركة طالبان عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان ردًا على توفيرها ملاذًا آمنًا لقيادات تنظيم القاعدة الإرهابي بعد تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، عادت الحركة مجددًا إلى قلب القصر الرئاسي في العاصمة كابول بعدما تمكنت خلال الأيام الماضية من السيطرة دون أن تواجه مقاومة على عواصم الولايات الأفغانية واحدة تلو الأخرى، الأمر الذي دفع الرئيس الأفغاني أشرف غني للمغادرة إلى طاجيكستان، بينما كانت الولايات المتحدة ودول غربية تجلي دبلوماسييها ورعاياها عبر مطار كابول.

وقد جاءت تلك التطورات الميدانية انعكاسًا لقرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانسحاب العسكري من أفغانستان، والذي من المقرر أن يكتمل تنفيذه بحلول 31 أغسطس الحالي، لكن السقوط السريع لكابول في قبضة طالبان كشف عن قصور في التقديرات الاستخباراتية الأمريكية التي رجحت حدوث ذلك في غضون 3 أشهر وليس 3 أيام.

وينذر الوضع في أفغانستان بحالة من عدم الاستقرار في المنطقة سيكون لها تداعيات كبرى على العديد من دول آسيا الوسطى، لا سيما وأنه لا يبدو أن أيّاً من دول جوار أفغانستان لديها استراتيجية واضحة حول كيفية التعامل مع الوضع المتغير بسرعة، فضلًا عن التداعيات على صعيد توازن القوى الاستراتيجي والمصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى في النظام الدولي.

كيف ساهمت السياسة الأمريكية في صعود طالبان بعد 20 عامًا من المطاردات؟

منذ أن وقعت طالبان اتفاقية السلام مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أوائل عام 2020، وافقت الحركة على الدخول في أول محادثات سلام مباشرة مع الحكومة الأفغانية، لكن لم يتم إحراز تقدم يذكر، حيث رفض مفاوضو طالبان حضور مؤتمر سلام تدعمه الأمم المتحدة في أبريل الماضي، وأحجمت عن طرح خريطة الطريق الخاصة بها للتوصل إلى تسوية سياسية.

وقد اعتبر خبراء أن اتفاق الولايات المتحدة وطالبان كان مجرد محاولة لإخراج القوات الأجنبية من أفغانستان، وإشعال صراع جديد من شأنه أن يسمح في النهاية لطالبان باستعادة السيطرة.

ويرى مارفن وينباوم، مدير دراسات أفغانستان وباكستان في معهد الشرق الأوسط (مركز بحثي مقره واشنطن) أنه بمجرد توقيع الولايات المتحدة على اتفاق للسلام مع طالبان، خفضت واشنطن مستوى قواتها إلى 2500 جندي، ثم أعلنت موعدًا للانسحاب الكامل، ما فتح المجال أمام مستقبل مظلم لأفغانستان، لكن ما لم يكن متوقعًا على الإطلاق هو السرعة التي ستنهار بها قوات الأمن الأفغانية عندما تواجه توغلًا مكثفًا من طالبان، فضلًا عن إفساح الميليشيات الإقليمية والمحلية- خط الدفاع الثاني المفترض للحكومة الأفغانية- الطريق أيضًا للحركة التي تضم في صفوفها ما بين 58000 و100 ألف مقاتل، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.

ويمكن اعتبار أن سحب القوات الأمريكية كان بمثابة ضوء أخضر  لطالبان، التي زادت من هجماتها وسيطرت على المعابر الحدودية المهمة، ووسعت نطاق وجودها بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد وواصلت زحفها حتى دخل مسلحوها العاصمة كابول في 15 أغسطس الجاري.

ما حسابات الصين في التعامل مع التغيرات في أفغانستان؟

يشعر المسؤولون الصينيون بالقلق من تداعيات الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان وفراغ السلطة في كابول الذي قد يزعزع استقرار المنطقة بالكامل، ويضع على المحك استثمارات ضخمة ضختها بكين في مشاريع البنية التحتية في باكستان وآسيا الوسطى ضمن مبادرة “الحزام والطريق” التنموية، بالإضافة إلى مخاوف الصين على سلامة الدبلوماسيين والعمالة الصينية في أفغانستان والمنطقة، كما سيتعرض الأمن الداخلي للصين للخطر إذا امتد الصراع عبر الحدود أو أُشعل اضطراب في إقليم شينجيانغ الصيني معقل قومية “الأويغور” المسلمة، وفقًا لمعهد دراسات الشرق الأوسط بواشنطن.

ويرى جون كالابريس، أستاذ السياسة الخارجية في الجامعة الأمريكية في واشنطن أن المخاوف الأمنية لها أهمية قصوى بالنسبة للصين، وهو ما يفسر تركيزها على مكافحة الإرهاب في التدريبات العسكرية المشتركة مع روسيا مؤخرًا، كما تحركت بكين على الجبهة الدبلوماسية بالحفاظ على علاقات ودية مع كل من الحكومة الأفغانية وطالبان، وقد ظهر التوازن الدبلوماسي الصيني بوضوح الشهر الماضي، فبينما أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ في محادثة هاتفية مع نظيره الأفغاني أشرف غني “دعم الصين الثابت” للحكومة الأفغانية، استضاف وزير الخارجية الصيني وانغ يي وفدًا رفيع المستوى لحركة طالبان في مدينة تيانجين، وبذلك باتت بكين في وضع يمكنها من الاعتراف رسميًا بحركة طالبان عقب الإطاحة بالحكومة في كابول.

وعلى الأرجح سيكون مسار العلاقات بين الصين وحركة طالبان رهنًا بالإجابة عن التساؤلات التالية: هل ستتبنى طالبان هدف السلام الشامل؟ وهل ستفي بالتزامها بعدم إيواء حركة تركستان الشرقية الإسلامية الناشطة في إقليم شينجيانغ؟ مع الأخذ في الاعتبار أن صداقة الصين مع باكستان لم تحم المواطنين والاستثمارات الصينية من أعمال العنف، وهل يمكن توقع ذلك من علاقات دافئة مع طالبان؟

ما تأثير عودة طالبان للسلطة في أفغانستان على السياسة الروسية؟

يتمحور اهتمام روسيا بالوضع المتدهور في أفغانستان من منظورين رئيسيين وهما انتقاد وجود الولايات المتحدة لمدة 20 عامًا في أفغانستان، والمخاوف بشأن الأمن في آسيا الوسطى في أعقاب استيلاء طالبان على السلطة.

ويرى مكسيم سوشكوف، الأستاذ المشارك في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية أن المنظور الأول يتعلق بالفشل النهائي للولايات المتحدة في بناء جيش أفغاني فعال قادر على مواجهة طالبان، معتبرًا أن انهيار الحكومة الأفغانية أمام طالبان يعزز من تكتيكات روسيا في البلدان الأخرى التي مزقتها النزاعات مثل أوكرانيا وسوريا وليبيا والتي تؤكد أن الأمريكيين لن يقدموا مساعدة فقط، بل من المحتمل أن يزيدوا الأمور سوءًا.

وتسعى روسيا إلى معالجة المخاوف بشأن الحدود الجنوبية، من خلال تقوية حلفائها في آسيا الوسطى، ففي 11 أغسطس الحالي اختتمت مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الطاجيكية والأوزبكية، تحاكي ردًا مشتركًا على هجمات المسلحين عبر الحدود، شاركت فيها دبابات وناقلات جند مدرعة وطائرات هجومية من طراز سوخوي سو -25 وطائرات هليكوبتر وأسلحة أخرى، وفقًا لوزارة الدفاع الروسية، وبموازاة ذلك فتحت تركمانستان وأوزبكستان وروسيا قنوات اتصال مع قيادة طالبان واستضافت ممثلين في عواصمها.

ووفقًا لمنتدى شرق آسيا (مركز بحثي مقره أستراليا)، تمثل سيطرت حركة طالبان على شمال أفغانستان تهديدات أمنية للجمهوريات السوفيتية السابقة مثل نمو الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وانتشار التطرف وتدفق اللاجئين، وزيادة تدفقات الأسلحة والمخدرات، لذلك أمرت حكومتا طاجيكستان وتركمانستان في يوليو الماضي بنشر تعزيزات عسكرية على الحدود مع أفغانستان، حيث تدرك دول الجوار أن حركة طالبان لا تعمل على حرمان الجماعات المسلحة الأجنبية من الملاذ الآمن على الأراضي الأفغانية، فعلاقتها التاريخية مع تنظيم القاعدة خير دليل، كما أن طالبان لا تمنع المواطنين الأجانب من الالتحاق بصفوف الحركة، بل ترحب بالمنضمين من باكستان ودول آسيا الوسطى، ويتناقض هذا السلوك بشكل صارخ مع تصرفات قوات الأمن الأفغانية، التي قتلت مؤسس وقائد جماعة أنصار الله، عمرين طبروف في عام 2015 وأبو محسن المصري الذي يعتقد أنه الرجل الثاني بتنظيم القاعدة في عام 2020.

لماذا يشكل صعود الحركة الأفغانية أزمة بالنسبة لإيران؟

لم يصدم التقدم السريع لحركة طالبان الأفغان والولايات المتحدة والدول المجاورة بقدر ما شكل صدمة شديدة الوطأة على المسؤولين في إيران الذين سيتعين عليهم التعامل مع أزمة اللاجئين، حيث يعبر آلاف الأفغان الحدود إلى إيران يوميًا، ويأتي معظم هؤلاء اللاجئين من الولايات الأفغانية التي تضم أقلية الهزارة الشيعية وهو ما يمثل عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على طهران، في ظل معاناتها من أزمة وباء كورونا.

وقد أقامت إيران مناطق عازلة مؤقتة عند المعابر الحدودية الثلاثة على الحدود مع أفغانستان بهدف توفير الحماية والأمن للاجئين. وبالنسبة لإيران، فإن موجة اللاجئين من أفغانستان ليست جديدة، فقد سمحت البلاد لأكثر من 3 ملايين لاجئ أفغاني بالدخول بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979.

وتحتم تلك التطورات على إيران صياغة استراتيجية دفاعية جديدة، قد تتطلب منها مهادنة طالبان، وتوسيع التعاون مع الحركة لا سيما وأنها تستخدم إيران منذ سنوات كطريق لتصدير المخدرات إلى الغرب، وهو مصدر دخل رئيسي لأنشطة طالبان، ووفقًا لأحد التقديرات الأممية فقد جنت طالبان حوالي 460 مليون دولار من زراعة الأفيون في العام الماضي 2020.

وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أفضل خبر وصل إلى تنظيم القاعدة منذ عقود، فمع عودة طالبان إلى السلطة في البلاد، من المؤكد أن القاعدة ستعيد إنشاء ملاذ آمن في أفغانستان تستخدمه للتخطيط لشن هجمات على الغرب، وسوف يستفيد التنظيم من الأموال المنهوبة من البنك المركزي الأفغاني، والأسلحة التي تم الاستيلاء عليها من الجيش الأفغاني، والمقاتلين المفرج عنهم من السجون، وفي المقابل فإن القدرات الاستخباراتية للولايات المتحدة في أفغانستان ربما تتدهور بشدة، في ظل غياب الوجود العسكري أو الدبلوماسي على الأرض.

وبالنظر إلى مستقبل أفغانستان من منظور مكافحة الإرهاب، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة أولها أن الجماعات الإرهابية في أفغانستان لن تسعى بعد الآن إلى شن هجمات خارجية، وهو سيناريو مستبعد نظرًا لتاريخ أفغانستان كحاضنة للقوى المتطرفة، فضلاً عن تعدد الجبهات المهددة من جانب التنظيمات الإرهابية سواء في المحيط الإقليمي في آسيا الوسطى أو الساحة الأوروبية أو الشرق الأوسط.

ويفترض السيناريو الثاني أن تستمر الجماعات الإرهابية في اتخاذ أفغانستان كقاعدة لشن الهجمات الخارجية، لكن طالبان ستعمل على منعها إظهارًا لالتزامها بموجب اتفاق السلام مع الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدي إلى صدام واقتتال بين الحركة وتلك التنظيمات الإرهابية على غرار المعارك التي نشبت بين طالبان وتنظيم داعش في إقليم ننكرهار الحدودي شرق أفغانستان عام ٢٠١٩، كما قد يعمل داعش على تأسيس خلافة للتنظيم في الأراضي الأفغانية بعد إسقاط دولته المزعومة في سوريا والعراق.

 أما عن السيناريو الثالث فيرجح شن الجماعات الإرهابية هجمات خارجية، ولعل هذا السيناريو الأكثر قابلية للتحقق في الواقع، وستكون له ارتدادات سلبية على الأمن العالمي وسيتطلب العودة إلى تشكيل تحالف عسكري لمواجهة الإرهاب في أفغانستان، ويمثل ذلك دليلاً عملياً على خطأ القرار الأمريكي بالانسحاب، وفشل سياسة واشنطن في وضع حل جذري للأزمة الأفغانية على مدى عقدين.

زر الذهاب إلى الأعلى