دراسات وبحوث

الابتعاث العلمي.. طريق المملكة للتواصل الحضاري مع العالم

شكلت عملية الابتعاث لطلب العلم محوراً من محاور التبادل الحضاري والثقافي، فجميع الدول التي نهضت كان الطلاب المبتعثون فيها مشروعاً استراتيجياً لإحداث نقلة حضارية نوعية، ونقل أحدث ما وصل إليه الإنسان من المعارف والعلوم والابتكارات الحديثة.

الغاية من الابتعاث الطلابي لا تنحصر في العملية التعليمية، إنما تمتد إلى أن تصبح أداة لنقل الحضارة الإنسانية

شهدت كافة السوابق التاريخية للدول إثر الابتعاث، حالة نهوض وتقدّم، نهوض بالأمم وتقدم للشعوب، إذ كان الابتعاث سبيلاً فعالاً للوقوف على أحدث إنجازات العصر، والإلمام الشامل بالمنتج الثقافي والعلمي للإنسان أينما كان.

لذا فإن الغاية من الابتعاث الطلابي لا تنحصر في العملية التعليمية، إنما تمتد إلى أن تصبح أداة لنقل الحضارة الإنسانية والتفاعل بين الحضارات.

وهذا ما أدركه المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، فوجّه رحمه الله أمراً ملكياً بإرسال 14 طالباً لإكمال الدراسة في مصر عام 1927، وسنّ سُنّة حسنة اقتفى أثرها أبناؤه وساروا على هداها.

كانت تلك البعثة هي البداية، ثم توالت البعثات التي وجهتها المملكة إلى شتى دول العالم المتقدم شرقاً وغرباً، ومنذ ذلك التاريخ، لم تدّخر المملكة جهداً لتسهيل الابتعاث، وتقديم الدعم المادي والمعنوي للطلاب.

برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي

إن حرص القيادة السعودية على بناء الإنسان، دفعها لتمسك بزمام عملية الابتعاث، ولا تترك مصيرها لتحدده الظروف والأحداث، فوضعت إطاراً مؤسسياً لهذا المشروع الحضاري الكبير، يقوم على رؤى وأهداف واضحة، وتم إطلاق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي عام 2005، ليتوّج جهود قيادات الدولة في هذا النشاط العلمي والثقافي.

الأسلوب الذي أطلق عليه (وظيفتك وبعثتك) يوضح السعي والتخطيط من أجل تحقيق أقصى استفادة تعليمية وحضارية من برنامج الابتعاث

وضع هذا البرنامج خطة طموحة مقسمة على ثلاث مراحل، خمس سنوات مدة كل مرحلة منها.

هدفت المرحلتان الأولى والثانية إلى سد الاحتياجات في المقاعد الدراسية والتخصصات العلمية في الجامعات.

وحققت المرحلتان الأهداف التعليمية والحضارية المطلوبة، فشهد قطاع التعليم الجامعي في المملكة قفزة نوعية، ظهرت في زيادة عدد الجامعات وزيادة عدد المقاعد الدراسية بها، وتعدد التخصصات الموجودة.

ثم جاءت المرحلة الثالثة لتكون الدُّرّة في تاج برنامج الابتعاث، متبعة نمطاً فريداً في تنفيذه، يربط بين الوظيفة والبعثة، فتكون الأولوية لتأمين الوظيفة، وعلى أساسها يتم تحديد المقاعد والتخصّصات والمراحل الدراسية المطلوبة للابتعاث.

إن ذلك الأسلوب الذي أطلق عليه (وظيفتك وبعثتك) يوضح السعي الدؤوب والتخطيط المحكم، لتحقيق أقصى استفادة تعليمية وحضارية من برنامج الابتعاث.

منظومة سفير الإلكترونية

إن النقلة التعليمية التي يحققها الابتعاث، ألقت بظلالها وأحدثت نقلة تكنولوجية للتعامل مع المبتعثين، فمع زيادة الأعداد، تولّدت الحاجة إلى طريقة إلكترونية مرنة لتسهيل إنهاء تعاملات الطلاب، فتم إطلاق منظومة “سفير” الإلكترونية بداية عام 2008م، وتهدف إلى:

– إتمام إجراءات العمل الخاصة بالدارسين في الخارج، بالتعاون مع الملحقيات الثقافية ووزارة التعليم وجهات الابتعاث.

– متابعة معاملات الدارسين في الخارج من قِبل المسئولين بسرعة وكفاءة.

– توفير مقاييس ومؤشرات أداء لحظية ومباشرة تخدم المسئولين ومتخذي القرار.

– مرجع للقرارات الخاصة بالابتعاث ومتابعة المبتعثين.

– رفع مستوى أمن المعلومات الخاص ببيانات الطلبة الدارسين في الخارج ومرافقيهم.

الملحقيات الثقافية

تعمل الملحقيات الثقافية للمملكة كخلية نحل، إدراكاً منها للدور الحضاري الذي تمثله عملية الابتعاث

تعمل الملحقيات الثقافية للمملكة كخلية نحل، إدراكاً منها للدور الحضاري الذي تمثله عملية الابتعاث، فتقوم بفتح العلاقات مع دول العالم على كافة المستويات، وتبذل جهداً جباراً لتوفير فرص الابتعاث في المؤسسات التعليمية الكبرى حول العالم، كما تقدم كافة التسهيلات للطلاب منذ اليوم الأول لهم في الخارجي، وحتى عودتهم إلى الوطن، ولتعزيز تلك الأدوار ومتابعة تنفيذها، يتم إقامة ملتقى سنوي للملحقين الثقافيين، يشرف عليه وزير التعليم بنفسه.

وتؤكد وزارة التعليم أن جميع المسئولين في جهاز الوزارة والملحقيات الثقافية، مكلّفون في الأساس لخدمة الطلاب والطالبات، وتطالب الملحقين دائماً بتلمّس احتياجات الطلاب الضرورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن يتجاوز كلّ ملحق دوره الإشرافي إلى الدور القيادي والأبوي، بتقديم المساعدة لجميع الدارسين في دول الابتعاث.

الابتعاث في رؤية 2030

 لا يضنّ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على الابتعاث بشيء، فيقومان بالبذل وبسخاء على طلاب المملكة في الخارج وصرف مكافآت لهم في جميع دول العالم

ترتكز رؤية 2030 على ثلاثة محاور، هي: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، ووطن طموح، ويقع الابتعاث في قلب تلك المحاور كأساس من أسس التعليم، ولتحقيق الأهداف الحضارية المبتغاة، فلا يضنّ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على الابتعاث بشيء، إذ يقومان بالبذل وبسخاء على طلاب المملكة في الخارج وصرف مكافآت لهم في جميع دول العالم.

ولتتسّع دائرة خدمة الطلاب السعوديين في الخارج وإعانتهم ومساندتهم، تم ضم الدارسين على حسابهم إلى الجامعات المعترف بها لبرنامج خادم الحرمين للمبتعثين.

إن تحقيق الاستفادة القصوى من برنامج الابتعاث في إطار رؤية 2030، لا يأتي إلا بخطط متقنة وأساليب مدروسة، وتعديلات قائمة في برنامج الابتعاث، تركز على التخصّصات التي تحتاجها التنمية وسوق العمل، بالإضافة إلى اختيار أفضل الجامعات بحسب “تقييم شنغهاي”، وتوجيه الطلاب إليها.

 

المبتعثون في الخارج والمجالات الدراسية

تحرص المملكة على المساواة في برامج الابتعاث، ومنح الفرص الكاملة لجميع المواطنين على حد سواء

أوضحت آخر إحصائية عن المبتعثين، والتي صدرت في أبريل 2019، أن عددهم بلغ 85.508 في المرحلة الجامعية والدراسات العليا، يتنوعون ما بين طلاب وموظفين ومرافقين ودارسين على حسابهم الخاص.

وما يؤكد حرص المملكة على المساواة في برامج الابتعاث، ومنح الفرص الكاملة لجميع المواطنين على حد سواء، فقد وصلت نسبة الإناث في المبتعثين إلى 35%، وانطلاقاً من نفس المبدأ، فقد تم إطلاق مسار لوضع ذوي الاحتياجات الخاصة في البرامج الخاصة بالابتعاث.

الدور الحضاري الذي يلعبه الابتعاث في المملكة، يدفعها لاختيار دول مختلفة، لاستقاء العلم من خلفيات حضارية متعددة

ينصب اهتمام الدارسين الأكبر على مجالين، هما الإدارة والأعمال التجارية، والطب وخدماته، وتبلغ نسبتهم في كل مجال 21%، بينما يدرس 20% من الطلاب الهندسة والصناعات الهندسية.

وتأتي الدراسات الإنسانية رابعاً بنسبة 10% من الطلاب، ثم تظهر بعد ذلك المجالات الأخرى مثل علوم الحياة والمعلوماتية وغيرها.

إن الدور الحضاري الذي يلعبه الابتعاث في المملكة، يدفعها لاختيار دول مختلفة، لاستقاء العلم من خلفيات حضارية متعددة، فالولايات المتحدة الأمريكية تأخذ نصيب الأسد من المبتعثين، إذ يزيد عددهم هناك عن 45 ألف مبتعث.

أما في أوروبا.. فتضم المملكة المتحدة أكثر من 14 ألف مبتعث، وفي ألمانيا 1831، وفي جمهورية أيرلندا 1091، بينما كان نصيب فرنسا 749 مبتعثاً، فضلاً عن أعداد متفرقة في دول أوروبية مختلفة.

وهناك عدد لا بأس به في أستراليا يقدر بـ 6682 مبتعث، بالإضافة إلى وجود أعداد في الدول الآسيوية، فعلى سبيل المثال يوجد في الصين 371 مبتعثاً، فيما يدرس في اليابان 299 مبتعثاً.

الآثار الإيجابية للابتعاث

 خلق الابتعاث بيئة تنافسية محمودة بين الجامعات، تصب في تحقيق الأهداف التعليمية لرؤية 2030

برهنت الأمثلة والتجارب أن الابتعاث كان دائماً فرصة للتقارب والتكامل، فكلّ حضارة استعانت بعلوم ومعارف سابقاتها، وقدمت ما تملكه للحضارات اللاحقة، ولا يتأتى التقدم الذي تبغيه الدول، إلا من خلال المعرفة بأحدث ما وصلت إليه العلوم، ومن ثم مواكبة هذا التقدم، ما يُنتِج مجتمعاتٍ قائمةً على العلم، وهنا تظهر الآثار الإيجابية للابتعاث، وأهمها:

– إظهار الصورة الحقيقية للإسلام، فالمبتعث بحسن خلقه وتعامله الطيب يدفع من يراه ليتساءل عن مصدر تلك الأخلاق الحميدة، فيكون المبتعث المسلم نموذجاً للإنسان الناجح، وهو داعية بأخلاقه واحترامه لقوانين البلد التي يدرس فيها، ومؤخراً أضاف انتشار الظواهر المعادية للإسلام مثل الإسلاموفوبيا عبئاً على المبتعثين، ما يدفعهم لبذل مزيد من الجهود لنشر الصورة السمحة للإسلام.

– يعتبر المبتعثون سفراء للدولة في الخارج، فمن خلالهم يمكن تعريف العالم بالمملكة العربية السعودية، وذلك عبر المناسبات الثقافية والاحتفالية التي يشارك فيها الطلاب، ويقدّمون أنشطتهم المتعلقة بالمملكة وإنجازاتها وعاداتها وتقاليدها المختلفة، ومن ثم يساهمون في رسم صورتها الإيجابية في مخيلة وذهن المتلقي الأجنبي.

– خلق الابتعاث بيئة تنافسية محمودة بين الجامعات، نتيجة للتطور الذي طال الكوادر، وينصب ذلك كله في تحقيق الأهداف التعليمية لرؤية 2030

– الابتعاث هو حجر زاوية في نقل العلوم الحديثة وتوظيفها، بما يحقق الإثراء العلمي والثقافي، والمواكبة الحضارية للأمم المتقدمة.

– سدّ الاحتياجات في التخصّصات النوعية، خاصة تلك المستجدة على الساحة، مثل الذكاء الصناعي والأمن السيبراني والنقل الجوي، وهي التخصصات التي ركزت عليها برامج الابتعاث في الفترة الأخيرة.

– توسيع مدارك المبتعثين العقلية والشخصية، نتيجة الاطلاع على ثقافة الآخر، فيصبح الفرد متميزاً وقادراً على استيعاب الاختلافات والثقافات الأخرى.

إن النتائج الإيجابية للابتعاث لا يمكن حصرها في النقاط السابقة فقط، فهناك ثمرات تظهر على المدى الطويل، تساهم في التطوير الحضاري والثقافي للدولة، وهو ما يسعى إليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، لجعل المملكة في مقدمة الأمم، ويتجسد ذلك في مقولته التي تتصدر رؤية 2030 “إن هدفي الأول أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على كافة الأصعدة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك”.

زر الذهاب إلى الأعلى