الأطماع التركية في الأراضي العربية المجاورة لها تاريخية وليست جديدة، ففي عام 1939 سهّل الانتداب الفرنسي سلخ لواء الإسكندرون من سوريا وتم إهداؤه لتركيا، ومارست أنقرة فيه عملية تتريك ممنهج، محوّلة اللواء إلى جزء من أراضيها، ومُطلقة عليه “محافظة هاتاي”، رغم الرفض الدولي لذلك الاحتلال.
بعد ثمانين عاماً من ضم أنقرة للواء الإسكندرون تعود الأطماع التركية في سوريا بثوب جديد
والآن بعد ثمانين عاماً من ضم الإسكندرون، تعود الأطماع التركية في سوريا بثوب جديد، حيث احتل نظام أردوغان المزيد من الأراضي في الشمال السوري، مستغلاً حالة الحرب الأهلية الدائرة، مخالفاً كل القوانين الدولية التي تمنع الاحتلال والسيطرة على الأرض بالقوة المسلحة.
ولم يكن التقارب التركي الأمريكي والحديث عن إنشاء منطقة آمنة بشمال سوريا، والاتفاق الضمني عليها في 7 أغسطس 2019، سوى لإعطاء أنقرة المزيد من الوقت لممارسة عملية التتريك في المناطق الخاضعة لها في سوريا، وكسب غطاء دولي مؤيد لها في ذلك.
الاحتلال التركي للشمال السوري
بحث الرئيس التركي عن حجة لاحتلال أجزاء من شمال سوريا، فاتخذ من وجود تنظيم داعش الإرهابي وسيلة لذلك
لا يخفى على أحد محاولة نظام أردوغان تكميم أفواه معارضيه خاصة من الأقلية الكردية، المنتشرة في جنوب شرقي بلاده، وفي الشمال العراقي والسوري على حدود تركيا، وجاءت الحرب الأهلية السورية فرصة ذهبية لأردوغان لاستعراض عضلاته وممارسة بلطجته ضد أكراد سوريا.
وبدأ الرئيس التركي يبحث عن حجة لاحتلال أجزاء من شمال سوريا، فاتخذ من وجود تنظيم داعش الإرهابي مبرراً لذلك، وأطلق في 24 أغسطس 2016، عملية عسكرية أطلق عليها اسم “درع الفرات”، متحالفاً مع بعض جماعات المعارضة السورية المسلحة، ولم تقتصر العملية على محاربة تنظيم داعش الإرهابي فقط، بل استغل وجوده لشن هجمات على قوات سوريا الديموقراطية “قسد” الكردية.
وفي 29 مارس 2017 أعلن أردوغان انتهاء عملية “درع الفرات”، بعد أن احتل أجزاءً واسعة من الشمال السوري، أهمها مدينة جرابلس وريفها، والمنطقة الواقعة بين مدينتي اعزاز والراعي، ومدينتي دابق والباب.. وغيرها.
أسفرت عملية غصن الزيتون عن نزوح 130 ألف مواطن كردي من عفرين والقرى المحيطة بها
ولم يكتف النظام التركي بذلك، وقام بإعادة الكرّة مرة أخرى، وأطلق في 20 يناير عام 2018، عملية عسكرية ثانية أسماها “غصن الزيتون”، للهجوم على مدينة عفرين، التي كانت خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية الكردية، وكان تحجيم دور الأكراد هو السبب الرئيس لهذه العملية.
ونزح إثر هذه العملية ما يزيد عن 130 ألف مواطن كردي من عفرين والقرى المحيطة بها، وتمركزوا في مخيمات في مناطق الشهباء في ريف حلب على بُعد عشرات الكيلومترات فقط من منازلهم.
وحلّ مكانهم في عفرين نازحو دوما وعموم الغوطة الشرقية، ونازحو حمص وريف حماة وغيرها من سكان المناطق التي انتزع نظام الأسد السيطرة عليها من الفصائل المعارضة.
مظاهر التتريك
لم يهدأ بال الأتراك عقب اكتمال سيطرتهم على الشمال السوري، وبدأوا عملية تتريك مخطط لها، تمهيداً لأن تصبح تلك المناطق جزءاً من الأراضي التركية، حيث تم الاستيلاء على منازل السوريين في تلك المناطق، ومن ثم تغيير أسماء الشوارع إلى أسماء تركية، واعتماد الليرة التركية عملةً متداولة في تلك المناطق.
طمس الهوية الكردية
بدأ الأتراك بعد اجتياحهم للشمال السوري في طمس مظاهر الهوية الكردية، وإزالة كل ما يتعلق بها، وكان أشهر أعمالهم العدائية هو إسقاط تمثال “كاوا الحداد” بعفرين، في مارس 2018، وتعتبر تلك الشخصية أحد رموز الثقافة الكردية.
أجرى الأتراك عملية تغيير ديموجرافي موسع في المناطق الخاضعة لسيطرتهم
بعد إحكام السيطرة التركية على عفرين، تم إزالة كل الرموز الكردية في المدينة، وتغيير أسماء الشوارع والساحات الرئيسية وتجريدها من أي إشارة إلى هويتها الكردية، وانتشار الأعلام التركية وصور أردوغان في الدوائر الرسمية والمدارس والأماكن العامة.
وقاد الأتراك عملية تغيير ديموجرافي موسع في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، فبعد أن كان سكان تلك المناطق وخاصة عفرين من الأغلبية الكردية، تم توطين آخرين موالين للنظام التركي ومن أسر مقاتلي الجماعات التي حاربت إلى جانب القوات التركية، فيما يعاني بقايا الأكراد من أعمال سلب ونهب من جانب الأتراك.
التتريك الاقتصادي
احتكرت أنقرة المشاريع الاقتصادية الرئيسية في المناطق التي احتلتها، وأصبح لا يُسمح سوى للمنظمات المسجلة في تركيا بالعمل فيها.
وافتتحت تركيا مركزاً للخدمات البريدية تابعاً للبريد التركي، وأصبحت المؤسسات التركية هي المتحكمة في دخول وخروج الأموال في الشمال السوري، والقائمة بعمليات الصيرفة والخدمات اللوجستية والشحن، إضافة إلى تقديمها رواتب المدرسين والموظفين العاملين في وقف “المعارف” التركي بالمنطقة، وعناصر الجيش التركي، فضلاً عن رواتب الشرطة الموالية لتركيا في تلك المنطقة.
ونقلت “بي بي سي” في تقرير مفصل عن تتريك شمال سوريا نشر في 7 مارس 2019، أن محافظ غازي عنتاب التركية قام بإرسال ممثلين عنه لافتتاح مدينة صناعية واقعة بين مدينة الباب وحلب، ويربطها بتركيا طريق أنشئ لهذا الغرض، لتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير بين تلك المناطق وتركيا.
وفي يونيو 2019 كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، قيام فصيل “العمشات” المنضوي ضمن عملية “غصن الزيتون”، بفرض أتاوات على جرّارات زراعية لأهالي قريتي قرمتلق وكوندي خليل ضمن ناحية راجو بريف عفرين، حيث فرض الفصيل وبقوة السلاح مبلغ 300 دولار أمريكي على كل مواطن يمتلك جراراً زراعياً.
بالإضافة إلى ذلك فقد تم إلزام المزارعين الأكراد باستصدار “رخصة” لجني محاصيل أراضيهم في مدينة عفرين وريفها.
التتريك الإداري والسياسي
أشرف النظام التركي مباشرة على المجالس المحلية التي تدير المناطق السورية المحتلة
أصبح النظام التركي يشرف مباشرة على المجالس المحلية التي تدير المناطق المحتلة، التابعة لما يطلق عليها “الحكومة السورية المؤقتة”، والتي تتخذ من مدينة غازي عنتاب التركية مقراً لها، وتستلم تمويلها من حكومة أردوغان.
لا يعين القضاة والمحامون السوريون في عفرين إلا بالتنسيق مع وزارة العدل التركية
وصار مجلس عفرين يتبع إدارياً مقاطعة هاتاي المحتلة أيضاً من قبل تركيا منذ 1939، وعيّن حاكم هاتاي اثنين من المسئولين الأتراك للإشراف على إدارة منطقة عفرين، وأصبح سكان المناطق المحتلة غير قادرين على التحرك، ما لم يمتلكوا أوراقاً ثبوتية صادرة عن السلطات التركية.
ونقل التقرير عن سكان عفرين أن القضاة والمحامين السوريين لا يُعيّنون إلا بالتنسيق مع وزارة العدل التركية، وأن ضباط الشرطة المدنية وغيرهم من العسكريين يتم تدريبهم من قبل السلطات التركية.
ولاحظ بعض السكان استمرار وجود القوات العسكرية التركية في عفرين واعزاز، واستخدام المدارس لأغراض عسكرية في عفرين، على الرغم من ادعاء تركيا الانسحاب منها.
بدأ الجيش التركي بناء ما يسمى بـ”جدار عفرين” ليعزل عفرين عن باقي الأراضي السورية
ووصف سكان تلك المناطق الهياكل الإدارية والتنفيذية، بأنها غير فعالة على الإطلاق، وغير قادرة على معالجة الانتهاكات التي تمارسها عشرات الجماعات المسلحة.
والأخطر من ذلك أن الجيش التركي بدأ ببناء ما يسمى بـ”جدار عفرين”، ليعزل عفرين عن باقي الأراضي السورية، عقب سيطرة فصائل المعارضة على المدينة.
التتريك الثقافي
تعمل السلطات التركية على نشر الثقافة واللغة التركيتين، وافتتاح مدارس إسلامية تركية بالمناطق السورية المحتلة
ارتكز التتريك في شمال سوريا على عملية التغيير الثقافي بشكل أساسي، فتعمل السلطات التركية بالتعاون مع الفصائل السورية الموالية لها، على نشر الثقافة واللغة التركيتين، وافتتاح مدارس إسلامية تركية شبيهة بمدارس “إمام خطيب” (İmam hatip lisesi) المعروفة في تركيا.
وتعتزم أنقرة تجديد وتحويل منزل في عفرين إلى متحف، بحجة أن مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك قد استخدمه خلال الحرب العالمية الأولى.
وشهدت مدينة اعزاز الواقعة بريف حلب مثالاً واضحاً على محاولة استعادة أردوغان لأمجاد أجداده العثمانيين، وتم إطلاق اسم “الأمة العثمانية” على الحديقة العامة هناك، وإعادة تسمية إحدى روضات الأطفال باسم “السلطانة عائشة” وهي زوجة السلطان العثماني أحمد الأول.
قامت أنقرة بضبط التوقيت الزمني في هذه المناطق بالتوقيت الزمني لتركيا، وبذلك يكون توقيت مناطق شمال غربي سوريا، غير موافق للتوقيت الزمني في سوريا.
التعليم
تعد بوابة التعليم هي الخطة الأخطر في عملية التتريك الجديدة، نظراً لما يتيحه هذا المجال من إمكانية تحريف وتزوير الحقائق والوقائع التاريخية والثقافية والعلمية، وعملت تركيا في ذلك على:
– افتتاح معهد عال للتعليم المهني في مدينة جرابلس شمالي سوريا، في يونيو 2018، ويضم حالياً 500 طالب يواصلون دراستهم الجامعية.
ونتيجة للطلبات المتزايدة القادمة من المنطقة، قررت جامعة غازي عنتاب التركية، افتتاح كليات تابعةٍ لها في شمالي سوريا، وتقدّمت بطلبٍ في هذا الخصوص إلى مجلس التعليم العالي في البلاد.
يُشرف مدرسون أتراك على تنسيق أعمال توزيع الكتب على المدارس في 7 مدن سورية
– نقل 3 ملايين و600 ألف من الكتب التي طبعتها وزارة التربية التركية إلى مناطق الشمال السوري، ليتم توزيعها على المدارس هناك، وكان هذا في أكتوبر 2018.
ويُشرف مُدرّسون أتراك على تنسيق أعمال توزيع الكتب على المدارس في 7 مدن سورية، هي: عفرين، جرابلس، الباب، اعزاز، جوبان بي، أخترين، ومارع.
تهدف مظاهر التتريك المممنهجة إلى كسب ولاء الشباب السوري، وتربيته على الثقافة التركية واعتبار تلك الأراضي تركية
– افتتاح فرع لجامعة “حران” التركية بمدينة الباب، في أواخر عام 2018، وتُدرّس فيها اختصاصات الهندسة الكهربائية والزراعة والبناء باللغات العربية والتركية والإنجليزية،
– السعي بوتيرة مُتسارعة لافتتاح كليات تابعة جامعة غازي عنتاب التركية في منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، بحسب وكالة الأناضول التركية، التي أوردت الخبر بتاريخ 30 مايو 2019.
– إعلان جمعية “شباب الهدى” التركية الأهلية، في يونيو 2019، عن تقديم خدمات اجتماعية وأنشطة دينية في منطقة عفرين بمحافظة حلب، شمال غربي البلاد، وذلك بالتعاون مع وقف الديانة التركي.
ويسير كل ذلك في سبيل كسب ولاء الشبان السوريين، وتربيتهم على الثقافة التركية، واعتبار تلك الأراضي تركيةً فيما بعد.
المنطقة الآمنة وزيادة معدّلات “التتريك”
أظهرت عملية التتريك التي يقوم بها نظام أردوغان في الشمال السوري، أنيابه العدائية وأطماعه في احتلال الأراضي العربية
بخبث ومكر شديدين.. استطاع النظام التركي في 7 أغسطس 2019، توقيع اتفاق مع الولايات المتحدة لإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا، وهو ما يضمن له تحييد الدور الروسي والأمريكي في شمال سوريا، ويسهل تحقيق أغراضه الحقيقية في القضاء على نفوذ الأكراد، واحتلال المزيد من أراضي سوريا، ومن المؤكد أن هذه المنطقة الآمنة سوف تسهّل على تركيا مخططاتِها الاستراتيجية بعيدةَ المدى، في زيادة معدلات التتريك في الشمال السوري.
وختاماً فإن عملية التتريك التي يقوم بها نظام أردوغان في الشمال السوري، أظهرت أنيابه العدائية وأطماعه في احتلال الأراضي العربية، ورغم المعارضة الشديدة من نظام الأسد والبيانات شديدة اللهجة التي تصدرها دمشق ضد الاحتلال التركي، فإن أردوغان يضرب بكل ذلك عرض الحائط.
وجاءت المنطقة الآمنة التي تقوم بها تركيا بدعم الولايات المتحدة شمال سوريا، لتعطي لأردوغان غطاءً دولياً لممارسة مزيد من التتريك، وتهجير الأكراد من أراضيهم، وتوطين سوريين موالين لتركيا بدلاً عنهم، رغم تحذيرات القوى الدولية وعلى رأسها روسيا، التي أبدت قلقها من الاتفاق التركي الأمريكي.
ولكن يتوقع المراقبون ألا يتوقف أردوغان عن المضي قدماً في تنفيذ مخططاته وأطماعه الاستعمارية، وتتريك المزيد من المدن والمناطق السورية، طالما لم يواجه بقوة رادعة، أو مواقف دولية حاسمة.