في منحى جديد يبرز حجم التعقيد الذي تشهده الأزمة اليمنية، وكيف باتت تمثل تهديدًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي، تبدو ناقلة النفط “صافر” المتهالكة الراسية قبالة مرفأ رأس عيسى النفطي المطل على البحر الأحمر منذ نحو 6 أعوام بحمولتها دون الخضوع لأي أعمال صيانة بمثابة “قنبلة موقوتة”.
ويشكل التلاعب الحوثي المستمر بملف السفينة وعرقلة صيانتها بالنظر إلى سيطرة الحوثيين على محافظة الحديدة ذات الأهمية الاستراتيجية، خطرًا كبيرًا على الملاحة الدولية، ووسيلة تستخدمها الميليشيا المدعومة من إيران في ابتزاز المجتمع الدولي، دون أي اكتراث بالعواقب الخطيرة الناجمة عن تسرب أو غرق أو انفجار الناقلة، الأمر الذي قد يضع اليمن والمنطقة والعالم برمته أمام كارثة بيئية واقتصادية وإنسانية وشيكة وغير مسبوقة.
جذور أزمة ناقلة النفط اليمنية “صافر”
تعود ملكية خزان صافر العائم إلى شركة النفط الوطنية اليمنية “صافر لعمليات الإنتاج والاستكشاف”، وقبل الانقلاب الحوثي في اليمن عام 2015، كان الخزان يُستخدم لتخزين النفط الوارد من الحقول المجاورة لمأرب ومن ثم تصديره للخارج.
وتبلغ حمولة خزان صافر العائم قرابة 1.1 مليون برميل نفط، ولم يخضع الخزان لأي أعمال للصيانة الدورية منذ 6 سنوات مما أدى لتدهور حالة هيكل الناقلة ومعداتها ومنظومات تشغيلها، الأمر الذي يجعلها عرضة لخطر تسرب النفط أو الانفجار أو الحريق.
وقد تم تقليص الموظفين على متن ناقلة النفط، فبعدما كان عددهم 100 فرد حينما كانت الناقلة في الخدمة، أصبح طاقمها حاليًا مكونًا من سبعة أو ثمانية أفراد، وهم مراقبون على مدار الساعة من قِبل مسلحي ميليشيا الحوثي.
ونشرت وكالة أسوشييتد برس في يونيو 2020، وثائق وصورًا أظهرت أن مياه البحر دخلت إلى حجرة محرك الناقلة، التي لم تتم صيانتها لأكثر من خمس سنوات، ما تسبب في تلف الأنابيب وزيادة خطر الغرق. كما كشفت أن الصدأ غطى أجزاء من الناقلة، وأدى إلى تسرب الغاز الخامل الذي يمنع الخزانات من تجميع الغازات القابلة للاشتعال. ونقلت عن خبراء قولهم إن صيانة السفينة لم تعد ممكنة لأن التلف لا يمكن إصلاحه.
المماطلة الحوثية امتداد لممارسة النهج الإيراني الابتزازي
وعلى الرغم من تحذير المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إنغر أندرسن العام الماضي من أن الوقت ينفد لتجنب كارثة إنسانية واقتصادية وبيئية تلوح في الأفق، فإن المحاولات التي تبذلها فرق الإنقاذ التابعة للأمم المتحدة للتفاوض مع الحوثيين بشأن الوصول إلى صافر تعثرت مرارًا وتكرارًا، إذ أوقفوا مرارًا محاولات المجتمع الدولي مجرد تقييم حالة الناقلة، أو استخراج النفط منها، فعلى سبيل المثال في أغسطس 2019، أرسلت الأمم المتحدة فريقًا من الخبراء إلى جيبوتي التي كانت موقع التجهيز للبعثة حسب اتفاق مبدئي، إلا أن البعثة أُلغيت بعد أن سحب الحوثيون بوصفهم سلطة الأمر الواقع موافقتهم في الليلة السابقة لتوجه البعثة إلى موقع الناقلة.
وفي العام التالي 2020، وافق الحوثيون مرة أخرى على السماح لفريق من الأمم المتحدة بالصعود على متن صافر لمدة شهر لتقييم حالتها وإجراء إصلاحات طفيفة، لكن الزيارة التي كان من المقرر إجراؤها في فبراير من العام ذاته تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى بعد رفض الحوثيين التوقيع على خطط المهمة.
ووفقًا لمجلة “التايم” الأمريكية، تمثل الأجزاء التي صدأت في صافر رمزًا لجمود المجتمع الدولي في مواجهة الأزمة اليمنية على مدى السنوات الست الماضية، إذ يرى رافائيل فيشت، رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود في اليمن، أن المفاوضين في محادثات السلام التي توسطت فيها الأمم المتحدة غير قادرين على تغيير آليات الوساطة.
لكن العامل الرئيسي وراء أزمة صافر، هو النهج الحوثي القائم على ابتزاز المجتمع الدولي، بتوجيهات من طهران في إطار توظيف نظام الملالي للميليشيات في المنطقة بهدف تقليل الضغوط الغربية على إيران بشأن ملفها النووي وبرنامجها الصاروخي.
ولذلك رغم أن الناقلة صافر في حالة لا تسمح لها بالإصلاح أو إعادة التشغيل، فهي لن تكون سوى مجرد خردة فقط، إلا أن المراوغة الحوثية بشأن السماح للأمم المتحدة بتفقد الناقلة، ترجع إلى أن الميليشيا الحوثية ترى فيها ورقة ضغط لتعزيز مركزها التفاوضي خلال أي مباحثات بشأن تسوية الأزمة اليمنية.
وتشير مجلة “تايم” الأمريكية إلى أنه من الصعب دق ناقوس الخطر بشأن كارثة لم تحدث بعد، ولكن ثمة أمثلة حية في المنطقة عن تكلفة التقاعس عن حل الأزمة، وتحديدًا العاصمة اللبنانية التي شهدت في أغسطس الماضي، كارثة مدمرة إذ انفجر 2750 طنًا من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، مما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص، وكانت السلطات اللبنانية قد حذرت مسبقًا من المخاطر التي يشكلها ذلك المخزون.
كارثة بيئية وشيكة وتهديد للملاحة الدولية
وقد حذرت العديد من التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية من أن احتمالية تسرب النفط من الناقلة ستكون لها آثار بيئية كارثية، وستترتب عليه عواقب إنسانية وخيمة. وبحسب أبحاث أجراها خبراء مستقلون سيتسبب أي تسرب نفطي كبير في الكثير من الضرر للمنظومات البيئية في البحر الأحمر التي يعتمد عليها قرابة ثلاثين ملايين شخص بمن فيهم ما لا يقل عن مليون و600 ألف يمني.
وسوف يطال الأثر مصائد الأسماك على طول الشاطئ اليمني الغربي خلال أيام مما سيؤدي لانهيار سبل كسب الرزق الخاصة بالمجتمعات المحلية القائمة على الصيد البحري، وستكون شواطئ الحديدة وحجة وتعز الأكثر تضررًا.
ويُظهر أحد سيناريوهات الانسكاب النفطي لصافر والتي توقعتها الحكومة البريطانية العام الماضي، أن تنغمر مصائد الأسماك على السواحل اليمنية في البحر الأحمر بالنفط المتسرب، مما يمثل خسارة قدرها 1.5 مليار دولار في الدخل على مدى 25 عامًا.
أما إذا اشتعلت النيران على ناقلة النفط صافر لأي سبب كان، فقد يتعرض أكثر من 8.4 مليون شخص لمستويات مرتفعة من المواد الملوثة.
ومن الصعب تصور الحجم الهائل لانسكاب مليون برميل على متن صافر، فعندما تسرب ألف طن من النفط الخام من ناقلة ليبية في البحر المتوسط في فبراير الماضي تسبب في واحدة من أشد الكوارث البيئية في تلك المنطقة.
وعندما سربت السفينة اليابانية “MV Wakashio”، ألف طن من الزيت الثقيل بالقرب من موريشيوس في أغسطس 2020، أدى ذلك إلى اسوداد الشواطئ، وتعريض عشرات الآلاف من متطوعي التنظيف للملوثات السامة، ويُعتقد أنها سبب موت 50 من الدلافين والحيتان التي كانت في الشاطئ، ولعل هذين الانسكابين يمثلان أقل من 1% مما قد ينجم عن صافر.
من ناحية أخرى، يستورد اليمن نحو 90% من احتياجاته الغذائية، وحوالي ثلاثة أرباع واردات المواد الغذائية الصلبة تدخل إلى البلاد عبر ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون، وهو الميناء الذي تهدده صافر الآن، وكذلك ميناء الصليف الأصغر القريب منه، لذلك ستشكل إعادة توجيه واردات الوقود والغذاء إلى ميناء عدن الجنوبي تحديات جسيمة في بلد تعيق حربه الأهلية بشدة بالفعل حركة البضائع، وستؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وفقًا لتوقعات منظمة “acaps” السويسرية.
كما قد يؤدي التسرب من صافر إلى كارثة بيئية دائمة، حيث يعد البحر الأحمر أحد أغنى النظم البيئية البحرية وأكثرها تنوعًا حيويًّا في العالم، فهو موطن لأنواع الأسماك المستوطنة وأشجار المانغروف والشعاب المرجانية الوحيدة المعروفة بمقاومتها لارتفاع درجات حرارة البحر، فضلاً عن احتمال تأثر 115 جزيرة يمنية في البحر الأحمر.
ومن بين التداعيات الأشد خطورة، أن التسرب قد يسد أيضًا مضيق باب المندب، الطريق المؤدي إلى قناة السويس الذي يتدفق عبره ما يصل إلى 12% من حركة التجارة العالمية، ولعل العالم تلمس عن قُرب مؤخرًا خطورة توقف هذا الخط الملاحي المهم في ظل أزمة جنوح السفينة “إيفر غيفن” في القناة، ما أدى إلى توقف حركة الشحن الدولية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن أصابع التخريب الإيرانية الحوثية طالت مختلف أرجاء اليمن، وتمتد حاليًا لتطال ثرواته الطبيعية والبيئية عبر خطر تسرب النفط من الناقلة صافر، الذي يهدد ليس فقط اليمن وجواره الإقليمي بل العالم بأسره، وهو وضع يستلزم تحركًا عاجلاً وجادًا من جانب المجتمع الدولي لتجنب وقوع تلك الكارثة الوشيكة عبر الضغط بكل الأدوات والوسائل المتاحة على الحوثيين لإرغامهم على السماح بوصول الخبراء الأممين إلى الناقلة، وتقييم حالتها، ووضع الخطط اللازمة للحيلولة دون تسرب النفط منها.