تقارير

الدعم الإيراني لحركة حماس.. قراءة تحليلية

شكّل الدعم الإيراني لحركة “حماس” الفلسطينية خلال التصعيد الأخير الذي شهده قطاع غزة الشهر الماضي، وما تخلله وأعقبه من تبادل المديح والشكر بين قادة الحركة وطهران، مرآة عاكسة لعلاقة دافئة أخذت في التنامي خلال السنوات الماضية، ترتكز إلى جذور تاريخية، حيث العلاقة الوطيدة بين جماعة الإخوان المسلمين (الجماعة الأم لحماس) وإيران، التي بدأت في أربعينيات القرن الماضي، وقامت على أساس تعاون براجماتي يتغاضى عن الخلافات الأيديولوجية المذهبية ولكن لا يلغيها.

وكان ما يسمى بـ “محور المقاومة” عنوانًا رئيسيًا للعلاقة التي جمعت حماس منذ تأسيسها قبل ثلاثة عقود مع طهران، ليجسد التوافق التكتيكي، وإن كان الصدام محتومًا لا محالة، فلكل طرف مشروعه الخاص القائم على مرتكزاته الطائفية المتطرفة التي لا تقبل بوجود الآخر، لكن يمكن القول إن بلوغ تلك المرحلة مرهون بتحقق التمكين لهما، وهو ما لم يحدث حتى الآن -على الأقل- بالنسبة لجماعة الإخوان، بعكس نظام الملالي الذي يحكم فعليًّا في إيران.

موجات التأثير المُتبادل بين جماعة الإخوان وإيران

اتسمت العلاقة بين الإخوان وإيران بموجات من التأثير والتأثر المُتبادل، ففي البداية اتخذت الجماعة من مدخل التقريب بين المذاهب قناة أساسية للتواصل مع رجال الدين الإيرانيين خلال أربعينيات القرن الماضي، ووفقًا لشهادات قياديين إخوانيين بلغ الوضع ذروته بلقاء بين مؤسس الجماعة حسن البنا والخميني عام 1938 في القاهرة، وحينها كان رجال الدين الإيرانيون ينظرون إلى الجماعة كنموذج ملهم في التنظيم، ومن مؤشرات البصمة الفكرية للإخوان عليهم ترجمة كتابات القيادي الإخواني سيد قطب ومنها كتابا “المستقبل لهذا الدين” و”الإسلام ومشكلات الحضارة” والعديد من الأدبيات الأخرى الخاصة بالجماعة إلى اللغة الفارسية ونشرها في الحوزات العلمية في مدينتي قم ومشهد.

وعقب اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 والإطاحة بحكم الشاه، ليحل محله نظام الملالي، انقلبت معادلة التأثير، إذ نظر الإخوان بإعجاب لتلك الثورة التي أدت لحكم تيار الإسلام السياسي، وتطلع للوصول إلى السلطة مثلما حدث في إيران، وبدا التأثر واضحًا بنظام الملالي حينما وصل الإخوان للسلطة للمرة الأولى في تاريخهم، حيث سعت الجماعة إلى استنساخ ملامح النظام الإيراني لكن سرعان ما ذهبت أحلامهم أدراج الرياح، بعد قيام ثورة 30 يونيو 2013 التي أنهت حكم تلك الجماعة الإرهابية.

ويجمع بين الإخوان ونظام الملالي قواسم مشتركة حيث الرغبة في تطبيق نموذج للحكم تحت ستار من الشريعة -وفقًا لفهمهم- والسلطوية داخل البنية التنظيمية التي تتجسد في قمة الهيكل التنظيمي للجماعة ممثلًا في المرشد العام، وفي نظام الملالي حيث الولي الفقيه، وكذلك علاقة الأتباع القائمة على مبدأ السمع والطاعة.

ويعني ذلك أن الإخوان والملالي يمثلان نموذجين للتشدد والإرهاب والاستبداد والسلطوية، وعلى الرغم من الاختلاف المذهبي، فإن الحليفين وجدا في تعاونهما المرحلي – بمنطق نفعي براجماتي- وسيلة لبلوغ أهدافهما كل واحد على حدة.

حزب الله جسر التواصل بين طهران وحماس

بدأت حركة حماس، التي تتبع فكريًّا وتنظيمًّا جماعة الإخوان بعد تأسيسها في عام 1988، في تطوير اتصالات رفيعة المستوى مع إيران بلغت ذروتها بمشاركة مندوبي الحركة في مؤتمرين عقدتهما إيران حول فلسطين في عامي 1990-1991، وفي السنوات التالية توثقت الصلة بين الحركة وطهران ضمن استراتيجية إيرانية تقوم على التوسع من خلال توظيف الميليشيات المسلحة في مختلف دول المنطقة لخدمة أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، واستطاعت إيران تعزيز علاقاتها بحماس عبر جماعة حزب الله اللبنانية التي كانت أداة رئيسية في التواصل وتمرير الرسائل من طهران إلى الحركة في غزة، حيث تشير تقديرات معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن إيران ترسل ما يصل إلى 50 مليون دولار للحركة سنويًّا.

كما استضافت إيران لاحقًا ممثلاً لحماس على أراضيها في ظل تنامي الرغبة في ممارسة المزيد من التأثير على الحركة ووضعها تحت إمرة القادة الإيرانيين لتدور في فلك نظام الملالي وما يحقق مصالحه حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحة القضية الفلسطينية ودماء أهالي قطاع غزة الذين يتعرضون إلى ضربات انتقامية، ردًّا على تحركات حماس التي لا ترتكن إلى ميزان المصلحة الوطنية الفلسطينية، بل تحركها المصالح الضيقة للحركة، ومصالح الحلفاء في طهران.

وساطة إيرانية لإذابة الجليد بين دمشق والحركة مع صعود السنوار

ولم تمض العلاقة بين حماس وإيران على وتيرة واحدة، إذ شهدت توترات بفعل الجذور الكامنة للصراع المذهبي بين المشروع الإخواني والمشروع الإيراني، وهو ما ظهر تحديدًا مع اندلاع الحرب السورية في عام 2011، حيث دعمت طهران النظام السوري، بينما دعمت حماس بعض فصائل المعارضة، وكانت الأرضية المذهبية محددًا لموقف الطرفين، إلا أنه سرعان ما تم استيعاب تلك التوترات من خلال اجتماعات رفيعة المستوى بين المسؤولين الإيرانيين وقادة حماس، ثم توسطت طهران في مصالحة بين دمشق وحماس في فبراير عام 2017 مع تعيين يحيى السنوار قائدًا للمكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة والمعروف بقربه من إيران، والذي أعلن بدوره في أغسطس من العام ذاته أن إيران هي “أكبر داعم للحركة ماليًّا وعسكريًّا”.

ويتفاخر المسؤولون الإيرانيون منذ ذلك الحين بدورهم في تطوير قدرات الحركة، ففي يناير الماضي، صرّح قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاج زادة أن “كل الصواريخ في غزة ولبنان صُنعت بدعم إيران”.

كما أعربت الميليشيات الموالية لإيران في جميع أنحاء المنطقة عن ثناء كبير وعروض دعم عسكري لحركة حماس خلال التصعيد في غزة، إذ أعلن أبو عزرائيل، قائد ميليشيا كتائب الإمام علي في العراق،  في 16 مايو الماضي أنه تم “نشر” بعض العناصر العراقية للانضمام إلى القتال ضد إسرائيل (رغم أنه لم يكشف عن مكانها). وفي خطاب ألقاه في الخامس والعشرين من الشهر ذاته، أشاد الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله بأداء حماس ووصفه بأنه “خطوة تاريخية في الصراع مع العدو” ، واصفًا الحركة بأنها جزء مهم مما يسمى “محور المقاومة”.

تضارب تصريحات قادة حماس بشأن الدعم الإيراني

وبرزت حالة من التخبط في تصريحات قادة حماس بشأن الدعم الإيراني للحركة، عكست قدرًا من التجاذبات الداخلية بين هؤلاء القادة، ففي حين وصف خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في الخارج العلاقة مع إيران بـ”الممتازة”، لكنه أكد أن تصنيع الأسلحة يتم في قطاع غزة ولا يجري تزويد الحركة بأية صواريخ من خارج القطاع.. أقر كل من إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ويحيى السنوار قائد المكتب السياسي للحركة في غزة بدعم طهران لحماس بالمال والسلاح والتقنيات، إذ قال هنية في كلمة متلفزة بثت عبر فضائية الأقصى التابعة لحماس نصًا: “أوجه الشكر للذين قدموا المال والسلاح للمقاومة الباسلة، إيران لم تبخل عن مد المقاومة بالمال والسلاح والتقنيات”.

كما وجه السنوار الشكر لإيران التي وصفها بأنها كانت “كريمة دائما” مع الفصائل الفلسطينية ماديًّا ولوجستيًّا ومعنويًّا، على حد تعبيره. ولم يكتف بذلك، بل شدد على أن حماس “لا تحتاج لمساعدات مادية”، مؤكدًا “لدينا طرقنا في الحصول على الأموال”، حسب قوله.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن إيران وحركة حماس مارستا خلال جولة التصعيد الأخيرة بين إسرائيل وقطاع غزة تجارة رخيصة بدماء الفلسطينيين من أجل تحقيق مصالحهما، فكلاهما كان مهتمًا بتوظيف الحدث من أجل مكاسب تعزز مصالحه، فقد أراد النظام الإيراني بتصريحاته العلنية عن الدعم المالي والعسكري والتقني للحركة أن يبعث برسالة ابتزاز واضحة إلى المجتمعين في فيينا لمناقشة إحياء الاتفاق النووى الإيراني، يظهر فيها ورقة ضغط جديدة لعلها تترجم لصالحه على طاولة المفاوضات.

واللافت أن إيران لم تعلن في أي من الجولات السابقة أو الجولة الأخيرة عن تبرعات مالية لجهود إعادة الإعمار بعد الدمار الذي لحق بالقطاع، وهو ما يؤكد حقيقة أن استثمار إيران دومًا يكون في الدمار والتخريب وسفك الدماء، فدعمها ليس دعمًا للقضية الفلسطينية، بل للمشروع الإيراني التوسعي التخريبي، وأموالها ليست لرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، بل هي أموال توجه لحركة تخضع لتعليماتها وتنفذ سياستها.

ومما لا شك فيه أن ذلك الوضع الجيواستراتيجي الراهن يستلزم تحركًا دوليًّا منظمًا لتطبيق سياسة أكثر صرامة على طهران وأذرعها المسلحة في مختلف أنحاء المنطقة، الذين انسلخوا عن الولاءات الوطنية لدولهم، وارتموا في أحضان نظام الملالي.

زر الذهاب إلى الأعلى