في الثامن عشر من فبراير الجاري، بدأت معالم سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه إيران تتضح من خلال سلسلة من التحركات الدبلوماسية ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني، تمثلت في إخطار الأمم المتحدة بسحب مذكرة قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لإعادة فرض جميع العقوبات الأممية على إيران، بجانب رفع القيود التي فرضتها إدارة ترامب على تنقل الدبلوماسيين الإيرانيين وعائلاتهم في نيويورك، وكان الإجراء الأهم إعلان وزارة الخارجية الأمريكية قبول واشنطن دعوة أوروبية لمحادثات تحضرها إيران لبحث إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
وقد كرر الرئيس الأمريكي جو بايدن شعاره بعد الانتخابات الرئاسية بأن “أمريكا عادت” وعلى استعداد لاستعادة دورها القيادي، مؤكدًا أمام مؤتمر ميونيخ للأمن استعداد الولايات المتحدة للانخراط من جديد في مفاوضات مع مجموعة 5+1 بشأن البرنامج النووي الإيراني، في إشارة إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا وهي الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني.
وتوحي تلك التصريحات والتحركات الأمريكية بشكل واضح أن واشنطن تعتزم اتباع ذات النهج الذي أفضى إلى توقيع الاتفاق النووي قبل 6 أعوام، ما ينذر بإهدار الجهد الذي تم بذله في العامين الأخيرين من خلال استراتيجية الضغط الأقصى التي اتبعها الرئيس ترامب، والتي وضعت النظام الإيراني في موقف صعب للغاية على كافة الأصعدة.
مبادرة ثلاثية أمريكية ومساومة إيرانية
يعتبر إحياء الاتفاق النووي الإيراني عملية معقدة بالنسبة لإدارة بايدن، على عكس سياسات ترامب الأخرى التي تم العدول عنها بسهولة بمجرد توقيع جديد مثل العودة لاتفاقية باريس للمناخ ولمنظمة الصحة العالمية، وتمديد معاهدة “ستارت 3” للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية مع روسيا.
وعلى الرغم من وجود قضايا ساخنة أخرى – من بينها روسيا والصين وكوريا الشمالية – فإن لإيران أهمية خاصة لكبار مساعدي بايدن للأمن القومي، ومن بين هؤلاء وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، والمبعوث الخاص لإيران روب مالي، وجميعهم شاركوا بشكل وثيق في صياغة اتفاق 2015 في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وقد تكون لديهم مصالح شخصية في إنقاذها، وفقًا لوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية.
وأطلقت الولايات المتحدة مبادرة ثلاثية تجاه إيران في محاولة لإحياء الاتفاق النووي، تشمل الترحيب باقتراح أوروبي لعقد محادثات مع جميع الدول التي كانت جزءًا من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وإبلاغ مجلس الأمن الدولي بسحب إعلان إدارة ترامب إعادة فرض كل عقوبات الأمم المتحدة على إيران، وتخفيف قيود الحركة على الدبلوماسيين الإيرانيين في نيويورك.
إلا أن جهود إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني قوبلت باستجابة باردة من طهران، حيث أعلنت إيران أنها لن تستجيب لأي مبادرة أقل من الرفع الكامل للعقوبات التي أعاد ترامب فرضها، معتبرة أن نهج بايدن لا يختلف كثيرا في جوهره عن نهج ترامب، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بقوله: “إن بايدن يزعم أن سياسة الضغط الأقصى التي انتهجها ترامب تمثل أقصى درجات الفشل، لكنه لم يغير تلك السياسة”، معتبرًا أن الولايات المتحدة مدمنة للضغط والعقوبات.
وفي أول رد فعل عملي على تحرك إدارة بايدن، أوقفت إيران البروتوكول الإضافي، الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي، والذي كان يسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش المفاجئ لمنشأتها النووية، وعلى الرغم من أنها لم تصل إلى حد إصدار أوامر بإبعاد المفتشين الدوليين، فإن طهران قلصت التعاون معهم، حيث أنهت وصول الوكالة الدولية إلى مقاطع الفيديو المسجلة بواسطة الكاميرات المثبتة في عدد من المواقع النووية، وتعهدت بإعادة النظر في الخطوة في غضون ثلاثة أشهر إذا لم يتم رفع العقوبات.
في مقابل ذلك، عمد البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية إلى التقليل من أهمية هذه الخطوة الإيرانية، حيث قالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جين بساكي إن واشنطن ترى أن الدبلوماسية هي أفضل طريق للمضي قدما لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، كما أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس عن قلق الإدارة الأمريكية من أن إيران تسير في الاتجاه الخاطئ، لكنه لم يعلق على وجهة نظر الإدارة بشأن ما إذا كانت مبادرتها قد حققت نتائج حتى الآن، ولم يفصح عما قد تفعله الإدارة لدفع إيران إلى الامتثال للاتفاق النووي، وإن اكتفى بتصريح مقتضب بأن صبر الإدارة الأمريكية له حدود.
ويبدو أن الموقف الإيراني المتشدد ترك الإدارة الأمريكية على أعتاب خيار صعب، فإما المضي قدمًا في تخفيف العقوبات قبل أن تستأنف إيران الامتثال الكامل لبنود الاتفاق النووي، وإما التمسك بمطلب الامتثال الكامل أولاً، وهو ما يحمل معه مخاطرة بانسحاب طهران من الاتفاق، بحسب مجلة “نيويوركر” الأمريكية.
واشنطن تتجنب تحميل طهران مسؤولية تصعيد أذرعها المسلحة
واللافت أيضًا أن الدبلوماسية الأمريكية في عهد بايدن تجنبت الإشارة إلى أصابع طهران التي تقف وراء أعمال التصعيد والاعتداءات في الإقليم، وهو ما بدا جليًّا في تعليقات الخارجية الأمريكية على الهجمات التي شنتها ميليشيات مدعومة من طهران واستهدفت مصالح وأهدافًا أمريكية في العراق، علما بأن هذا السلوك العدواني ليس بجديد، فمنذ مايو 2019 كانت الميليشيات المدعومة من إيران وراء ما لا يقل عن 83 ضربة من هذا القبيل على مواقع أمريكية.
كما تجنبت الإدارة الأمريكية إلقاء اللوم على جماعة حزب الله اللبنانية – أهم ذراع مسلحة لإيران في المنطقة- عند إدانتها لاغتيال الناشط السياسي اللبناني لقمان سليم المعروف بمواقفه المناهضة للحزب، وتجنبت كذلك ذكر إيران في معرض إدانتها لمواصلة ميليشيا الحوثي إطلاق طائرات من دون طيار والصواريخ صوب الأهداف المدنية في المملكة العربية السعودية، وذلك على الرغم من أن النظام الإيراني يقوم بتزويد ميليشيا الحوثي بالأسلحة ويتولى تدريبهم، كما قامت بشطب الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وفقًا لشبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية.
وهنا تطرح مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (مركز بحثي أمريكي) تساؤلًا مفاده لماذا لا تربط إدارة بايدن بين إيران وأذرعها المسلحة في المنطقة، ولا تفعل المزيد لردع هذا السلوك علنًا؟ مشيرة إلى أنه من الواضح أن استراتيجية إدارة بايدن تتضمن تقديم تنازلات مسبقة لطهران، بما في ذلك الفصل بين الملف النووي والتهديدات الإقليمية التي تشكلها إيران، وذلك على النقيض تمامًا من سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجها ترامب والتي اتسمت بإدانات صريحة وردود أكثر مباشرة على الأعمال العدائية المدعومة من النظام الإيراني، حيث كان فريق ترامب يرى أن تخفيف العقوبات يجب أن يحدث فقط مقابل تغيير شامل في سلوك طهران، وبما يتضمن وقف تهديداتها الإقليمية.
نهج بايدن التفاوضي على خطى إدارة أوباما
أما نهج بايدن فمستوحى مباشرة من إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وهو غض الطرف عن السلوك العدواني في الإقليم وتقديم الإغاثة الاقتصادية، لاستمالة طهران من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات.
فبينما كانت إدارة أوباما تتودد إلى طهران لإجراء محادثات نووية في الفترة من 2012 إلى 2015، قيدت سياسات مكافحة الإرهاب والمخدرات تجاه وكلاء النظام الإيراني مثل حزب الله، وهو ما كشفته مجلة “بوليتيكو” الأمريكية في عام 2017، حين أفادت بتراجع جهود الولايات المتحدة ضد حزب الله مع تزايد أهمية التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.
وقد أشارت إدارة بايدن مؤخرًا إلى عدم معارضتها الحصول على قرض بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لإيران، فبينما يبدو ظاهريًّا أنها للمساعدة في مواجهة أزمة فيروس كورونا، إلا أن تلك الأموال التي ستملأ خزائن النظام الإيراني ستكون ورقة في غاية الخطورة، فكلما زادت الأموال التي تمتلكها إيران، زادت قدرتها على تمويل ميليشياتها المسلحة في الإقليم، وتعزيز برامجها الصاروخية والعسكرية والنووية.
وعلى الأرجح ستكون نتيجة نهج بايدن على غرار ما توصلت إليه إدارة أوباما، أي صفقة معيبة توفر لإيران مسارات للحصول على أسلحة نووية، لأن قيودها تنتهي بمدى زمني، بينما يتم تكبيل يدي واشنطن من استخدام أقوى عقوباتها الاقتصادية، كما تخلو من أي ضابط لوقف تطوير طهران قدراتها الصاروخية وقدرات الميليشيات المسلحة التابعة لها في الإقليم.
وأخيرًا.. إن كافة المؤشرات الراهنة تشير إلى أن النظام الإيراني يسعى لاستغلال اندفاع إدارة بايدن نحو الدبلوماسية، من أجل انتزاع أكبر قدر من المكاسب والتقيد بأدنى حد من الالتزامات، ويبدو أن الإدارة الأمريكية التي اعتمدت في تشكيلها لفريق الأمن القومي والسياسة الخارجية على ذات الوجوه التي عملت في إدارة أوباما، لم تستوعب حجم المتغيرات التي طرأت على البيئة الإقليمية، والتي تستلزم نهجًا جديدًا أكثر شمولًا في معالجة التهديدات الإيرانية، بحيث تقوم على توسيع نطاق القضايا محل التفاوض ومشاركة القوى الإقليمية الرئيسية في العملية التفاوضية.