دراسات وبحوث

التغيير الديموغرافي.. مخطط إيران لاختطاف سوريا والعراق

عمدت إيران منذ استيلاء ثورة الخميني على الحُكم، إلى اتباع أساليبَ جديدةٍ في إطار خطة “تصدير الثورة”، عن طريق استغلال المذهب الشيعي ونشره في المنطقة العربية، من بينها أن تصدير الثورة لا يعتمد على فكرة الاستقطاب الفردي أو الشيعي العقائدي فقط، بل شملت الخطةُ الجديدة عملياتِ التجنيد الفردي ثم التوسّع في إنشاء جماعة موالية، ثم جماعاتٍ تتطور بمرور الزمن لتبلور وجودَها إما في شكل حزب سياسي، كما في اليمن ولبنان، أو جمعياتٍ حقوقية، كما في البحرين، ويصل الأمر إلى تبلور الوجود الشيعي في المجتمعات العربية لميليشيات مسلحة، كما في العراق وسوريا.

والحقيقة التي تتكشّف كلّ يوم، أن الهدف الإيراني هو خلق جماعاتٍ وظيفية تقوم بدور وظيفي للنظام الإيراني في اختراق المجتمعات العربية، وإحداث قلاقل سياسية واجتماعية ودينية وحقوقية، تسمح لإيران بممارسة الضغوط على الدول العربية، أو اختراقها بوسائل متعددة.

اعتمدت إيران مخططها المتمثلَ في ضرورة تغيير هوية المناطق الجغرافية التي تقطنها المجموعات الشيعية، مستلهمةً الفكرة من الجنوب اللبناني بعد وصول موسى الصدر إلى بقعة لبنانية شيعية، سرعان ما أصبحت إقليماً تابعاً لإيران بعد قيام حزب الله، فضلاً عن أن ايران تخطط على المستوى البعيد لتغيير هوية الجغرافيا في المناطق المختلفة، وخير نموذج على ذلك، إيران ذاتها، التي تتمتع بوجود سكانٍ من عرقيات مختلفة في أقاليم متفرقة، مثل الكرد، والبلوش، وعرب الأحواز. فمنذ زمن كانت مصلحة النظام في طهران تتطلب التحكّم الكامل في تلك الأقاليم بعد قيام الثورة “الإسلامية” عام 1979، نظراً لكونها تمثل أحدَ أهم مصادر الخطر الوجودي للنظام الحاكم، فنفذت إيران مخططاتٍ عدة لتغيير التركيبة السكانية بتلك الأقاليم، عن طريق بناء مستوطنات في الأحواز، وتهجير سكانها العرب أو التضييق عليهم ومنعهم من استخدام اللغة العربية أو حتى ارتداء الزي العربي، إلى جانب الملاحقة الأمنية لكل المخالفين واعتقالهم، وتمكّنت من إحداثِ التوازن المطلوب بين تلك العرقيات، والسيطرة على أطراف الدولة الحدودية سيطرةً شبه كاملة.

يهدف “نظام الملالي” في إيران إلى تغيير ديموغرافية الدول الموالية له، وخلق بؤر طائفية شيعية خالصة، ذات مهامّ خاصة تتعلق بالعبث في الأمن القومي العربي

ويُعَدّ التغيير الديموغرافي، أحدَ العلوم الاجتماعية التي تُعنَى بقضايا المجتمع الإنساني ومشكلاته وتغيّراته، ويختصّ بمسائل السكان وعوامل نموّهم وتوازنهم النوعيّ والكمّي، وتتأثر مفاهيمُه بالتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها المجتمعات الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن أنه يدخل في قياس خصائصَ معينةٍ للسكان، مثل حجم السكان وتوزيعهم حسب نوع العمل والانتماء السياسي والديني والقومي.

ويهدف “نظام الملالي” في إيران من خلال مخططاته، إلى تغيير ديموغرافيةِ الدول الموالية له، وخلق بؤر طائفية شيعية خالصة ذات مهام خاصة، تتعلق بالعبث في استقرار الأمن القومي العربي، وتكريس الأطماع  الصفوية في السيطرة الكاملة على تلك الدول، وهي الخطط التي تتطلّب سبراً وتسليطاً للضوء على تفاصيلها، خاصة في سوريا والعراق.

أولاً: إيران والتغيير الديموغرافي في سوريا

مخاوف من تحوّل السنة في سوريا إلى أقلية، للمرة الأولى في بلد عربي منذ قرون، في ظل مضيّ إيران في تنفيذ مخططاتها لتهجير وطرد السوريين السنة، وإحلال أبناء الطائفة الشيعية مكانهم

تشير بعض التقديرات إلى أن سوريا تشهد تغييراً ديموغرافياً واضحاً، يستهدف التركيبة الديموغرافية للسكان في البلاد، بحيث تكون الأغلبية السكانية من السنّة الأكثر تضرّراً، ووفقاً لصحيفة لاراثون الإسبانية، فإنه «في المستقبل القريب، قد تتحوّل هذه الطائفة السنية إلى أقلية، للمرة الأولى في بلد عربي منذ قرون».

وبيّنت الإحصائيات أنه قبل اندلاع الحرب سنة 2011، كانت سوريا تضمّ حوالي 16 مليون سني، ونحوَ تسعةِ ملايين شخص بين مسيحيين وعلويين وأكراد ودروز، وغيرهم من الأقليات الأخرى، وبعد سبع سنوات من الصراع، لم يتبقَّ سوى ثمانية ملايين سنّي في سوريا.

وقد تطوّرت عملياتُ التغيير الديمغرافي بداية 2013، حيث تمّ تأطيرُها كأداةٍ من جُملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سوريا، المعروفة بــالحفاظ على “سوريا المفيدة”، بما يضمن تحقيق هدفين رئيسيين، هما:

1- تمكين وجود النظام في الشريط الواصل بين دمشق والساحل، باعتباره مركزاً للثقل السياسي.

2- تمكين حزب الله في لبنان، من خلال تشكيل منطقة عازلة على الحدود اللبنانية – السورية، تحميه من الارتدادات السلبية للصراع الدائر في سوريا.

وتحدث عمليات التغيير الديموغرافي، بشكل رئيس غربي سوريا، بين حمص ودمشق، حيث فرّت الغالبية العظمى من السكان السنّة، كما حدث أيضاً في المنطقة العلوية باللاذقية، وطرطوس، وجبل الأكراد شمال غربي البلاد، حيث تم طرد السنة، تحت ذريعة «تطهير المنطقة من الخطر الإرهابي».

ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة، مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير غربي حمص، في مايو 2013، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى العُقَد الاستراتيجية الواقعة ضمن “سوريا المفيدة”، ووفقاً للإحصائيات المستمدّة من عدّة مصادر، فإن النظام السوري والقوات الموالية له قاموا بالتهجير – بشكل قسري – لسكان حوالي 125 منطقة، توزعت بين 99 منطقة يغلب عليها المكوّن العربي السني، و26 منطقة ذات غالبية تركمانية سنيّة.

كما تسعى إيران إلى طرد السنّة من دمشق ومحيطها، وتأمين الطريق الرابط بين دمشق إلى الحدود اللبنانية، وإحلال عوائلَ وميليشياتٍ شيعيةٍ مستوردة من العراق ولبنان محلّ العوائل السنية التي يتم طردها، ما يؤدي إلى تشكيل هوية طائفية جديدة لسوريا، الأمر الذي سينعكس مستقبلاً ليس على سوريا وحدها، وإنما أيضاً على النفوذ الإيراني في المنطقة.

وتعتبر مدينة (داريا) بريف دمشق الغربي، نموذجاً واضحاً لهذا المخطط الإيراني، حيث دام حصارها ما يقارب 4 سنوات، وبعد حملة عسكرية قاسية وشرسة على المدينة، شاركت فيها  الميليشيات الشيعية الوافدة من لبنان والعراق ومرتزقة أفغانستان، توصلت فصائل المدينة وجيشُ النظام إلى اتفاق يقضي بإخلاء المدينة بشكل كامل، والتي تقلّص عدد سكانها بعد الحصار إلى 8 آلاف شخص، من أصل 250 ألفاً يقطنون المدينة قبل بدء الحملة العسكرية على المدينة، في أواخر عام 2012، والتي تسببت بحملة نزوح كبيرة، ليتمّ – من ثَمّ – توطين مقاتلين موالين للنظام من خارج الدولة السورية في المدينة، في ترجمة واضحة لقول بشار الأسد في أحد خطاباته: «سوريا لمن يدافع عنها بغضّ النظر عن جنسيته».

 

ثانياً: إيران والتغيير الديموغرافي في العراق

إن استمرار نزوح الأقليات في العراق من مناطقها الأصلية، بدعوى الخوف من الحرب على الإرهاب، تُنذر بمخاطر جَمّة، أهمّها مستقبل الدولة الوطنية والوجود العربي بشكل عام، فضلاً عن الهوية العربية.

استحداث آلية جديدة أكثر راديكالية واكثر عنفاً عُرفت باسم “الحشد الشعبي” لإعادة ترسيم الحدود بين مختلف الأقاليم ديموغرافياً، بحسب المخطط الإيراني

النموذج العراقي يوضّح الخطط الإيرانية في عملية التغيير الديمغرافي بشكل فاقع، إذ انتهجت إيران بعد الغزو الأمريكي سياساتٍ “مافيوية” أدت إلى غياب الدولة القومية العربية العراقية، وظهور عددٍ من الكيانات التي لا ترقى إلى وصف “مؤسسات دولة”، ولكنها تمثّل أقاليم منفصلة في الشمال والجنوب والوسط، وحتى داخل الأقاليم ذاتها، وحدث هذا في غياب الدولة العراقية الحاكمة، التي سيطرت إيران على صناعة القرار السياسي فيها، بدءاً من مجلس الوزراء وانتهاءً بالبرلمان والكتل السياسية، مستغلةً خضوعَ العراقيين، لاستحداث آلية جديدة أكثر راديكالية وعنفاً، عُرفت باسم “الحشد الشعبي”، لإعادة ترسيم الحدود بين مختلف الأقاليم، ديموغرافياً، بحسب المخطط الإيراني.

ولتحقيق هذا الهدف، أدارت إيران عمليات عسكرية بدعوى حرب الإرهاب، إلا أنها تحمل بين طيّاتها مخططَ التهجير لاحتلال الأرض وتغيير الديموغرافية، فكان تنظيم داعش مبرّراً لعمليات التهجير وتدمير المنازل والبنى التحتية في المناطق المحرّرة، واستخدام أساليب كثيرة لضمان عدم عودة النازحين، لذا يمثل هذا الوجود الميليشياوي كياناً يعمل على تفكيك وتفتيت وإعادة رسم وتكوين الأقاليم في العراق، ما يوحي بأن الدول العربية أمام قوى هجومية تفكيكية، استطاعت أن تخلق العديد من الجماعات الوظيفية لأهداف متعددة، تستهدف مستقبل الدول العربية المستقلة.

تبنّي إيران سياسة تغيير ديموغرافية الأقاليم في بعض مناطق العراق، جاء ضمن مخطط “الحرب على الإرهاب”، بهدف التحكّم في استقرار تلك الأقاليم و تغيير هويتها لضمان الولاء لتنفيذ السياسات الإيرانية

ومن أساليب التهجير القسري التي اتبعتها إيران في العراق، قيام الطائرات من حين لآخر بإلقاء منشورات في بعض مناطق شمال العراق، تتضمن تحذيرات من بقاء السكان في مدنهم وقراهم، بذريعة تنظيم داعش، ومن أمثلة ذلك منشور يقول: «على أهل المنطقة مغادرتها حفاظاً على حياتهم قبل اقتحام الجيش لمحاربة الدواعش»، ليفاجأ سكان تلك المناطق، ومعظمهم من أتباع المذهب السنّي، بقرار غير مباشر لتهجيرهم، بدعوى قتال المتطرّفين، وما بين تلك المدن، اضطر ملايين النازحين للرضوخ لسيطرة الجماعات المتطرفة، سواء كان تنظيم داعش أو الميليشيات الشيعية شمال بغداد.

تبنّي إيران سياسة تغيير ديموغرافية الأقاليم في بعض مناطق العراق، جاء ضمن مخطط الحرب على الإرهاب، بهدف التحكّم في استقرار تلك الأقاليم وتغيير هويتها، لضمان الولاء وتنفيذ السياسات الإيرانية بالسيطرة على بغداد، وهو الحلم الإيراني الممتدّ عبر تاريخ طويل، شهد احتلال الدولة الصفوية لبغداد منذ عام 1508 أربع مرات، وبحسب العلاّمة العراقي علي الوردي عالم الاجتماع المعروف، فقد بدأ تأثير إيران في العراق بعد تحوّلها إلى المذهب الشيعي، حيث كان التقاربُ بين الإيرانيين وشيعة العراق ينمو بمرور الأيام، وصارت قوافل الإيرانيين تتوارد تباعاً إلى العراق لزيارة العتبات المقدّسة (عند الشيعة)، أو طلب العلم، أو دفن الموتى وغير ذلك، إلى أن تحوّلت إيران إلى وحش يسعى لالتهام العراق وهدم حضارته وتقسيمِه، للسيطرة على أهم تجارةٍ شيعية في العالم.. وهي المراقد والأضرحة.

العديد من الدراسات رصدت مخططاتِ إيران التي تطابقت آليتها مع آلية الإسرائيليين في فلسطين، ألا وهي السيطرة على بقعة معينة وإنشاء مستوطنة بها، ثم إنشاء مستوطنة ثانية وثالثة، ثم محاولة السيطرة على الأرض بين هذه المستوطنات الثلاث، وهذا المخطط القديم الحديث جارٍ في العراق، فشيعة الجنوب والوسط في العراق هم شبه أداة لتنفيذ ما تمليه عليهم إيران وما تخطط له لتغيير الديموغرافية العراقية، وتكريس ولاء العراقيين لها، واتبعت إيران طريقتين في سبيل ذلك:

1- حثّ سكان الجنوب الشيعة سيما من محافظات «ميسان، الديوانية، المثنى، الناصرية، البصرة»، على الانتقال لمناطق الوسط، الغرب، والشمال «السنية»، فمثلاً كانت الأنبار محافظة سنية 100%، لكنها تضم الآن 750 عائلة شيعية.

2- استغلال الوجود الشيعي القديم، ومثاله مدينة تلّعفر في محافظة نينوى، ومدن الدجيل وبلد وطوزخورماتو في محافظة صلاح الدين، لتكون مرتكزاً للتمدّد، أو استغلال مراقد دينية لنشر التشيّع من خلالها، وهذا الأمر الأخير يُستخدم حتى في الدول الأخرى، فقد حاولت إيران استغلال قبر «جعفر الطيار» في مدينة المزار بمحافظة الكرك الأردنية، لجعله منطقة سياحية دينية شيعية، ومن ثم التحرّك داخل المناطق المجاورة، وكذا فعلوا في حي السيدة زينب بالعاصمة السورية دمشق وغيرها، إذ إن الوجود الشيعي الإيراني داخل المناطق السنيّة، يتيح لها استمالة عددٍ من ساسة وقادة السنة إليها، سواء بالمال أو بالمناصب، وخلق القطعان العسكرية من جيش وشرطة من شيعة الجنوب داخل مناطق السنّة، وهذا يؤدّي إلى بناء علاقاتٍ استخباراتية مع المواطنين السنّة بالمال وغيره.

النازحون وإشكاليات العودة للمناطق المحرّرة من «داعش»

منعت ميليشيات الحشد الشعبي سكان 13 قرية ومدينة عراقية من العودة إليها، ودمّرت منازلها وبنيتها التحتية بدعوى احتضان هؤلاء الأهالي لعناصر تنظيم داعش. هذه المدن والقرى، التي استعادها الجيش العراقي من تنظيم داعش بمساندة ميليشيات الحشد الشعبي، ومقاتلي الحرس الثوري الإيراني، توزّعت في محافظات بابل وبغداد وصلاح الدين والأنبار وديالى ونينوى، ورغم مرور أكثرَ من عام على استعادة تلك المدن والقرى، لم يَعُد النازحون إليها بسبب رفض الميليشيات عودتهم كعقاب على احتضانهم “داعش”، إضافةً إلى انتظار تنفيذ مخطط التغيير الديموغرافي لتلك المدن، إلى جانب تعمّد الميليشيات الطائفية تدمير البنية التحتية والمنازل والمدارس والمستشفيات في المدن المحرّرة، حتى تصعب الحياةُ فيها بعد تدمير شبكات المياه والكهرباء والاتصالات، فيما أكدت الشواهد وجودَ عملياتِ تغيير طائفية لسكان مدينة النخيب في الأنبار، الملاصقة للسعودية، من قِبل الميليشيات خلال الفترة الماضية، بهدف تحويلها من هُويّتها المذهبية والعشائرية الحالية، إلى مدينة خاضعةٍ لطهران، عبر الترهيب والترغيب.

مأساة النازحين لا تقتصر على الأوضاع الإنسانية المترديّة، وإنما امتدّت إلى الاضطهاد الطائفي والعنصرية والعنف المفرط من قبل الميليشيات الشيعية

3,112,914 شخصاً نزحوا من مساكنهم وقراهم جرّاء الصراعات المذهبية في العراق، وَفق إحصائية رسمية لمنظمة الأمم المتحدة ومكتبها الكائن في بغداد، حيث يسكن 67% من النازحين في مأوى خاصّ، مثل المنازل المؤجرة أو لدى الأسر المضيفة أو الفنادق، ومؤخراً كانت مدينة الفلوجة العراقية من بين المدن التي هَجَرها سكانُها، وتتراوح أعدادهم ما بين 70 إلى 75 ألف نازح.

مأساة النازحين لا تقتصر على الأوضاع الإنسانية المتردّية، وإنما امتدت إلى الاضطهاد الطائفي والعنصرية تجاه مَن يقيمون في مخيمات اللاجئين التي أنشأتها الأمم المتحدة ولا تخضع لسيطرتها، فكثيراً ما يتعرّض السكان إلى عنفٍ مفرط من قبل الميليشيات الشيعية، التي تعمل في محيط مخيمات اللاجئين في العراق، سواء في إقليم كردستان أو المناطق الأخرى، إضافةً إلى أكثر من 700 ألف نازح آخرين قرّروا السكن في الفنادق والمنازل المستأجرة، بل وفي هياكل المباني التي لم يكتمل بناؤها، أو عند أقاربهم، أو في مخيمات مختلفة، منها مخيم النازحين في أربيل، و مخيم النازحين في قضاء خانقين شمال بعقوبة مركز محافظة ديالى، التي شهدت معظمُ مناطقها اضطراباً أمنياً نتيجة سيطرة مسلحي تنظيم داعش، ومن ثم سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي الشيعي بعد طرد مسلحي التنظيم.

رَصَدت العديدُ من الروايات معاناةَ هؤلاء النازحين، بدايةً من اختفاء أرباب الأسر وعائليهم، مروراً باستجوابهم، في محاولة لإرهابهم ومنعهم من العودة إلى منازلهم، وهو ما أكده سكان منطقة الفلوجة عبر وسائل الإعلام، مؤكدين أن الميليشيات الشيعية تتعمّد تفجير كافة المنازل والمرافق في المناطق المحررة، لضمان عدم عودة الأهالي لمنازلهم، وغالباً ما يفقد النازحون أموالهم وممتلكاتهم، وبالتالي لن يجدوا ما ينفقونه لإعادة بناء منازلهم، كما تتم مساومة كثير منهم على عدم العودة مقابل تسهيل عملية شراء منزل في منطقة أخرى أو إيجاد عمل بمنطقة نزوحه، لربطه بتلك المناطق لضمان عدم عودته، ولفتت روايات موثّقة إلى أن المنازل التي تمّ تفجيرها ما زالت أطلالاً، لكنها قد تشهد إعادةَ بناءٍ بعد فترة، انتظاراً لهدوء الأوضاع، وتوطين موالين للنظام الإيراني من شيعة العراق فيها، خصوصاً في المناطق الحدودية القريبة من إيران.

كاهن الكنيسة الكلدانية في العراق أكد أن جميع المسيحيين التابعين للطائفة تمّ تهجيرهم من منازلهم شمال العراق، منهم مَن نزح إلى محافظات الجنوب، ومنهم مَن سافر إلى الدول الأوروبية طالباً اللجوء، مؤكداً تخطي أعدادهم المليون مسيحي، وأضاف أن اضطراب الأوضاع الأمنية وانتشار السلاح والإرهاب، كان دافعاً رئيسياً لهروب المسيحيين، فضلاً عن التعصّب الديني ووقوع العديد من عمليات القتل على الهوية من قبل الميليشيات المسلحة، رافضاً التعليق على قضية إعادة تغيير ديموغرافية أقاليم العراق، إلا أنه ذكر عبارةً عامة وفضفاضة تدلّ على قناعته بتنفيذ إيران لهذا المخطط، حينما ردّد قائلاً: «هناك أطماع من قِبل القوى الإقليمية لاحتلال العراق وهدم حضارته وتغيير هوية أبنائه، لطمس حضارة آلاف السنين».

رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في العراق توماس لوثر فايس، أكد في تصريحات صحفية أن نحو 100 ألف عراقي هاجروا إلى اليونان في مطلع العام 2018، بعد تَيَقُّنِهم من خطورة استمرار وجودهم في العراق، بعد الاحتلال الإيراني – الأمريكي.

الأهداف البعيدة.. محاولات التصدّي والتداعيات المستقبلية  

هناك مخطط لطمس الهوية العراقية والقضاء على حضارتها.. وهناك شواهد على ذلك، بدأت بمقترح إقامة إقليم للسنة في وسط العراق، بدعوى وقف الاحتراب الطائفي

يحاول المجتمع الدولي مواجهة ظاهرة تغيير الهوية في المدن المستهدفة، على استحياء، حيث سبق وأن تبرعت واشنطن بـ 60 مليون دولار لإعمار مدينة الرمادي بعد تحريرها، إلا أن أهالي المدينة المهجّرين أكدوا أن عمليات التدمير طالت البنية التحتية، مشيرين إلى أن ما تبرعت به أمريكا لا يكفي لتأهيل حيٍّ واحد من أحياء المدينة، وأضافوا: «هناك نازحون عادوا إلى مدنهم، فلم يجدوا حياةً صالحة ورجعوا إلى المخيّمات»، كما حاولت دولة الإمارات العربية الوقوف قدر الإمكان في وجه المخطط الإيراني، حيث تبرّعت بعشرة ملايين دولار لإعادة الحياة إلى بعض المدن المدمّرة، إلا أن الحكومة العراقية لم تستغل الأموال المخصصة في إعادة إعمار المدن المدمرة، وإنما استغلتها في إقامة مخيّمات للاجئين بعيداً عن أراضيهم التي هَجَرُوها قَسراً.

هناك مخطط لطمس الهوية العراقية والقضاء على حضارتها، وهناك شواهد على ذلك، بدأت بمقترح إقامة إقليم للسنة وسط العراق، بدعوى وقف الاحتراب الطائفي إثر استقطاب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام للمضطهدين من أهل السنّة، بعد أن أثبتت الوقائع تورّطَ قوات الحشد الشعبي في ارتكاب جرائمَ ضدَّ سكان المحافظات الوسطى في العراق.

مؤخراً.. لم تعد إيران تعوّل على امتطاء المذهب الشيعي فحسب، للسيطرة على العراق، فالأحداث المتلاحقة على أرض الصراع وَلَّدَت استراتيجيةً جديدة، جعلت طهران تفرّق بين أتباع المذهب الشيعي، لتنعكس تلك الاستراتيجية على النظرة الإيرانية الشمولية القاصرة على المذهب، حيث تحوّلت إلى نقطة فارقة وجديدة في تحرّكاتها، قسمت خلالها العراقيين الشيعة إلى موالين ومنافسين على ساحة الحُكم، وكان من شأن الاستراتيجية الجديدة ومحدِّداتها، اتباع سُبلٍ جديدة لخلق الشقاق وزيادة التناحر بين الكتل السياسية العراقية، لعدم توحيد الصفّ والتلاعب بالعملية السياسية، وانشغال الساسة عن مخطّط طهران للسيطرة على مقادير الدولة وتغيير هويّتها، بعد توسيع قاعدة مواليها، بدءاً من عناصر الحشد الشعبي، وانتهاءً بمراجع الدّين، بالتزامن مع إعادة توطين السكان الشيعة في المدن المحرّرة من داعش.

زر الذهاب إلى الأعلى