ارتبطت جميع مشاريع التقدم الكبرى في دول العالم المختلفة ارتباطاً وثيقاً بزعامات وقادة، فجّروا طاقات بلادهم، واستنهضوا همم وعزائم شعوبهم، فاستبقت – تلك الشعوب – الزمن واختصرت المسافات في مواكبة العلم ومستجدات العصر، وحققت معجزات تنموية عظمى، أبهرت العالم وألهمت الدنيا.
ومن هؤلاء القادة، على سبيل المثال لا الحصر: (لي كوان يو) حكيم سنغافورة ومؤسس نهضتها الحديثة، وناقلها من العالم الثالث إلى الأول خلال أقلّ من جيل، و(وينج هيسيا وبنج) مفجّر نهضة الصين العظمى، و(بارك تشونج هي) صانع معجزة كوريا الجنوبية، و(محاضير محمد) زعيم الإصلاح في ماليزيا، والزعيم الهندي (مان موهان سنج) رائد النهضة الهندية الحديثة، الذي حوّل بلاده لتكون قطباً قادماً في الاقتصاد، وصانعة أهمّ خبراء البرمجيات في العالم، إلى جانب الخطط الهائلة لبلد يخرج من الفقر ليدور في أفلاك القوى العظمى كعضو عامل ومؤثر فيه.
اختار ولي العهد أن يكون على رأس مسئولياته تنفيذ رؤية 2030، التي ترضي طموحات المواطنين وتعكس قدرات بلادهم وثقلها الإقليمي والدولي
وكان يوم الخامس والعشرين من شهر أبريل عام 2016، يوماً تاريخياً في المملكة العربية السعودية، حيث أعلن الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد، أن الرياض قد ارتقى طموحها ليبلغ حدّ الصعود إلى مرتبة “قوة عظمى”، عبر رؤية السعودية 2030، التي دشّنها سموّه في هذا اليوم، لينضمّ بذلك إلى كوكبة هؤلاء الزعماء والقادة، أصحاب مشاريع التقدّم التاريخية والمفصلية في حياة ومستقبل الأمم والشعوب.
وقد اختار سموّه أن يكون على رأس مسئولياته تنفيذ تلك الرؤية، التي ترضي طموحات المواطنين وتعكس قدرات بلادهم، وثقلها الإقليمي والعالمي.
ومن خلال المقارنة بين مشروع الأمير محمد بن سلمان ومشاريع تلك الزعامات الآسيوية، نجده يشترك معها في كثير من الاستراتيجيات والرؤى العامة، نذكر منها ما يلي:
أولاً: أن الزعيم الكوري (بارك تشونج هي) صانع معجزة كوريا الجنوبية، قاد حملة اجتماعية ضخمة لتحديث المجتمع الكوري، وتهيئته فكرياً وثقافياً لأن يصبح في مصاف مجتمعات الدول المتقدمة، وتمهيداً للنهضة الاقتصادية التي حققها، وقد عُرفت هذه الحملة باسم (حملة المجتمع الجديد)، والتي شملت ثلاثة مبادئ هي: “الاجتهاد، والاعتماد الذاتي، والتعاون” في حياة المواطنين اليومية.
أعلن الأمير محمد بن سلمان وبإرادة سياسية عازمة وحازمة على تحقيق رؤية إصلاحية داخلية شاملة بدءاً من محاربة الفكر الديني المتطرف
وهو الأمر ذاته الذي تضمّنته رؤية 2030 عندما أطلقت برنامج (التحول الوطني) من أجـل بنـاء القـدرات المادية والإمكانـات اللازمة لتحقيـق الأهداف الطموحـة للرؤية، ظهـرت الحاجة إلى إطـلاق برنامج التحوّل الوطني بصفته أحد البرامـج التنفيذية للرؤية، وذلك على مستوى ٢٤ جهة حكومـية، قائمـة على القطاعـات الاقتصاديـة والتنموية ليكـون باكـورة البرامـج، والذي يهـدف إلى تطـوير العمـل الحكومــي وتأسيـس البنيـة التحتيـة اللازمة لتحقيق الرؤية واستيعاب طموحاتها ومتطلباتها.
وعلى الجانب الفكري والثقافي لتهيئة المملكة العربية السعودية لمشروع نهضتها الحديثة، أعلن الأمير محمد بن سلمان وبإرادة سياسية عازمة وحازمة، إطلاق رؤية إصلاحية داخلية شاملة، بدءاً من محاربة الفكر الديني المتطرّف القائم على الغلوّ والتشدّد، ومحاربة الإرهاب، لتعيش المملكة حياةً طبيعية، في ضوء مبادئ الإسلام والعادات والتقاليد، ولترسيخ مبدأ التعايش مع العالم، في ظلّ التسامح والحوار وقبول الآخر.
وقد تمثلت أركان تلك الرؤية في كلمة الأمير محمد بن سلمان خلال جلسة نقاشية على هامش مبادرة مستقبل الاستثمار، التي انطلقت في الرياض 23 أكتوبر 2017: «لم نكن بهذا الشكل في السابق، نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام المنفتح على جميع الأديان والتقاليد والشعوب». مؤكداً أننا “لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، سوف ندمّرهم اليوم، لأننا نريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم، ونساهم في تنمية وطننا والعالم”.
ركز المحور الثاني لرؤية 2030 وهو الاقتصاد المزدهر، على توفير الفرص للجميع، عبر بناء منظومة تعليمية مرتبطة باحتياجات سوق العمل، وتنمية الفرص للجميع
ثانياً: أن الزعيم (لي كوان يو) حكيم سنغافورة ومؤسِّسَ نهضتها الحديثة، قام مشروعه الكبير على مبادئ التعدّدية و”الاستحقاقراطية” أي حكم الجدارة أو مجتمع الجدارة، وهي نظام إداري وسياسي تُسند فيه التكليفات والمسئوليات إلى الأفراد، على أساس “استحقاقهم” القائم على ذكائهم وشهاداتهم ودرجة تعليمهم، والتي تقاس عن طريق التقييم أو الاختبارات.
في المقابل.. ركز المحور الثاني لرؤية 2030 وهو (الاقتصاد المزدهر)، على توفير الفرص للجميع، عبر بناء منظومة تعليمية مرتبطة باحتياجات سوق العمل، وتنمية الفرص للجميع من روّاد الأعمال والمنشآت الصغيرة إلى الشركات الكبرى، والايمان بتطوير الأدوات الاستثمارية، لإطلاق إمكانات القطاعات الاقتصادية الواعدة، وتنويع الاقتصاد وتوليد فرص العمل للمواطنين. وأضافت الرؤية “ولإيماننا بدور التنافسية في رفع جودة الخدمات والتنمية الاقتصادية، نركّز جهودنا على تخصيص الخدمات الحكومية وتحسين بيئة الأعمال، بما يسهم في استقطاب أفضل الكفاءات العالميّة والاستثمارات النوعيّة، وصولاً إلى استغلال موقعنا الاستراتيجي الفريد”.
أقرّت رؤية 2030 تحويــل المملكــة إلــى قــوة صناعيــة رائــدة ومنصــة لوجســتية عالميـة فـي مجالات النمـوّ الواعـدة
ثالثاً: اتخذت جميع الدول الآسيوية المشار إليها من الصناعة محركاً رئيسياً وأساسياً لمشاريع نهضتها، باعتبار أن الصناعة هي أساس التقدم الحديث، وأنها القاطرة التي تجرّ باقي القطاعات الإنتاجية والخدمية نحو التقدّم والازدهار، لذا اتبعت سياسة التحفيز الصناعي والترويج للتنمية الصناعية، وتفضيل المشروعات الصناعية الكبيرة، إلى جانب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتفضيل الصناعة على الزراعة.
وعلى هذا الصعيد، أقرت رؤية السعودية 2030، تحويــل المملكــة إلــى قــوة صناعيــة رائــدة، ومنصّــة لوجســتية عالميـة فـي مجالات النمـوّ الواعـدة، والتركيـز علـى الثـورة الصناعيـة الرابعـة، بمـا يولّـد فـرص عمـل وافـرة للسـعوديين، ويعـزز الميـزان التجـاري.
ويركـز البرنامـج علـى أربعـة قطاعـات رئيسـية، وهـي الصناعـة والتعديـن، والطاقـة، والخدمـات اللوجســتية، والعديــد مــن المُمَكِّنــات، بمــا فــي ذلــك تطويــر الأنظمة والتشــريعات، والتمكيــن المالــي، والبنيــة التحتيــة، والأراضي الصناعيــة، والمناطــق الاقتصادية الخاصــة، والبحــث والتطويــر والابتكار.
رابعاً: كان الاستثمار الخارجي لدى دول نمور آسيا، أفضل وسيلةٍ لتعزيز الاقتصاد، فنجحت في جذب استثمارات الشركات متعددة الجنسيات، من خلال تأسيس بنية تحتية تنتمي للعالم الأول، وقد تمكنت هذه الدول الجديدة من إقناع الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين، بتأسيس قاعدة للأعمال في البلاد.
ويُعدّ الاستثمار الأجنبي المباشر، أحدَ محاور رؤية السعودية 2030، حيث تم الإعلان عن نية المملكة مضاعفةَ حجم الاستثمارات المباشرة خلال الـ 15 عاماً القادمة، ليصل إلى المعدّل العالمي 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد أكد سموّ وليّ العهد في حديثه لوكالة “بلومبيرغ”، أن المملكة لن تتوانى عن تقديم التسهيلات والضمانات والتشريعات، التي من شأنها أن تعطي تطمينات للاستثمار الأجنبي المباشر القادم من الخارج، إذ يوفر هذا النوع من الاستثمار مواردَ للدولة من جرّاء بيع أصولِ المؤسسات، ومن الضرائب والأرباح التي تدفعها هذه الشركات، إضافةً إلى ما يوفّره من سلع وخدمات بمواصفات عالية الجودة في السوق، علاوة على ذلك أن الاستثمار الأجنبي وسيلة مهمة لتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة، كما أثبتت ذلك التجاربُ في كثير من دول العالم.
كما تسعى الهيئة العامة للاستثمار ضمن استراتيجية متوافقة مع رؤية 2030، لمواكبة التغييرات والتطورات الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، بهدف تسهيل ممارسة الأعمال، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتسويق المملكة كوجهة استثماريةٍ مميزة عالمياً، تتدفّق إليها الاستثماراتُ في مختلف القطاعات.
خامساً: كانت سياسة التصدير إلى الخارج، من أهم ركائز تقدم وثراء دول آسيا، حيث أدّت الاستثمارات الأجنبية الضخمة في هذه الدول، لزيادة صادراتها إلى جميع دول العالم بصورة فلكية وغبر مسبوقة.
وتهدف رؤية المملكة 2030، إلى زيادة الصادرات السعودية غير النفطية من 16% إلى 50% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي، بالاعتماد على مجموعة من الاستراتيجيات لتحقيق الرؤية، منها:
1 – تطوير جاهزية التصدير للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
2 – إيجاد الفرص للمنشآت الجاهزة للتصدير.
3 – تحسين بيئة التصدير والوصول إلى الأسواق العالمية.
4 – تقديم الاستشارات والتدريب ورفع قدرة المنشآت التصديرية.
5- إتاحة فرص المشاركة في المعارض الدولية المتخصصة والبعثات التجارية.
6 – التعرّف على المنتجات المنافسة والأسواق الأجنبية المحتملة.
7 – إعداد تقارير دورية للأسواق المستهدفة أو لسلع معينة لتعزيز ونجاح المنتج السعودي.
وقد أكدت هيئة تنمية الصادرات السعودية «الصادرات السعودية»، أنه يوجد في المملكة 174 سلعة مستهدفة للتصدير في 12 قطاعاً، ستصدّر للأسواق المستهدفة بناءً على مؤشر جاذبية هذه الأسواق، وهي 36 سوقاً عالمية ذات أولوية للسلع ذات القيمة المضافة، كما تعمل الجمارك السعودية على سرعة وانسيابية حركة التجارة في المملكة، بما يتوافق مع أهداف رؤية المملكة 2030، ومبادرات الجمارك في التحوّل الوطني 2020، وستساهم أيضاً في تسريع عملية الفسح الجمركي بالمنافذ الجمركية البرّية والجوية والبحرية خلال 24 ساعة.
ورغم عناصر التشابه السابقة بين مشروع الأمير محمد سلمان المتمثل في رؤية 2030، وبين مشاريع دول آسيا، إلا أن مشروع سموّه يتميّز عن تلك المشاريع في أن دول نمور آسيا بدأت مشاريعها منذ عدة عقود مضت، وهي جميعاً في حزام الفقر والعالم الثالث، وسرعان ما انتقلت للعالم الثاني، ثم العالم الأول، دون أن تفقد هوياتها الوطنية والقومية، فيما جاء توقيت إعلان مشروع رؤية السعودية 2030، في ظروف مخالفة تماماً عن تواقيت إطلاق المشاريع الآسيوية، فالمملكة حالياً تحتلّ مكانة اقتصادية متفردة إقليمياً ودولياً، فهي عضو في مجموعة العشرين العالمية، وهي صاحبة الدور الأكبر فيما يتعلق بتعزيز استقرار أسواق الطاقة العالمية، وصاحبة أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط، تقترب قيمته لنحو 800 مليار دولار، ويحتلّ بذلك المرتبة 19 عالمياً في عام 2019.
كما أن المملكة تمتلك صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي)، الذي يسعى حالياً ليصبح واحداً من أهم صناديق الثروة السيادية في العالم وأكثرها تأثيراً، وأن يصبح محركاً فاعلاً في الاقتصاد العالمي، والشريك المفضّل في فرص الاستثمار العالمية.
تتعرّض المملكة اليوم، لحملات معادية وحاقدة تشنها جهات مشبوهة إقليمية ودولية، ضمن استراتيجية ممنهجة، بغرض النيل من أمنها واستقرارها، والوقوف حجر عثرة أمام تنفيذ خططها للتقدّم والازدهار
وقد كشف الأمير محمد بن سلمان أن الصندوق السيادي السعودي سيسيطر على 10% من القدرة الاستثمارية في العالم، وأنه سيتمّ تحويل أراضٍ للدولة إلى صندوق الاستثمارات، لتطويرها وحلّ المشاكل في المدن، وهو ما يعطي مميزاتٍ نوعيةً للتجربة السعودية الحالية، ويوفر للملكة فرصاً للاستثمار والتمويل لم تكن متاحة لدول آسيا في بداية مشاريعها التنموية، ويعزّز في نفس الوقت قدرات المملكة في تحقيق طموحاتها الكبرى في النهضة الشاملة والتقدم الحضاري المستدام، في ظلّ قيادة إصلاحية، وإرادة تستجيب للتحدي وتحقق الإنجازات العظمى.
وأخيراً يبقى هناك قاسم مشترك وهامّ بين مشروع الأمير محمد بن سلمان ومشاريع دول آسيا، وهو أن الغرب حاول جاهداً وعبر أساليبَ علنيةٍ وسرية، إيقافَ مشروعات زعماء دول آسيا السابق ذكرهم، حتى يظل مستأثراً وحدَه بمفاتيح التقدّم وعناصر النهضة دون غيره من دول العالم، ومن هذه الأساليب انتقاده المتواصل لكلّ هؤلاء الزعماء، وشنّ حملات ضخمة لتشويه إنجازاتهم، بزعم رفضهم للديمقراطية، وتقييدهم للحريات المدنية. وها هو التاريخ يعيد أحداثه مع السعودية من جديد.. فتحت نفس الزعم، تتعرض المملكة اليوم إلى حملات معادية وحاقدة، تشنّها جهاتٌ مشبوهة إقليمية ودولية، ضمن استراتيجية ممنهجة، بغرض النيل من أمنها واستقرارها، والوقوف حجر عثرة أمام تنفيذ خططها للتقدّم والازدهار.
ستتحطم محاولات أعداء المملكة على صخرة التفاف الشعب السعودي حول قيادته، وإيمانه بأن ولي العهد زعيم إصلاحي يرسخ لنظام شامل عبر رؤية استراتيجية واقتصادية واجتماعية ودينية لتحقيق نهضة جديدة
لكن.. وكما فشلت كل محاولات الغرب في إيقاف عجلة النهضة والتقدّم لمشاريع زعامات دول آسيا الكبار، ستتحطّم أيضاً محاولاته العدائية ضدّ المملكة العربية السعودية، وكلّ القوى والمنظمات المسيّسة التابعة له، على صخرة التفاف الشعب السعودي حول قيادته، وإيمان هذا الشعب الراسخ بأن الأمير محمد بن سلمان، لم يكن، وهو يؤسس مشروعه التاريخي (السعودية 2030)، مجرّدَ سياسي يضع نظاماً وفق تطلعات مستقبلية آنية أو قريبة المدى في مضمار السياسة، لكنه قائدٌ وزعيم إصلاحي، يرسّخ لنظام شامل عبر رؤية استراتيجية واقتصادية واجتماعية ودينية، تعبّر عن الرغبة الملحة في ولادة نهضة جديدة، تأخذ المملكة إلى فضاءات رحيبة من التقدّم الحضاري والرفاه الإنساني.