أدت التطورات التكنولوجية المتلاحقة وتعدد أجهزة الاتصال بالإنترنت إلى كثافة محتوى الوسائط الرقمية، حيث بات الأفراد يتمتعون حاليًّا بإمكانية الوصول بسهولة إلى مستودعات ضخمة للمعلومات في الفضاء الرقمي، فضلًا عن وجود فرص كبرى للتعلم والتواصل الاجتماعي والترفيه.
وتعد فئة الشباب تحديدًا الأكثر استخدامًا للإنترنت، حيث يختلف هذا الجيل عن أي جيل سابق في علاقته بكلٍّ من تكنولوجيا ومصادر المعلومات، فهم معروفون بأسماء متعددة مثل “جيل الألفية” و”جيل الإنترنت” و”الجيلY” ويتشاركون جميعًا في الانغماس في بيئة التقنيات الرقمية، كما يوصف هذا الجيل بأنهم “مواطنون رقميون” في أرض “المهاجرين الرقميين”، في إشارة إلى الجيل الأكبر منهم سنًّا الذي لحق بالعالم الرقمي مؤخرًا.
ويلجأ الشباب إلى استخدام الوسائط الرقمية بكثافة، فمثلًا يقومون بقراءة الأخبار على الإنترنت أكثر من الصحف المطبوعة، ويستخدمون أدوات الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت لمقابلة الأصدقاء والبحث عن المعلومات.
بعبارة أخرى، غالبًا ما تكون المصادر الأساسية للمعلومات في عالم الشباب حاليًّا -إن لم تكن حصرية- رقمية، وهو ما يختلف تمامًا عن أي جيل سابق، ممَّا جعل هذا الجيل مثار اهتمام للبحث في مدى تأثره بالتعامل التكنولوجي، فضلًا عن مصداقية المعلومات التي يستقيها من الإعلام الرقمي.
الوسائط الرقمية والتغير في الهياكل الاجتماعية
وتشير مجلة “Communication Research Trends” إلى أن كل تطور في وسائل الإعلام يستتبعه تغييرات في الهياكل الاجتماعية للمجتمع، لا سيما بالنسبة لشريحة الشباب، حيث رصدت الدراسة الطرق التي تغير بها تقنيات الوسائط الرقمية سلوك الشباب تجاه الأسرة وطبيعة العلاقات مع الأقران والممارسات ذات الصلة بالتعليم، على النحو التالي:
التحولات داخل المنزل والأسرة
تشمل تأثيرات الوسائط الرقمية تحولات في البنى الاجتماعية داخل المنزل وبين أفراد الأسرة، حيث أصبحت تقنيات الوسائط عاملًا رئيسيًّا في حدوث التباعد، فالمنازل صارت بيئات غنية بالوسائط، مما ساعد على إضفاء قدر أكبر من الاستقلالية للشباب وانعزالهم في غرفهم مع وسائل الاتصال.
التحولات في الممارسات الاجتماعية
غالبًا ما يرغب الشباب في مساحة يمكنهم التحدث فيها دون رقابة الكبار، وقد شكَّلت المنصات الاجتماعية فرصة جديدة للمحافظة على التواصل الاجتماعي بين الشباب، تشبه تمضية الوقت في المقاهي ومراكز التسوق.
وبعدما كان الشباب يلجأ إلى طلب المساعدة من الأصدقاء المقربين والعائلة عند مواجهة المشكلات، اختلف الوضع تمامًا في عصر الوسائط الرقمية، حيث يسارع الشباب إلى التوجه إلى المواقع والمنتديات التي تفسح المجال أمام طرح الأسئلة بدون الكشف عن هويتهم وتلقِّي الإجابة عنها من قِبَل المشاركين في تلك المواقع، وبذلك أتاحت نوعًا من الحرية في عرض المشكلات بعيدًا عن الخوف أو الإحراج.
التحولات في ممارسات التعلم
يتيح الوصول إلى الوسائط الرقمية عبر شاشات متعددة للشباب تطوير ممارسات التعلم غير الرسمية، فلم يعد الاعتماد ينصب فقط على الهياكل التعليمية كمصادر للمعلومات الجديدة، وأدى ذلك إلى عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين التعليم النظامي والتعليم غير الرسمي، وينبع القلق فيما يتصل بالتعليم غير الرسمي من إمكانية أن يصبح الشباب فاعلين في عملية صنع المعنى وتقديم المحتوى.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أهمية الالتفات إلى تأثير طغيان “الثقافة التشاركية-Participatory culture“، والتي يقوم خلالها المشاركون المتمرسون في بنية الوسائط الرقمية بنقل المعرفة إلى المبتدئين، وتكمن خطورة هذه العملية في أن المحتوى المتداول يكون من إنشاء المستخدم”User-generated content“.
الشباب ومصداقية الوسائط الرقمية
ووفقًا لدراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تعتبر مصداقية المعلومات التي يتم الحصول عليها عبر الوسائط الرقمية مهمة للشباب ليس فقط لأنهم باحثون نشطون عن المعلومات، ولكن أيضًا لوجود بعض الاختلافات الرئيسية بينهم وبين البالغين بشكل عام، خاصة في أهدافهم في البحث عن المعلومات.
كما أن لدى الشباب القدرة على الوصول إلى كم أكبر من المعلومات عبر الوسائط الرقمية، مما يجعل استخدام هذه الأدوات أكثر ملاءمة لهم، ويشهد على ذلك الانخفاض الكبير في التردد على المكتبات في الولايات المتحدة منذ ظهور الإنترنت وقواعد البيانات القابلة للبحث، حيث ازداد الاستخدام الافتراضي عن بُعد.
بالإضافة إلى الوصول للمعلومات للأغراض الأكاديمية، يعتمد الشباب أيضًا بشكل يومي على الوسائط الرقمية لأغراض أخرى كاستخدام مجموعة واسعة من تقنيات الوسائط الرقمية مثل مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الدردشة والألعاب التفاعلية والهواتف المحمولة والبريد الإلكتروني، والمراسلة النصية بهدف التواصل مع الأصدقاء والمعارف أو التسلية والترفيه.. وغيرها.
ولا يدرك الشباب حجم المخاطر الناجمة عن الكشف عن المعلومات الشخصية أثناء استخدام هذه التطبيقات، لأنهم قد يعتقدون أن لديهم مخاطر مالية وهوية أقل من البالغين، كما أن الافتقار النسبي لتجربة الحياة مقارنة بالبالغين قد يعرضهم أيضًا إلى خطر أكبر، إضافة إلى ذلك قد لا يتمتع الشباب بنفس المستوى من الخبرة أو المعرفة بمؤسسات الإعلام، ممَّا يصعِّب عليهم فهم الاختلافات في معايير التحرير عبر مختلف القنوات ووسائل الاتصال مقارنة بالبالغين.
التحديات المتصلة بالاعتماد على الوسائط الرقمية
من جهة أخرى، يوضح مركز دراسة الاتصال والثقافة في الولايات المتحدة، أن اعتماد الشباب على الوسائط الرقمية يثير العديد من التحديات، من أبرزها ضرورة البحث في كيفية معالجة العلاقة بين الهوية والإعلام الرقمي وتأثير ذلك على الشباب، مع الأخذ في الاعتبار أن بناء الهوية في المجتمع المعاصر يتم إلى حد كبير من خلال ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام الرقمية.
ويزداد الوضع تعقيدًا بالنظر إلى التغير الذي يطرأ على طبيعة مستهلك وسائل الإعلام الرقمية، فالمستهلكون أصبحوا أيضًا منتجين نشطين عبر وسائل الإعلام الجديدة، ويقومون بنشر المحتوى عبر شبكات عالمية، ولذلك يمكن القول بأن التقنيات الرقمية تتحدى المفاهيم التقليدية للمصداقية باعتبارها تأتي من سلطة مركزية، لكن في العصر الرقمي أضحى تقييم المصداقية يجرى من خلال الجهود الجماعية، وهو ما تجسده في البنية الرقمية أمثلة متعددة من بينها شبكة ويكيبيديا (تسمح لأي مستخدم بتعديل المحتوى بصرف النظر عن مدى معرفته وعلمه)، مما يضع “المصداقية الجماعية” في مواجهة “المصداقية المستمدة من المؤسسات”.
كما توجد ثمة مخاطر متأصلة في استخدام الوسائط الرقمية، حيث يكون الشباب عرضة للدعاية التي يبثها المتطرفون لاستقطابهم. فضلًا عن أن المعلومات عبر الإنترنت لا تكون دقيقة دائمًا ويمكن أن يساء فهم الرسائل أو يكون لها عواقب غير متوقعة.
وفي هذا الإطار، رصد فريق الخبراء المعني بالمخاطر والفرص والآثار المترتبة على الرقمنة بالنسبة للشباب، الذي تم تشكيله في إطار جهود خطة عمل الاتحاد الأوروبي للشباب، مجموعة أخرى من التحديات تمثلت فيما يلي:
محو الأمية الرقمية: حيث يلعب دورًا مهمًّا كجزء من المواطنة والحياة الحديثة بشكل عام، لذلك يحتاج جميع شباب اليوم إلى مهارات تكنولوجية في عملهم المستقبلي وحياتهم اليومية، وينبغي أن يكون عمل الشباب قادرًا على تشجيع ذلك.
المواطنة الرقمية: يشير هذا المصطلح بشكل خاطئ إلى أن الشباب يعرفون بشكل بديهي كيفية استخدام التقنيات الرقمية، لكن الأدلة تظهر أن نسبة كبيرة من الشباب في أوروبا يفتقرون إلى مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأساسية.
الفجوة الرقمية: فالشباب الذين يعيشون في بيئات محرومة (غياب القدرات المادية والتكنولوجية) بعدد من الدول في الاتحاد الأوروبي يواجهون مشكلات في الوصول إلى الإنترنت واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
الافتقار للمهارات الرقمية: هناك الكثير من ممارسي العمل الشبابي الذين يفتقرون إلى المهارات الرقمية للاستفادة الكاملة من الفرص التي توفرها التقنيات الرقمية لتقديم عمل شبابي جيد.
التركيز على نمط محدود من الوسائط الرقمية: إذ يرى العديد من الشباب أن الوسائط الرقمية هي فقط مواقع التواصل الاجتماعي، ولا بد من تغيير هذا الفهم وتوسيعه ليشمل كل إمكانات الوسائط الرقمية الأخرى.
الوسائط الرقمية والتنمية الإيجابية للشباب
وتشير دراسة لجامعة ولاية سان خوسيه (جامعة أمريكية مقرها في كاليفورنيا) إلى أنه غالبًا ما تركز الأبحاث حول الآثار الاجتماعية لاستخدام الشباب للتكنولوجيا على تحديد المخاطر ومنعها، في حين أن “المراهقة والشباب” تعد مرحلة تتوسع فيها القدرات بسرعة وتزداد فيها توقعات الاستقلالية واستكشاف الهوية.
واقترح الباحثون أن أشكالًا معينة من استخدام الإنترنت مثل البحث عن المعلومات واستخدام مواقع الشبكات الاجتماعية وإنتاج الوسائط والانخراط في المجتمعات عبر الإنترنت، وغيرها من الأدوات الرقمية تلعب دورًا مهمًّا في جهود تمكين الشباب، ويوصي هؤلاء الباحثون بما يلي:
إعطاء أولوية أكبر لتنسيق فرص الاستكشاف والتعبير والتمكين من خلال الوسائط الرقمية مع جهود الوقاية من المخاطر، إذ تبرز الحاجة إلى تعلم كيفية إدارة المخاطر الملازمة للحياة عبر الإنترنت بدلًا من تجنُّبها.
تغيير التركيز من الحد من وقت الشاشات إلى جودة الأنشطة التي يشارك بها الشباب في الفضاء الرقمي.
محو الأمية الإعلامية، الذي يركز على كلٍّ من التحليل النقدي وفرص الإنتاج.
إشراك الشباب أنفسهم في الجهود المبذولة لوضع السياسات والممارسات المتعلقة بالإعلام الرقمي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن استخدام الوسائط الرقمية يشكل سلاحًا ذا حدين بالنسبة للشباب، في ظل ما تسمح به من فصل للمصداقية عن الأُطُر المرجعية التقليدية بطريقة لم تكن ممكنة من قبل، وفي الوقت نفسه يوفر فرصًا هائلة للتعلم وتحصيل المعلومات.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن التغلب على تلك الإشكالية يمكن أن يتم من خلال فرض “تدابير حمائية” تتضمن الرقابة والوصول المقيد إلى المعلومات عبر الإنترنت، إلا أن التطورات التكنولوجية المتلاحقة تجعل من تلك الحلول مجرد مسكنات، لذا يبقى الخيار الأكثر ملاءمة هو العمل على توفير المعلومة الموثوقة في ذلك الفضاء الرقمي وإتاحتها بصيغة يسهل على الشباب التقاطها عبر ممارساتهم اليومية على تلك الوسائط، مع التركيز على محو الأمية التكنولوجية، وإشراك الشباب في الجهود المبذولة لوضع السياسات والممارسات الإعلامية الرقمية.