تقارير

الحمض النووي الصناعى وتخزين البيانات

تبذل العديد من شركات التكنولوجية جهود متواصلة خلال الأعوام الأخيرة من أجل الاستفادة من الحمض النووى الصناعي في تخزين المعلومات والبيانات، نظراً للأزمة الراهنة التى يواجهها العالم مع الارتفاع الهائل في كمية البيانات المتاحة، إذ باتت طرق التخزين التقليدية تواجه تحديات هائلة، حيث تتوقع مؤسسة البيانات الدولية أن ينمو الطلب العالمي على تخزينها إلى 175 زيتاباييت (أكبر وحدة تخزين بيانات) بحلول عام 2025.

ونظرا لأن الكثافة القصوى لوسائط التخزين الحالية تبلغ 103 جيجابايت، فإن قدرات التخزين باستخدام الحمض النووي الصناعي ستتجاوز  ذلك بكثير. وفي الوقت نفسه، فإن تكاليف الحفاظ على البيانات ونقلها، فضلاً عن العمر الافتراضي المحدود وخسائر البيانات الكبيرة، يعزز أيضًا من ضرورة اللجوء إلى حلول جديدة لتخزين المعلومات غير المتاحة حالياً.

كل هذه التحديات دفعت العلماء إلي التفكير في استخدام الحمض النووي الصناعي وهو عبارة من سلاسل طويلة من نيوكليوتيدات الأدينوزين (A)والثيامين (T) والسيتوزين (C) والغوانين (G)، وهو مادة تخزين المعلومات في حياتنا، إذ يمكن تخزين البيانات في تسلسل هذه الحروف، مما يجعل من الحمض النووي شكلًا جديدًا من تكنولوجيا المعلومات.

ويوجد الحمض النووي على هيئة تسلسل (يُقرأ)، ويجري تخليقه (يُكتب)، كما أن عملية نسخه بدقة هي عملية سهلة، ويتصف بكونه ثابتا بشكل مذهل، ولا تتطلب عملية التخزين من خلاله كثيرًا من الطاقة.

وتعد سعة التخزين أحد أهم مميزات الحمض النووي حيث يمكن أن يخزّن بدقة كميات هائلة من البيانات بكثافة تتجاوز الأجهزة الإلكترونية بكثير.

الحمض النووي الصناعى وسيط أكثر متانة لتخزين البيانات

ووفقا لمجلة “Scientific American” العلمية، ظهرت التحديات التي تواجه عملية التخزين الآمن لجميع البيانات بوضوح عندما أعلنت شبكة “ماي سبيس – Myspace“، التي كانت في وقت من الأوقات أكثر شبكات التواصل الاجتماعي انتشارًا، أن بيانات تعادل ما تم جمعه على مدار عقد من الزمن ربما تكون قد فُقدت إلى الأبد في أحد مشروعات ترحيل الخوادم.

ومن هنا ازدهرت فكرة إعادة توظيف الحمض النووي وتهيئته لتخزين المعلومات، لاسيما وأن الحمض النووي الصناعي يتمتع بالعديد من الخصائص التي تجعله اختيارا مثاليا لتخزين المعلومات وليس فقط الشفرة الجينية.

ومع التحسن الذي طرأ على أساليب التسلسل، يستخدم الباحثون حاليًّا -في مجالات مثل الهندسة الكيميائية- الحمض النووي كمسجل جزيئي يتيح لهم توليد البيانات بسرعات غير مسبوقة. وبهذه الطريقة، يُستخدَم الحمض النووي حاليًّا في كل من “قراءة” المعلومات و”كتابتها”، وهذا التقدم يمكن أن تترتب عليه آثار كبيرة في تسريع عملية تطوير الأدوية وعلاج الأمراض.

كما اكتسب الحمض النووي الصناعى اهتمامًا كبيرًا كوسيط لتخزين المعلومات الرقمية لأن كثافته ومتانته تفوق تلك الموجودة في وسائط التخزين القائمة على السيليكون، فعلى سبيل المثال الحمض النووي أكثر كثافة بمقدار ألف مرة على الأقل من محرك الأقراص الصلبة الأكثر إحكاما، وأكثر متانة بمقدار 300 ضعف على الأقل من الأشرطة المغناطيسية الأكثر استقرارًا.

بالإضافة إلى ذلك، توفر شفرة “النوكليوتيدات- nucleotide” المكونة من أربعة أحرف للحمض النووي بيئة تشفير مناسبة يمكن الاستفادة منها مثل الشفرة الرقمية الثنائية التي تستخدمها أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية الأخرى لتمثيل أي حرف أو رقم أو أي شخصية أخرى.

وعلى الرغم من هذه المزايا، فإن الحمض النووي لم يصبح بعد وسيلة تخزين معلومات واسعة الانتشار لأن تكلفة الحمض النووي الصناعى لا تزال مرتفعة بشكل باهظ عند 3500 دولار لكل 1 ميجا بايت من المعلومات.

وللمساعدة في التغلب على هذا القيد، بحث معهد “ويس Wyss” للهندسة البيولوجية المستوحاة أساليب جديدة قائمة على “الإنزيم” يمكنها كتابة الحمض النووي بشكل أبسط وأسرع من التقنيات الكيميائية التقليدية.

وتبدأ عملية تخزين البيانات على الحمض النووي أولاً بتحويل البيانات الرقمية إلى تسلسل الحمض النووي، ثم يتم بعد ذلك ترميز هذا التسلسل في أجزاء من الحمض النووى يبلغ طولها 200 إلى 300 قاعدة باستخدام خوارزميات تصحيح الأخطاء، ويضمن هذا النظام استعادة للبيانات خالية من الأخطاء.

وتتوقع شركة  “جارتنر-Gartner” لأبحاث السوق أن 30% من الشركات الرقمية ستتجه لتجارب تخزين الحمض النووي بحلول عام 2024، لمعالجة النمو الهائل للبيانات الذي لن يلائم تكنولوجيا التخزين الحالية.

ومع تطور احتياجات الحوسبة البشرية، ستكون هناك حاجة إلى أنظمة أكثر تقدمًا، قادرة على التكيف الجذري والمرونة في البيئات المعقدة، والحمض النووي مرن بطبيعته وقادر على فحص الأخطاء والإصلاح الذاتي، مما يجعله مكانًا مثاليًا لتخزين البيانات ومنصة الحوسبة لمجموعة من التطبيقات.

وشهدت السنوات القليلة الماضية تجارب لتخزين البيانات عبر الحمض النووى الصناعى، ففي عام 2016، عقدت شركة “ Twist Bioscience ” المختصة في مجال علم الأحياء وصناعة الحمض النووي الصناعي اتفاقية يتم بموجبها بيع 10 آلاف خيط حمض نووي صناعي إلى شركة مايكروسوفت تسعى من خلالها إلى اختبار إمكانية استخدام المواد الوراثية في تخزين البيانات.

وتشير “Twist Bioscience” إلى أن 1 جرام من الحمض النووي قادر على تخزين 1 زيتا بايت أي ما يعادل مليار تيرا بايت من البيانات.

كما توجد مبادرات أخرى تستكشف أنظمة تخزين الحمض النووي مثل “Catalog” و”OligoArchive“.

تطور تكنولوجيا تركيب وتجميع الحمض النووي

ووفقا لمجلة “National Science Review” التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم، شهدت العقود القليلة الماضية تطورًا سريعًا في تقنيات تجميع وتوليف الحمض النووي، والذي وضع الأساس لتقدم مجالات وتقنيات جديدة بما في ذلك تخزين معلومات الحمض النووي.

اعتمد الجيل الأول من تقنيات تخليق الحمض النووي على كيمياء الفوسفوراميد في المرحلة الصلبة، وتعد الميزة الرئيسية لهذه الطريقة هي دقتها العالية وإن كانت بتكلفة عالية وإنتاجية منخفضة. وعلاوة على ذلك، للنظر في سلامة التسلسل وكفاءة التوليف، فإن طول المنتج يقتصر على 150 إلى 200 نقطة أساس.

الجيل الثاني يتمثل في تخليق الحمض النووي القائم على المصفوفة وهي تقنية لتخليق الحمض النووي باستخدام سلسلة من التقنيات الكهروكيميائية على شرائح ميكروأري (أداة مختبرية تستخدم للكشف عن تعبير الآلاف من الجينات في نفس الوقت).  

وفي كل دورة ترتبط النيوكليوتيدات بخيوط الحمض النووي في مواقع محددة من الرقاقة، وقد أدى تخليق الحمض النووي المستند إلى المصفوفة إلى تحسين سرعة وكفاءة وفعالية تكلفة تخليق الحمض النووي بشكل كبير، حيث يزيد معدل النقل المتوازي الذي تم تحقيقه على منصات الجيل الثاني الحديثة من السرعة الإجمالية للتوليف إلى بضعة كيلوجرامات في الثانية.

تعتمد تقنيات تخليق الحمض النووي من الجيل الثالث على “التوليف الأنزيمي”، وعلى الرغم من أنها لا تزال في مهدها، فمن المتوقع أن تقلل بشكل كبير من وقت وتكلفة تخليق الحمض النووي، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن المدة الزمنية 40 ثانية لكل دورة، وهو أسرع بست مرات من تخليق الفوسفوراميديت.

الأفاق والتحديات التى تواجه تخزين البيانات في الحمض النووى الصناعى

وعلى الرغم من أن تخزين معلومات الحمض النووي له إمكانات تطبيق هائلة، إلا أن العديد من المشكلات تحتاج إلى المعالجة قبل تنفيذها على نطاق أوسع، وتتمثل في مايلي:

لا تزال تكلفة كتابة وقراءة المعلومات باهظة للغاية، كما أن كفاءة تخزين البيانات منخفضة للغاية. ومع ذلك فقد تم تخفيض تكاليف تخليق الحمض النووي وتسلسله بمقدار 10 ملايين ضعف خلال الثلاثين عامًا الماضية، وسيستمر الاتجاه في الانخفاض تلبية لاحتياجات التخزين العملي للحمض النووي في المستقبل المنظور.

الوصول العشوائي هو وظيفة أخرى ضرورية لأغراض تخزين المعلومات، وبالنسبة لتخزين الحمض النووي طويل السلسلة، فإن تفاعل “البوليميراز المتسلسل- PCR” مع “البادئات- primers” المناسبة في بداية ونهاية المعلومات المرغوبة سيكون كافياً.

وفي المقابل بالنسبة لأنظمة تخزين “oligo DNA“، تحتاج المكتبة بأكملها إلى التسلسل والتجميع قبل الحصول على المعلومات المجزأة.

لايزال يتعين تطوير تقنيات محو وإعادة كتابة المعلومات في الحمض النووي، حيث تدعم طرق تخزين الحمض النووي الحالية التخزين لمرة واحدة فقط، وبالتالي فهي مناسبة للمعلومات التي لا تحتاج إلى تعديل، مثل الوثائق الحكومية والمحفوظات التاريخية. ومع ذلك فقد أظهر التطور المستمر للبيولوجيا التركيبية إمكانية حل هذه المشكلة.

وتأسيسا على ماسبق، يمكن القول أن تقنية التخزين عبر الحمض النووى الصناعي باتت متطلب أساسي لمواكبة الكم الهائل من البيانات، لكن لابد من العمل على زيادة سرعة قراءة وكتابة الحمض النووي وتخفيض التكاليف من أجل أن يتمكن هذا النهج من منافسة الأساليب التقليدية للتخزين الإلكتروني، وهو ما يتطلب تضافر الجهود البحثية وتعزيز التعاون بين المؤسسات الأكاديمية حول العالم في هذا المجال الواعد، وهو ما تمثل مؤخرا في تدشين شركات التكنولوجيا العملاقة لتجمع DNA Data Storage Alliance.

زر الذهاب إلى الأعلى