قراءات

فيروس كورونا وتَراشُق الدول بخطابات المؤامرة

  شكَّل فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” عاصفة مثالية لمنظِّري ومروِّجي نظريات المؤامرة، نظرًا لما خلَّفه الوباء العالمي من تداعيات اقتصادية كارثية وعزلة اجتماعية وسياسات حكومية تقييدية لحركة الأفراد، وقد أدت تلك الأبعاد مجتمعةً إلى إثارة مشاعر القلق الشديد والعجز والتوتر، التي شجعت البعض على تبنِّي خطابات المؤامرة.

وعلى مدى الأشهر الماضية انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي العديد من نظريات المؤامرة حول أصل المرض، من أبرزها أن الفيروس جزء من برنامج صيني سري للأسلحة البيولوجية، وأن فريق تجسس نشر الفيروس في مدينة ووهان، بؤرة ظهور الوباء العالمي.

كما راجت نظريات مؤامرة بأن الفيروس تم نشره عن قصد من مليارديرات أمريكيين مثل جورج سوروس وبيل جيتس، أو أن الأخير يعمل مع منظمة الصحة العالمية على مؤامرة للسيطرة على العالم وحكمه من خلال اللقاحات. وكان من اللافت أيضًا انتشار خطابات المؤامرة عبر تصريحات مسؤولين رسميين بُغية تحقيق أهداف سياسية، سواء على الصعيدين الداخلي أو الخارجي.

الوباء بيئة صالحة لنشر خطاب المؤامرة.. والنزوع إلى العنف أبرز انعكاساته

وتشير الموسوعة البريطانية إلى أن نظريات المؤامرة تزداد انتشارًا في فترات القلق أو عدم اليقين، كما هو الحال أثناء الحروب والكساد الاقتصادي وفي أعقاب الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والأوبئة.

وقد يكون صمود نظريات المؤامرة مدعومًا بالتحيزات النفسية وعدم الثقة بالمصادر الرسمية.

وبحسب دراسة لجامعة شيكاغو للقانون، فإن مؤيدي نظريات المؤامرة قد يخلقون مخاطر جسيمة، بما في ذلك اللجوء إلى العنف، كما أن وجود مثل هذه النظريات يثير تحديات كبيرة للسياسة والقانون. ويتمثل التحدي الأول في فهم الآليات التي تزدهر بها نظريات المؤامرة، أمَّا التحدي الثاني فيتعلق بفهم كيف يمكن تقويض مثل هذه النظريات. وتنتشر مثل هذه النظريات عادة كنتيجة لأخطاء معرفية يمكن التعرف إليها، وتعمل جنبًا إلى جنب مع التأثيرات المعلوماتية.

ويقول الدكتور دانيال جولي، وهو محاضر أول في علم النفس في جامعة نورثمبريا البريطانية، إن ظهور نظريات المؤامرة يُعد أمرًا منطقيًّا في بعض الأحيان، فعدم اليقين بالإضافة إلى الخوف، يخلقان الظروف المثالية لانتشارها، مشيرًا إلى أنه يمكن لأي شخص أن يكون عرضة لنظريات المؤامرة، لأنها تقدم أحيانًا روايات منطقية ومقنعة -وهي روايات غالبًا ما يكون قبولها أسهل من الوقائع الفوضوية والصعبة وغير المفهومة بالكامل.

ويرى ويليام كاريش -هو نائب الرئيس التنفيذي للصحة والسياسات في منظمة EcoHealth Alliance غير الربحية- أن العديد من الدراسات أثبتت أن نظريات المؤامرة تؤثر في الفرد والمجتمع بشكل عام، فغالبًا ما لا يتبع الأشخاص الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة النصائح الموصَى بها لأن مثل هذه التوصيات تأتي غالبًا من الحكومة، وقد يعني هذا أن الأفراد يتجنَّبون استخدام اللقاحات، ممَّا قد يكون له عواقب صحية حقيقية.

ويشير كاريش إلى أن الأبحاث أظهرت أيضًا أن الأشخاص الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة هم أيضًا أكثر قبولًا للعنف تجاه أولئك الذين يرون أنهم متآمرون. كما أنها قد تهم أيضًا مجموعات من الناس مثل المهاجرين، والتي قد تصبح إشكالية إذا اختار منظِّرو المؤامرة إلحاق الأذى بطريقة عدائية وعنيفة ضد هذه المجموعة بناءً على هذه المعلومات غير الدقيقة.

وفي هذا الإطار، تشير منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية إلى ارتفاع الاعتداءات والتمييز ضد الآسيويين في الولايات المتحدة نتيجة لنظرية المؤامرة، حيث كشف ائتلاف من مجموعات آسيوية-أمريكية أنشأت مركزًا للإبلاغ يسمى “STOP AAPI HATE”  أنه تلقى تقريبًا 1500 تقرير عن حوادث عنصرية، وخطاب الكراهية، والتمييز، والاعتداءات الجسدية ضد الآسيويين والأمريكيين-الآسيويين. وما لا يقل عن 125 من الحوادث المُبلغ عنها كانت هجمات جسدية .1

كما أبلغت المجموعة عن مئات الحالات التي تعرض فيها الأمريكيون-الآسيويون للمضايقة في الأماكن العامة أو مُنعوا من الأعمال أو وسائل النقل، أو صُرخ فيهم في الأسواق، واتهموا “بجلب فيروس كورونا” إلى الولايات المتحدة، أو حُرموا من خدمات سيارات النقل مثل “أوبر”.

وفي الهند، مع انتشار فيروس كورونا، ازداد خطاب الكراهية ضد المسلمين، الذي يمثل بالفعل مشكلة خطيرة ومتنامية منذ انتخاب “حزب بهاراتيا جاناتا” القومي الهندوسي في 2015.

ففي أبريل، انهالت النداءات على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات “واتس آب” لمقاطعة المسلمين اقتصاديًّا واجتماعيًّا، بما في ذلك من قِبَل أنصار حزب بهاراتيا جاناتا. كما وقعت عدة اعتداءات جسدية على المسلمين، بما فيها على متطوِّعين يوزِّعون مواد الإغاثة، وسط ادعاءات تتهمهم بنشر الفيروس عمدًا.

ارتباط خطاب المؤامرة بتفشِّي الوباء والرغبة في تحقيق أهداف سياسية

وفي ظل وباء كورونا المستجد “كوفيد-19” لجأت العديد من الدول إلى استخدام خطاب المؤامرة  في تفاعلها مع تلك الأزمة، حيث استخدمته الولايات المتحدة تجاه الصين، وفي رد فعلها لجأت بكين إلى استخدام خطاب مؤامرة مضاد تجاه واشنطن، كما استخدمته إيران ضد الولايات المتحدة.

واللافت أن توجُّه بعض الدول لاستخدام خطاب المؤامرة كان مقترنًا بتفشِّي الوباء على أراضيها وصعوبة احتوائها للأزمة والرغبة في توظيفه لأغراض سياسية، وذلك على العكس من الدول التي تمكنت من إدارة تلك الأزمة الصحية بمنهجية علمية، ومن بينها المملكة العربية السعودية وألمانيا ونيوزلندا، إذ جاء التعامل مع تلك الجائحة العالمية بأعلى قدر من الاحترافية دون اللجوء إلى تصدير خطابات المؤامرة، بل على العكس جاء التركيز على أهمية التضامن الدولي في مواجهة الفيروس.

وقد استخدمت الولايات المتحدة خطاب المؤامرة في التعامل مع الجائحة، سواء على الصعيدين الخارجي أو الداخلي، ومن مؤشرات ذلك:

الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، حيث اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بأنها ربما تكون قد شجعت على الانتشار الدولي لفيروس كورونا في محاولة لزعزعة استقرار الاقتصادات المنافسة لها، وذلك خلال مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية.

كما ألمح ترامب، الذي اعتاد، توصيف كورونا بـ”الفيروس الصيني” في أواخر أبريل الماضي إلى أنه قد يسعى للحصول على تعويضات من بكين على خلفية الوباء.

وأكد مستشاره الاقتصادي بيتر نافارو، الأكاديمي السابق والمعروف بانتقاده للصين، أن الأخيرة ألحقت أضرارًا بلغت قيمتها تريليونات الدولارات على الولايات المتحدة، ويجب أن يكون هناك شكل من أشكال التعويضات عن هذه الأضرار، وفقًا لشبكة “فوكس نيوز” الأمريكية.

سباق أبحاث اللقاحات: إذ أعلنت السلطات الأمريكية أن قراصنة تدعمهم الصين يحاولون سرقة أبحاث وملكيات فكرية على صلة بعلاجات ولقاحات لفيروس كورونا، حيث اعتبر مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن الإلكتروني وأمن البِنَي التحتية  في بيان أن ما تبذله الصين لاستهداف هذه القطاعات يشكل تهديدًا كبيرًا لجهود واشنطن للتصدِّي لكورونا.

ماراثون الانتخابات الرئاسية الأمريكية: ويتمثل في تحذير الرئيس ترامب للجمهوريين من أن الديمقراطيين قد “يسرقون” الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 3 نوفمبر المقبل من خلال استغلال أزمة كورونا، حيث اعتبر ترامب أن التصويت عبر البريد قد يؤدي إلى تزوير الأصوات.

كما  تبادل الرئيس ترامب والمرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن، تعليقات مسيئة بسبب موقف كل منهما من لقاح كورونا، فبينما يشير ترامب إلى احتمال إتاحة لقاح قبل موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر، عبَّر بايدن عن تشكُّكه في أن “ترامب” يستمع لرأي العلماء ويطبق نهجًا يتسم بالشفافية بشأن اللقاح.

الصين ترد على واشنطن بخطاب مؤامرة مضاد

قوبل خطاب المؤامرة من جانب أمريكا تجاه الصين، بخطاب مضاد تمثَّل في تغريدة نشرها تشاو ليجيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، على حسابه بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” قال فيها إن “الجيش الأمريكي ربما جلب الفيروس إلى ووهان”.

وأعقب ليجيان تلك التغريدة بأخرى تضمنت تقريرًا من موقع جلوبال ريسيرش بعنوان “دليل آخر على أن الفيروس نشأ في الولايات المتحدة”، داعيًا متابعيه لقراءة التقرير وتداوله، لكنه حذفه لاحقًا.

واستند التقرير إلى ترجيح علماء يابانيين وتايوانيين بأن الفيروس نشأ في الولايات المتحدة، علمًا بأن هذا الموقع سبق أن روَّج لنظريات المؤامرة حول موضوعات مثل هجمات 11 سبتمبر، واللقاحات، والتغيُّر المناخي، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”.

وكتب التقرير “لاري رومانوف” مستندًا إلى ترجيحات علماء يابانيين بأن الفيروس لم ينشأ في الصين، بل نشأ في الولايات المتحدة.

وبعد نحو 9 أشهر من ظهور الوباء الذي أودى حتى الآن بحياة أكثر من 922 ألف شخص، وأصاب نحو 29 مليونًا آخرين حول العالم، أطلت نظرية المؤامرة من جديد عبر عالمة الفيروسات الصينية الدكتورة “لي مينج يان” التي خرجت في تصريحات مثيرة من مخبئها في الولايات المتحدة لتقول إنها تملك أدلة على أن الفيروس من صُنع الإنسان.

وخلال مقابلة تليفزيونية لشبكة “أي تي في” البريطانية، ذكرت مينج أن “بكين” كانت على علم بفيروس كورونا قبل أن تبدأ التقارير في الظهور، ووصفت التقارير التي تحدثت عن أن فيروس كورونا نشأ في سوق ووهان للحيوانات بأنها مجرد سحابة دخان، مؤكدة أنها تملك أدلة على أن الفيروس من صُنع الإنسان وستقوم بنشر هذه الأدلة، وفقًا لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية.

وأسهبت مينج في تقديم رواية لنشأة الفيروس، مفادها أنه نشأ في مختبر الفيروسات في مدينة ووهان، وأن الحكومة الصينية هي التي صنعته، لافتة إلى أن تسلسل الجينوم يشبه بصمة الإنسان، وبناءً عليه تتبعه، لافتة إلى أنها ستستخدم هذا الدليل لكي يعلم الجميع  لماذا تم تصنيعه.

وأوضحت مينج أنها هربت من هونج كونج خوفًا على حياتها، فقد كانت واحدة من أوائل العلماء الذين درسوا الفيروس في نهاية ديسمبر 2019، مشيرة إلى أن الحكومة الصينية “حذفت جميع معلوماتها” من قواعد البيانات الحكومية، وطلبت من زملائها نشر شائعات عنها.

وكان يوان زيمينج، مدير معهد علم الفيروسات في ووهان، بؤرة الوباء العالمي في وسط الصين، قد نفى مرارًا أن يكون الفيروس صادرًا عن المختَبَر، لافتًا إلى أن معظم العلماء يعتقدون أن الفيروس انتقل على الأرجح من الحيوان إلى الإنسان، حيث وُجِّهت أصابع الاتهام في هذا الصدد إلى سوق في المدينة لبيع الحيوانات البرية الحية بهدف استهلاكها.

النظام الإيراني يعلِّق فشله في إدارة أزمة الوباء على شماعة مؤامرة أمريكية مزعومة

اعتمد قادة إيران على تغذية نظرية المؤامرة حول “كوفيد-19” وتوظيف الأزمة سياسيًّا عبر خطاب يتهم الولايات المتحدة بالوقوف وراء الفيروس، وذلك كغطاء على فشل نظام الملالي في إدارة الأزمة، حيث تعمَّد إخفاء حقيقة انتشار الوباء رغبةً منه في الانتهاء من الانتخابات البرلمانية في فبراير، وعدم التأثير في مشاركة الناخبين، إذ كان لدى الحكومة مخاوف من انخفاض نسبة الإقبال عليها بعد قمْع الاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود في نوفمبر الماضي.

ومن مظاهر ترويج القيادة الإيرانية لنظرية المؤامرة:

تصريح المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، في كلمة له بمناسبة العام الإيراني الجديد في 22 مارس الماضي، بأن هناك شكوكًا أن أمريكا هي التي أوجدت هذا الفيروس، متحدثًا عن أن الولايات المتحدة أنتجت فيروسات خاصة بالجينات الإيرانية، دون أن يقدم أي دليل على تلك الاتهامات.

ترجيح قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، في تصريحات صحفية أن يكون فيروس كورونا ناجمًا عن هجوم بيولوجي أمريكي، استهدف الصين أولًا ثم إيران، معتبرًا أن “طهران” تخوض حربًا بيولوجية، على حد وصفه.

وفي رد فعل قوى على تلك الاتهامات، اعتبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أن تحميل خامنئي واشنطن مسؤولية فيروس كورونا المستجد “تلفيق” يضع الأمريكيين والإيرانيين وبقية العالم في خطر، لافتًا في تغريدة عبر حسابه على موقع تويتر، إلى أن السلطات الإيرانية تجاهلت التحذيرات المتكررة من مسؤوليها الرسميين بقطاع الصحة وأنكرت الوفاة الأولى من فيروس كورونا لمدة 9 أيام على الأقل.

وتعد التصريحات الإيرانية التي تبنَّت خطاب المؤامرة خاصة ضد الولايات المتحدة، أمرًا اعتاد عليه نظام الملالي خلال السنوات الماضية، وهو ما تم اللجوء إليه بشكل واضح في أزمة كورونا بعدما تفشِّي الوباء في إيران وأصبحت بؤرة لانتشاره في الشرق الأوسط.

ونخلص ممَّا سبق إلى أن وباء كورونا أوجد حالة من التراشق بين الدول بخطابات المؤامرة حول منشأ الفيروس، ما بين اتهامات أمريكية للصين بتخليق الفيروس في مختبر بمدينة ووهان، واتهامات صينية للجيش الأمريكي باستخدام الفيروس كسلاح بيولوجي، بينما جاءت مساهمة إيران حول نظريات المؤامرة بشأن الفيروس بادعاء متفرِّد بأن الفيروس صناعة أمريكية وصُمم للجينات الإيرانية خاصةً! فكل طرف توخَّى من تلك الخطابات تحقيق مجموعة من الأهداف، وكان القاسم المشترك فيها احتواء حالة الغضب من سوء إدارة الأزمة، الذي اتخذ درجات متفاوتة. 

ويمكن القول إنه إذا كانت جائحة فيروس كورونا أرضًا خصبة لخطابات ونظريات المؤامرة، فهي فرصة قيِّمة لعلماء السياسة والاجتماع لمعرفة دوافع انتشار نظريات المؤامرة، ففي حين أن استطلاعات الرأي العام مفيدة لفهم البنية الأساسية لمعتقدات المؤامرة، إلا أنها لا تستطيع محاكاة كوارث العالم الحقيقي، التي تجعل نظريات المؤامرة جذابة لبعض الأشخاص، لذلك يشكل فيروس كورونا فرصة للنظر فيما يمكن أن تخبرنا به نظريات المؤامرة التي يروَّج لها من جانب وسائل الإعلام والحكومات حول العالم، ومدى تأثر الجماهير بها وحجم التفاعل معها ودوافعه وانعكاساته على الواقع.

زر الذهاب إلى الأعلى