تقارير

عام دراسي جديد في ظل كورونا.. والمملكة تتبنَّى خيار التعلُّم عن بُعد

بعد انقطاعٍ دام نحو 7 أشهر على خلفية انتشار وباء كورونا المستجد “كوفيد-19″، عاد الملايين من تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات حول العالم إلى الفصول الدراسية وقاعات المحاضرات مجددًا، بينما استقبل ملايين آخرون عامًا دراسيًّا افتراضيًّا من خلال تفعيل آليات التعلم عن بُعد.

وتشكِّل العودة الفعلية إلى المدارس والجامعات اختبارًا صعبًا لمدى قدرة المجتمعات على استعادة الوضع الطبيعي مع تجنُّب خطر انتشار الوباء، بعدما أدى الفيروس، في ذروة انتشاره، إلى عزل 1.5 مليار طالب عن المدارس، ممَّا كان له تداعيات سلبية على التحصيل الدراسي للطلاب، لا سيما في الدول النامية التي تفتقر إلى الإمكانات التكنولوجية والبنية التحتية الملائمة للتعلُّم عن بُعد.

السعودية تطلق منصة مدرستي و23 قناة تعليمية

وفي إطار الدعم المستمر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان لقطاع التعليم، والحرص على سلامة الطلاب والمعلمين في ظل جائحة كورونا، وبالقدر ذاته الحفاظ على استمرار العملية التعليمية، حمايةً لمستقبل أبناء المملكة، جاء قرار استئناف الدراسة عن بُعد في جميع مراحل التعليم العام في أول 7 أسابيع من العام الدراسي، مع تقييم الوضع للنظر فيما يتبقى من أسابيع الفصل الدراسي الأول.

بينما تَقَرَّر أن تكون الدراسة في الجامعات ومؤسسة التدريب التقني عن بُعد للمقررات النظرية وحضوريًّا للمقررات العملية.

وتحت شعار “مدرستي في بيتي، بدأ أكثر من 6 ملايين طالب وطالبة في المملكة في 30 أغسطس الماضي، عامهم الدراسي الجديد “افتراضيًّا” عبر منصة مدرستي في أكثر من 250 ألف فصل افتراضي يوميًّا، إلى جانب 525 ألف معلم ومعلمة، ومشرفين تربويين يتفاعلون في تلك الرحلة التعليمية.

ويبدأ الطالب اليوم الدراسي بالدخول إلى المنصة، والاستماع للنشيد الوطني، وإجراء التمارين الرياضية الخفيفة، ثم استعراض الجدول الدراسي، ثم الدخول للفصل الافتراضي مع المعلم، والتفاعل معه أثناء عملية الشرح، وإعداد التكليفات والاختبارات.

وفي الوقت ذاته، هيأت وزارة التعليم بالمملكة 23 قناة تعليمية فضائية (قنوات عين) من بينها ثلاث قنوات للتربية الخاصة لبث الدروس وفق جدول دراسي، بحيث يمكن للطالب الذي لا يتوفر لديه جهاز ذكي أو خدمة إنترنت، تلقِّي دروسه من خلال تلك القنوات، كما سيتم أرشفتُها في “يوتيوب” ليتمكن الطلاب الذين تتوافر لديهم خدمة الإنترنت من الرجوع لها في أي وقت.

كما أتاحت المملكة أيضًا خيارًا ثالثًا هو الدخول مباشرة على مايكروسوفت Teams باستخدام “حساب مايكروسوفت”.

وفي الوقت الذي سلكت فيه السعودية مسار التعليم عن بُعد بفعل ظروف الجائحة، قررت دول أخرى، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية عودة الدراسة الفعلية، لكن سرعان ما رصدوا مؤشرات مقلقة بشأن انتشار الوباء، فعلى سبيل المثال أعلنت جامعة ساوث كارولينا الأمريكية عن إصابة أكثر من ألف طالب بفيروس كورونا، بينما أغلقت السلطات الفرنسية أبواب 22 مدرسة بعد ظهور إصابات بالفيروس في أوساط التلاميذ وعمال المدارس من معلمين وإداريين، كما أجبر انتشار الفيروس وزارة التعليم في كوريا الجنوبية على إغلاق أكثر من 7 آلاف مدرسة في جميع أنحاء البلاد.

المشاركة الفاعلة للأُسَر كلمة السر في نجاح التعلُّم عن بُعد

ممَّا لا شك فيه أن نجاح العملية التعليمية في ظل هذا الوضع الجديد، يتطلَّب مشاركة فاعلة من جانب الأسر وأولياء الأمور في متابعة الأبناء خلال العملية التعليمية عن بُعد، بهدف تقليص الفاقد التعليمي وتحسين نواتج العملية التعليمية.

وفي هذا السياق، يشير لودجر ويسمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة ميونخ إلى أن الآباء يدركون أن التعليم عن بُعد لم يكن بديلًا جيدًا للتعليم التقليدي.

ويوضح ويسمان أن استبيانًا تم مؤخرًا على أكثر من ألفٍ من أولياء أمور أطفال المدارس الألمانية، خلص إلى النتائج التالية:

انخفاض الوقت الذي يقضيه الطلاب في المدرسة وأداء الواجبات المنزلية إلى النصف من 7.4 ساعة إلى 3.6 ساعة فقط يوميًّا.

زيادة الوقت الذي يقضيه الطلاب في مشاهدة التليفزيون أو لعب ألعاب الكمبيوتر أو استخدام الهواتف المحمولة إلى 5.2 ساعة يوميًّا.

أكثر من ثلث الطلاب درسوا لمدة ساعتين فقط أو أقل.

الفتيات يتعاملن مع التعلُّم عن بُعد بشكلٍ أفضل من الأولاد.

على عكس الاعتقاد السائد بأن الآباء الأفضل تعليمًا كانوا أكثر قدرة على توفير بيئة تعليمية منزلية داعمة، كان الانخفاض في وقت التعلُّم حادًّا بالنسبة لأطفالهم كما هو الحال بالنسبة للآباء الأقل تعليمًا.

ويوضح ويسمان، وهو أيضًا مدير مركز “IFO” لاقتصاديات التعليم، أن إغلاق المدارس سيكون له تكاليف حقيقية على المدى الطويل، مشيرًا إلى أن الطالب العادي فَقَدَ ما يعادل ثلث عام من التعلم، متوقعًا انخفاض الدخل المستقبلي للطالب بنحو 3%، وفقًا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.

 محددات وقواعد أساسية لإعادة فتح المدارس واستقبال الطلاب

تبقى مسألة إعادة فتح المدارس والاستئناف الكامل للعملية التعليمية في صورتها التقليدية مرهونة بالتوصل إلى لقاح مضاد للفيروس يستوفي شروط الأمان والفاعلية، ولحين تحقُّق ذلك تلجأ بعض الدول إلى عودة جزئية وسط تدابير وقائية مشددة.

وترى جينيفر نوزو، العالمة المتخصصة في الأوبئة بكلية بلومبرج للصحة العامة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية أن هناك محددات يجب أن تحكم عملية استئناف الدراسة ولو جزئيًّا، من أبرزها:

مستوى انتشار الفيروس في المجتمعات التي يعيش فيها الطلاب والمعلمون والموظفون، فإذا كانت هناك أعداد كبيرة أو متزايدة من الإصابات، فقد يصاب الطلاب أو الموظفون بالعدوى، وينقلون الفيروس إلى المدارس.

وقد تضطر المجتمعات ذات المستوى العالي من انتقال العدوى إلى إغلاق أماكن تسهل انتشار العدوى، مثل المطاعم، وذلك من أجل خفض عدد الحالات بما يكفي لفتح المدارس.

أهمية بروتوكولات الأمان: حتى في المجتمعات التي يكون فيها مستوى المرض منخفضًا، لا يزال هناك احتمال أن يصاب شخصٌ ما بالفيروس دون أن يدري ويأتي إلى المدرسة. وهنا تبرز أهمية الإجراءات الاحترازية مثل ارتداء الكمامات والحفاظ على المسافة الآمنة بين الطلاب والموظفين، وتحسين التهوية، والبقاء في الهواء الطلق قدر الإمكان.

التخطيط: من المهم أن تخطط المدارس لإمكانية حدوث حالات إصابة بالفيروس وأن تكون جاهزة للاستجابة لها، ولذلك يجب أن تتضمَّن تلك الخطط معدل إصابات واضحًا، عند بلوغه يتم الإغلاق، وكذلك مدة بقاء الطلاب المصابين في العزل المنزلي.

الفقاعات الدراسية: قد يكون من المفيد جدًّا إنشاء فقاعات، هي مجموعات ثابتة من الطلاب والموظفين داخل المدرسة يتفاعلون مع بعضهم وبعض فقط، فإذا تبين أن شخصًا ما في الفقاعة مصاب، فإن عدد الأشخاص الذين يُحتمل تعرضهم للإصابة سيكون محدودًا.

وهذا النظام -الذي تم تقديمه لأول مرة على نطاق واسع عندما أعادت الدانمارك فتح مدارسها في مايو الماضي- يساعد أيضًا في جهود تعقُّب المخالطين.

الالتزام بإجراءات التباعُد الاجتماعي خارج المدارس: فما يحدث خارج الفصل الدراسي يمكن أن يقوِّض حتى أفضل خطط السلامة، إذ أظهرت الأدلة المستمدة من إعادة فتح المدارس في جميع أنحاء العالم أن التجمعات خارج المدارس هي طريق مهم لانتقال العدوى.

 التأثيرات السلبية للوباء في الطلاب والمؤسسات التعليمية

أدت أزمة جائحة كورونا إلى العديد من الأضرار التي لحقت بالطلاب والمؤسسات التعليمية حول العالم، فمن ناحية فاقمت أزمة عدم المساواة بين الطلاب في تلقِّي الخدمة التعليمية، ومن ناحية أخرى حدَّت من موارد تمويل المؤسسات التعليمية، لا سيما تلك التي تعتمد على الطلاب الوافدين من الخارج.

ويرى الدكتور أندرياس شلايشر، مدير إدارة التعليم والمهارات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن الجانب الأكثر إثارة للقلق يتمثل في كون الوباء أدى إلى تضخيم العديد من أوجه عدم المساواة في الأنظمة التعليمية بما في ذلك عدم المساواة في الوصول إلى أجهزة الكمبيوتر والإنترنت ذات النطاق العريض اللازمة للتعليم عبر الإنترنت، والافتقار الواسع إلى البيئات المنزلية الداعمة للتعلُّم.

ويشير شلايشر إلى أن أطفال الأسر الغنية لا يحظَوْن فقط بدعم قوي من والديهم لمساعدتهم على التركيز على التعلم، بل وجدوا أيضًا فرص التعلم البديلة من خلال الدروس الخصوصية، في المقابل ظل أولئك الذين ينتمون إلى أُسَرٍ فقيرة منقطعين عن الدراسة دون أي وسيلة أخرى للتعلم بعد إغلاق المدارس، مستبعدًا أن يتم سد هذه الفجوة الآخذة في الاتساع.

وفي ذات السياق، اعتبر ديفيش كابور، مدير برامج آسيا في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، أن العملية التعليمية في البلدان النامية تعرضت لضربة شديدة في ظل الوباء، فعلى سبيل المثال مع وجود نحو 260 مليون طفل في المدارس بالهند وما يقرب من 40 مليون طالب في مرحلة التعليم العالي، كانت البلاد تواجه بالفعل تحديات رهيبة في تعليم سكانها للمشاركة في اقتصاد القرن الحادي والعشرين.

ويوضح كابور أن نظام التعليم في الهند لا يزال يعاني من معدلات تسرُّب عالية، وقد أدت الاضطرابات الناجمة عن فيروس كورونا إلى تخلُّف الطلاب الهنود عن الرَّكْب بشكل متزايد.

وتواجه الدول النامية مثل الهند، عقبات كبرى بخصوص التعلم عن بُعد، فعلى الرغم من الزيادة الهائلة في انتشار الإنترنت والهواتف الذكية في السنوات الأخيرة، لا يزال نحو 70% من الهنود في المناطق الريفية -يعيش بها نحو ثلثي سكان البلاد البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة- يفتقرون إلى الوصول الرقمي، ممَّا يجعل التعليم التقليدي أمرًا حيويًّا.

من جهة أخرى، أدَّى الوباء إلى كَبْح حركة الطلاب الدوليين، في الوقت الذي يمثل فيه الصينيون ما يقرب من 20% من الطلاب الدوليين في العالم، فعلى عكس معظم الطلاب الغربيين الذين قد يحضرون فصلًا دراسيًّا أو فصلين في الخارج لإثراء خبرتهم الجامعية، يميل الطلاب الصينيون إلى الحصول على الدرجة العلمية كاملة.

ويؤكد سالفاتور بابونيس، الأستاذ المشارك في جامعة سيدني، تلك المسألة بقوله إن الرسوم الدراسية التي يدفعها الطلاب الصينيون تعد مصدرًا رئيسيًّا للإيرادات لمؤسسات مثل جامعة سيدني، حيث يشكِّل الطلاب الصينيون 31% من إجمالي الطلاب الوافدين، مقابل 14% في جامعة تورنتو بكندا ونحو 11% بجامعة إلينوي بالولايات المتحدة، مرجحًا أن تواجه الجامعات الغربية التي تعتمد على تعليم الطلاب الصينيين تحدِّيًا وجوديًّا.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأنه نظرًا للحاجة الحالية للتعليم عن بُعد، يجب أن يتلقَّى كل طالب ومعلم الموارد والدعم الذي يحتاجونه للتعلم والتدريس عبر الإنترنت، ممَّا يتطلَّب تضامنًا مجتمعيًّا لسد الفجوة الرقمية بين الأفراد.

ويتضح من العرض السابق أن المملكة العربية السعودية استطاعت تجاوُز العقبات التي واجهت الدول الأخرى، فمن جانب لم تُجازف بعودة الطلاب إلى المدارس كما فعلت بعض هذه الدول، ممَّا أدى إلى عودة انتشار وباء كورونا بينهم، وفي الوقت ذاته تغلَّبت على الصعوبات المتعلقة بالتعليم عن بُعد من خلال توفير الإمكانات اللوجيستية الكفيلة بإنجاز هذا النمط من التعليم، مع الوضع في الاعتبار إعادة تقييم التجربة في وقت لاحق، لإقرار الخطة المستقبلية من بين البدائل المطروحة حسب تطورات الوضع الميداني، خاصة أن التعليم في صورته التقليدية القائمة على الحضور الشخصي للطالب والتفاعل وجهًا لوجه مسألة لا غنى عنها، لا سيما في المقررات التطبيقية.

وعلى الرغم من التداعيات السلبية على العملية التعليمية التي نتجت عن تفشِّي فيروس كورونا، فإنها شجَّعت الدول على التوجُّه إلى نظام التعليم عن بُعد، الأمر الذي سيُعزِّز نظام تعليم هجينًا يمزج بين التعليم التقليدي والتعليم عن بُعد، عقب انتهاء هذه الجائحة.

زر الذهاب إلى الأعلى