قراءات

المجال العام الافتراضي.. قراءة تحليلية

لفترة طويلة ظل اعتقادًا سائدًا أنه لن تكون هناك ثورة تؤثر على المجتمع العالمي مثل الإنترنت، حتى ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي التي انخرط فيها الأشخاص من جميع الطبقات، مما خلق نوعًا جديدًا من مجتمع الشبكات، بما يحمله ذلك المجتمع الافتراضي من نقاشات وأفكار وتفاعلات وشخصيات مؤثرة، ما أدى لتكوُّن ما يمكن تسميته “المجال العام الافتراضي” أو “المجال العام الشبكي”.

والمجال العام هو مفهوم تمت دراسته على نطاق واسع في العديد من التخصصات المختلفة مثل العلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلوم الاتصال والإعلام، وقد مر المفهوم بالعديد من التغييرات منذ أن طرحه لأول مرة عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس.

ولا شك أن ظهور وسائل الإعلام الجديدة والتطور في تكنولوجيا الاتصالات أحدث تحولات ضخمة في مفاهيم عديدة أبرزها المجال والخطاب العام، فوسائل التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر” وغيرها أتاحت أدوات تقنية توفر إمكانية التواصل بين مرسل الرسالة وأعداد هائلة من المستقبلين بطريقة غير مسبوقة.

وسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة الإلكترونية وتطوير النقاش العام

تشير دراسة للمجلة الأوروبية للعلوم الاجتماعية إلى أن الفضاء الإلكتروني بات يفرض شكلًا جديدًا للمجال العام، حيث يتم تشكيل الرأي العام من خلال المناقشة التي تعزز تبادل الأفكار والآراء الجديدة، فبمقدور مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي التواصل بحرية بعضهم مع بعض، وأن يجتمعوا وينظّموا صفوفهم للتعبير عن انتقاداتهم أو موقفهم من مسألة أو قضية ما.

ويجادل الباحث النرويجي ماريوس رودي جوهانسين، في دراسة بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي كمجال عام” بأن التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يسهم في تطوير النقاش العام، معتبرًا أن هذه المنصات تسهِّل التواصل بين الأفراد الذين اجتمعوا بسبب مصالح مشتركة.

ويري جوهانسين أن تعزيز رأس المال الاجتماعي وضرورة التواصل داخل المجتمع، سببان رئيسيان يحفزان مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي على بناء ما يسمى “المجال العام في وسائل التواصل الاجتماعي”، فالمستخدمون يكونون أكثر قدرة على التعبير بحرية عن أفكارهم وآرائهم في ذلك المجتمع الافتراضي.

وتعد المشاركة الإلكترونية أداة فاعلة في تكوين المجال العام على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أكد تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة عام 2010 حول “الحكومة الإلكترونية” أهمية المشاركة الإلكترونية من جميع جوانبها: المعلومات والاستشارات الإلكترونية والقرار الإلكتروني.

ووفقًا للتقرير، فقد خلقت شبكة “Web 2.0” ووسائل التواصل الاجتماعي، بيئة جديدة، حيث يمكن للمؤسسات العامة إنشاء اتصال تفاعلي أفضل مع الجمهور، وهو ما يتم باستخدام المدونات والرسائل النصية القصيرة ومنصات مثل “تويتر” و”فيسبوك”.

تراجع دور النخب المثقفة في المجال العام الافتراضي لصالح الهواة

من جهة أخرى، توفر التقنيات الرقمية فرصة أمام الجميع للمساهمة في الخطابات العامة، وتعد أحد العوامل التي تمكّن علماء الاجتماع من التمييز بين البيئات الافتراضية والمجال العام المعياري.

وتشير الدكتورة دنيا مهلويلي في دراسة نشرتها جامعة جلاسكو الاسكتلندية، إلى أن العوامل التي من المحتمل أن تؤثر على عقلانية التفاعلات الاجتماعية، فضلًا عن استدامة الرأي العام في العالم الرقمي، تتمثل في حقيقة أن المجال العام عبر الإنترنت يوفر لكل مواطن فرصة للتعبير عن نفسه علنًا، وهذا أحد أهم الفروق بين نموذج هابرماس للمجال العام، والفضاء العام على الإنترنت في القرن الحادي والعشرين.

من جهته، يرى باتريس فليشي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة باريس-إيست مارن لا فاليه، أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على تبسيط الخطابات وتقليل قوة الرأي العام.

ويرى فليشي أن “Web 2.0” يوفر للهواة الفرصة للإدلاء بالرأي في مختلف القضايا ومواجهة الآراء المختلفة، واستقطاب جمهور. وبهذا المعنى يكتسب هؤلاء الهواة تأثيرًا كان منذ وقت ليس ببعيد امتيازًا حصريًّا للمهنيين والخبراء، لافتًا إلى أن هذا الاعتراف الاجتماعي بالهواة له العديد من التداعيات.

فعلى سبيل المثال في ما يتعلق بالجانب السياسي تحديدًا، ذهب فليشي إلى أن هذا الشكل من المجال العام عبر الإنترنت يفشل في مواجهة ومناقشة القضايا السياسية بطريقة منظمة وحاسمة، لافتًا إلى أن المدونين ومستخدمي الإنترنت لا يخضعون لأي شكل من أشكال الرقابة، ومن المرجح أن تكون منشوراتهم أقل موثوقية، وتفتقر حججهم إلى العقلانية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن جودة المجال العام قد لا تتأثر ما دام النقاش يديره متخصصون من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي.

ملكية وسائل التواصل الاجتماعي وتشكيل المجال العام

تعتمد الدراسات المعنية بتحليل العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والمجال العام على مقاربة تستند إلى الجوانب الثقافية والسياسية والاجتماعية، مع إغفال جانب في غاية الأهمية وهو الاقتصادي السياسي.

وهو البعد الذى ركز عليه الدكتور كريستيان فيتش، أستاذ الإعلام الرقمي بمعهد أبحاث الاتصالات والإعلام بجامعة وستمنستر في بريطانيا، عبر طرحه التساؤل التالي: مَن يملك وسائل التواصل الاجتماعي؟ معتبرًا أن عملية التفكير في دور وسائل التواصل الاجتماعي في عالم اليوم، لا بد ألا تغفل الجزء المتعلق بالاقتصادي السياسي من تلك المسألة.

ويشير فيتش إلى أنه من الواضح أنه عندما ظهرت منصات التواصل الاجتماعي في البداية، كان هناك تنبؤ إيجابي ضخم حول مستقبل المجال العام من خلالها، إذ كان يُنظر إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أنه حل رئيسي لمشكلات وسائل الإعلام في ظل الحكومات الاستبدادية، ربما كان الأمر على هذا النحو في البداية من منطلق أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت في الغالب شركات ناشئة مملوكة لشباب عاديين يرغبون في تغيير العالم، لكنّ الأمور لم تسر بالشكل الذي كان من المفترض أن يكون، إذ نمت تلك المنصات بشكل كبير وأصبح التسويق هدفها الرئيسي، حتى باتت بمثابة عالم إعلاني كبير.

ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى كسر قيود “نظام المعلومات القديم” في ظل وسائل الإعلام التقليدية، حيث بات الأشخاص مصادر للمعلومات، وأصبحوا جزءًا من مجتمع مشاركة غير محدود، فإنه بمرور الوقت ومع العديد من التطورات في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تحولت الأخيرة إلى هيكل جديد يحتوي على خوارزميات، تشير إلى أسلوب جديد في تصفية المعلومات.

وقد لا يكون لدى وسائل التواصل الاجتماعي قيود مثل التي تطبقها وسائل الإعلام التقليدية على الجمهور، ولكن يمكن اعتبار تلك الخوارزميات طريقة أخرى لوضع القيود، ما يعني باختصار أن العلاقات الاقتصادية السياسية وراء منصات التواصل الاجتماعي لا تختلف تمامًا عن العلاقات وراء وسائل الإعلام التقليدية.

ثمة مسألة أخرى تبرز في هذا الإطار، وهى حدود تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في المواقف السياسية، بمعنى: هل وسائل التواصل الاجتماعي قوية للغاية لإحداث تغيير في المجال السياسي كما يفترض كثيرون؟ وقد رأى كلاي شيركي، الباحث الأمريكي المتخصص في الآثار الاجتماعية والاقتصادية لتقنيات الإنترنت في مقال بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن تعميمه، فعلى سبيل المثال في حالتي الفلبين ومولدوفا أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي تأثيرًا كبيرًا وأدت إلى تغييرات سياسية جادة، أما في إيران وبيلاروسيا وتايلاند فكانت لها نتائج خطيرة على المنشقين الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي ونظموا الاحتجاجات عبر أدواتها.

وختامًا، إن مقارنةً بسيطة بين التزايد الضخم في عدد مستخدمي الشبكات الاجتماعية حول العالم والانخفاض المتواصل في توزيع الصحف أو جمهور وسائل الإعلام التقليدية بشكل عام، مؤشر واضح على استقطاب وسائل التواصل الاجتماعي والمجال العام الافتراضي للمزيد من الأشخاص، ما يستتبعه تأثيرات بدرجة أو أخرى على سلوكهم في الواقع الفعلي.

ونخلص مما سبق إلى مجموعة من الاستنتاجات حول العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والمجال العام تتمثل في النقاط التالية:

  • أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي تغييرًا كبيرًا في المعرفة، وفي تعدد القائمين على عملية تشكيل المجال العام والتأثير فيه، ما يتطلب فهم آليات التأثير والمقومات التي بموجبها يصبح للشخص تأثير.
  • أصبحت منصات التواصل الاجتماعي تحتل أهمية كبرى في عملية تشكيل المجال العام، إذ بات الدور المحوري في تلك العملية غير مقصور على وسائل الإعلام التقليدية بصرف النظر عن مدى ارتباطها بالسلطة والمؤسسات الرسمية، ما يعني وجود نمطين من المجال العام: الأول واقعي  والآخر افتراضي عبر الشبكات الاجتماعية، ما يتطلب إجراء مزيد من الدراسات حول نقاط التَّماس وخطوط التأثير بين النمطين وانعكاس ذلك على الواقع.
  • يتم الآن توصيل الرسائل السياسية بشكل أساسي من خلال البيئة الافتراضية. يبدو أن هذا الاتجاه الجديد في الوقت الحالي مُرضٍ لكلا الطرفين: مصدر الرسالة سواء كانت حكومات أو سياسيين، والطرف الآخر «الجمهور» من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي.
زر الذهاب إلى الأعلى