تقارير

هل أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في صعود التيار الشعبوي؟

اجتاح العالم الغربي موجة عارمة من التعليقات الأكاديمية والصحفية التي تربط وسائل التواصل الاجتماعي بصعود الشعبوية، منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عام 2016.

ولكن بموازاة تلك الفرضية كان هناك اتجاه آخر معاكس يدحضها من منطلق أن منصات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا إيجابيًّا بوجه عام في تسهيل تمرير رسائل السياسيين بمختلف توجهاتهم  الفكرية إلى الجمهور، معتبرًا أن تفسير صعود أي توجه سياسي لا بد من قراءته والنظر إليه من منظور أوسع يشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية.

وتتعدد مصادر وأنماط الشعبوية على منصات التواصل الاجتماعي، فقد يكون مصدرها البلدان أو الأحزاب أو السياسيين، وبينما يفضل الشعبويون اليساريون الهجمات على النخب الاقتصادية، فإن الهجمات على النخبة الإعلامية ونبذ الآخرين، سواء كانوا مهاجرين أو أجانب تتم على يد اليمينيين.

ملاءمة السمات الهيكلية لوسائل التواصل الاجتماعي للشعبوية

ثمة توجُّه متزايد يربط صعود التيار الشعبوي في جميع أنحاء العالم بشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في غضون بضع سنوات تحتكر جزءًا كبيرًا من وقت الجمهور وتفكيره وحتى كيفية استهلاكه للأخبار.

ووفقًا لمجلة “فوربس” الأمريكية، فإن العلاقة الأوضح بين الشعبوية وشبكات التواصل الاجتماعي تبرز في لجوء بعض السياسيين إلى تلك المنصات واستخدامها في التسويق السياسي، فهي وسيلة مُثْلَى لنشر رسائلهم، لافتة إلى أن هناك روابط أخرى بين الشعبوية والشبكات الاجتماعية جديرة بالبحث والدراسة، من أبرزها:

الصدفة التاريخية: فالشعبوية ليست ظاهرة حديثة، لكن ظهور الحركات والقادة الشعبويين قد تضاعف منذ اللحظة التي انطلقت فيها الشبكات الاجتماعية في أواخر تسعينيات القرن الماضي.

البنية المبسطة لمواقع التواصل الاجتماعي: فهي تمنح الأشخاص الشعبويين حرية التعبير عن أيديولوجيتهم ونشر رسائلهم، فيغيب الشعور بالقلق إذا تم ترك تعليق لاذع أو فيه تجاوز، فغياب التواصل الفعلي يجعل الشخص في مأمن من رد الفعل السلبي.

غرف الصدى: فالشخص على مواقع التواصل الاجتماعي يكون محاطًا بالأصدقاء الذين يشاركهم الرأي، مما يجعله يشعر بالرضا عن الذات، كما تؤكد الشبكات الاجتماعية معتقدات الشخص وتكون بمثابة غرفة صدى، ترشح له ما يقرأ، وتشكل رؤيته للعالم.

ويشير تقرير لمجموعة أكسفورد للأبحاث إلى أن ثمة عددًا من القضايا الواجب التمييز بينها خلال بحث الصلة بين وسائل التواصل الاجتماعي والشعبوية، وتتمثل في: أصول الشعبوية، العلاقة بين  الأيديولوجيا والشعبوية، صعود الشعبوية الدينية، استخدام السياسيين غير الشعبويين لوسائل التواصل الاجتماعي، وتضمين وسائل التواصل الاجتماعي في أنظمة الاتصال الأكبر.

وحظي الجانب المتعلق بالبحث في جذور الشعبوية الجديدة وصعودها باهتمام المجتمع الأكاديمي، ففي حين رجع عدد من الباحثين، من بينهم باولو جيربودو، عالم الاجتماع السياسي ومدير مركز الثقافة الرقمية بكلية كينجز كولديج لندن، الصعود العالمي للشعبوية إلى “فشل النظام النيو ليبرالي”، أضاف باحثون آخرون سببًا آخر محتملًا، ألا وهو الهوية الثقافية غير المستقرة.

وفي هذا الإطار، قام رونالد إنجل هارت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميتشيجان، وبيبا نوريس، أستاذ السياسة المقارنة بجامعة هارفارد، بقياس الوزن النسبي للقيم الثقافية مقابل انعدام الأمن الاقتصادي كمؤشرين للدعم الانتخابي للأحزاب الشعبوية، ووجدا أدلة قوية على “أطروحة رد الفعل الثقافي” التي تتفوق على المخاوف الاقتصادية.

وخلص الباحثان إلى أن التصويت لحزب شعبوي هو رد فعل رجعي من قِبَل قطاعات سكانية كانت مهيمنة في السابق، مثل الناخبين البيض الأكبر سنًّا والأقل تعليمًا في أوروبا والولايات المتحدة.

وبينما قد يكون هذا هو الحال في الغرب، فإن المجتمعات الأخرى تخضع لاعتبارات مختلفة، فعلى سبيل المثال، في المجتمعات التي ترتفع فيها معدلات الجريمة مثل الفلبين أو البرازيل أو المكسيك، يمكن أن تسود “شعبوية الخوف” أحيانًا على المخاوف الاقتصادية أو الثقافية البحتة.

كما رجعت الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع، نيكول كوراتو، نجاح الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، في الانتخابات الرئاسية إلى “شعبوية العقوبة”، وهي استراتيجية سياسية مبنية على مخاوف المجتمع ودعوات لمعاقبة الجناة المتصورين، في إشارة إلى تركيز حملة دوتيرتي عل مكافحة الاتجار بالمخدرات في الفلبين.

الأمر نفسه ينطبق على الخوف من الإرهاب الذي يتوزَّع بشكل غير متساوٍ حول العالم (فعلى سبيل المثال يكون مرتفعًا في الغرب والشرق الأوسط، ومنخفضًا في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي) وغالبًا ما يعتمد القادة الشعبويون اليمينيون في البلدان التي تشهد هجمات إرهابية متعددة على هذا القلق في تعزيز حظوظهم الانتخابية.

وبالتالي من المرجح أن تكون جذور الشعبوية الجديدة في معظم البلدان نتيجة لتشابكات كثيفة بين عوامل سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها.

منصات التواصل ونظرية وسائل الإعلام الهجينة

إن محاولة التصدي لفهم العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الشعبوية، عبر اعتبار تلك المنصات مجالًا بعيدًا عن باقي الوسائط الإعلامية مقاربة خاطئة تمامًا، فوسائل التواصل الاجتماعي تمثل جزءًا لا يتجزأ من نظام وسائل الإعلام.

ومن هذا المنطلق وضع الباحث البريطاني أندرو تشادويك المتخصص في الاتصال السياسي نظرية عن ظهور “وسائل الإعلام الهجينة” التي تشمل وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي مثل هذه الأنظمة تتغذَّى وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي على  محتوى بعضها وبعض في حلقات متكررة تسمى بـ”الواقع الفيروسي”، تقوم على طرح ما ينشره القادة الشعبويون وأتباعهم من محتوى يطمس الخطوط الفاصلة بين الخبر والرأي.

من جهة أخرى، تثير مسألة دور مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز أو تحقيق الانتصارات الانتخابية للمرشحين الشعبويين، جدلًا في أوساط الباحثين في مجال دراسات الإعلام والاتصال، وهنا يمكن القول بأن وجود حملة شعبوية أو غير شعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي  قبل فوز انتخابي، ليس بمسوِّغٍ كافٍ لافتراض أن هذا الانتصار كان نتيجة لتلك الحملة.

وكثيرًا ما يتردد الحديث حول الدور الحاسم لوسائل التواصل الاجتماعي في الحملات الشعبوية مثل انتخاب ترامب أو استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن ذلك يقابله نجاح شخصيات غير شعبوية في استحقاقات انتخابية مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك  أوباما في عام 2012، وفقًا لمجموعة أكسفورد للأبحاث.

كما وجد باحثون أكاديميون في دراسة فحصت العلاقة بين غرف صدى وسائل التواصل الاجتماعي ودعم الشعبوية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، أنه لم تكن هناك علاقة ذات صلة تم ترجمتها في توجهات الناخبين، إذ لم يكن الناخبون الشعبويون أكثر عرضة من الناخبين الآخرين للعيش في غرف الصدى على منصات التواصل، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.

لكن هذا لا يعني القطع كليًّا بعدم وجود تأثير لمواقع التواصل على تعزيز التيار الشعبوي، إذ وجدت دراسة للدكتور مانويل ملدوناندو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مالقة الإسبانية، أنه تم تقوية الشعبوية من خلال الرقمنة التي يشهدها المجتمع، حيث إنها مهدت الطريق لطريقة تواصل شعبوية.

وعلى سبيل المثال، عند تنصيب الرئيس البرازيلي اليميني المتطرف، جاير بولسونارو، لم يهتف أنصاره باسمه، فبدلًا من ذلك كانوا يرددون أسماء منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وواتس آب، حيث كانوا ينسبون إلى  تلك المنصات الفضل في انتصار مرشحهم، وفقًا لموقع فوكس الإخباري الأمريكي.

فقد موَّلت مجموعة محافظة خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في البرازيل، حملة تضليل ضخمة عبر تطبيق “واتس آب” لنشر معلومات مضللة تضر بخصم بولسونارو، وقد لعبت هذه الأخبار، وفقًا لخبراء برازيليين، دورًا في فوز بولسونارو بالرئاسة.

طبيعة استخدام القادة الشعبويين لوسائل التواصل الاجتماعي

شكَّلت طبيعة استخدام القادة الشعبويين لمنصات التواصل الاجتماعي وتأثير رسائلهم في الجماهير محورًا مهمًّا في الجهود البحثية والإسهامات الأكاديمية الرامية لفهم وتحليل استخدام الساسة لمنصات التواصل الاجتماعي كإحدى الأدوات الحديثة في مجال الاتصال السياسي.

وقد خلصت دراسة نشرتها مجلة ““Social Media+Society رصدت 647 رسالة ذات طابع سياسي على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، موزعة بالتساوي، نصفها رسائل شعبوية مصدرها سياسي شعبوي والنصف الآخر رسائل غير شعبوية مصدرها  سياسي غير شعبوي، إلى أن السياسيين الشعبويين يجيدون استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية.

لكن الدراسة اعتبرت أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الشعبية التي تحظى بها تلك المنشورات الشعبوية مدفوعة بطبيعة الرسائل أو الفاعلين الشعبويين كمصدر لها، أو من خلال تفاعل كل من العاملَيْن السابقين.

أمَّا عن طبيعة استخدام القادة الشعبويين لمنصات التواصل الاجتماعي، فيرى الدكتور بنجامين موفيت، المحاضر البارز في العلوم السياسية بالجامعة الكاثوليكية الأسترالية في ملبورن، أنه في حين أن تلك المنصات قد منحت الشعبويين مظهر التواصل مع الجمهور، لكن الأبحاث الحديثة حول عادات وسائل التواصل الاجتماعي للرؤساء الشعبويين في أمريكا اللاتينية واستخدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لموقع التدوينات القصيرة “تويتر” يشيران إلى أن الغالبية العظمى من اتصالاتهم تتم من أعلى إلى أسفل.

وهو ما يعني أن القادة الشعبويين لا يهتمون بالتفاعل مع متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بل يستخدمون تويتر وفيسبوك كمجرد قناة أخرى لبث رسائلهم، بحسب شبكة “إيه.بي.سي” الأسترالية.

كما يشير الدكتور موفيت، وهو مؤلف كتاب “الصعود العالمي للشعبوية.. الأداء والنمط السياسي والتمثيل” إلى أنه ليس بالضرورة أن كل الشعبويين يجيدون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ففي حين يتصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الفلبيني رودريغو دوتيرتي، وحزب بوديموس اليساري في إسبانيا وحركة 5 نجوم اليمينية المتطرفة في إيطاليا عناوين الصحف نتيجة لمهاراتهم في استخدام تلك المنصات، يلعب الإنترنت دورًا ضئيلًا أو يكاد يكون بلا جدوى بالنسبة لبعض الشخصيات الشعبوية مثل البرلماني الأسترالي الشعبوي، بوب كاتر.

ويفترض أستاذ العلوم السياسية الأسترالي أن منصات التواصل لم تؤدِّ إلى صعود القادة الشعبويين، استنادًا إلى عنصرين هما:

الأداء الجيد للقادة الشعبويين قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مثل الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني.

استفادة السياسيين غير الشعبويين بنفس القدر من صعود وسائل التواصل الاجتماعي، ويشهد على ذلك دور تلك المنصات في الانتصارات الانتخابية لكل من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما  ورئيس الوزراء الكندي جاستنترودو.

وختامًا، يتضح ممَّا سبق أن العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الشعبوية، علاقة معقدة للغاية، حيث يتطلب تطوير تفسير عام لتلك الصلة، توسيع النطاق الجغرافي لدراسة تلك الظاهرة مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد التاريخية والسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

زر الذهاب إلى الأعلى