قراءات

إيران وتركيا واللعب على وتر الهوية لاختراق المنطقة

تتعدد لبنات بناء هوية شعوب منطقة الشرق الأوسط، حيث تتداخل الهوية مع الخلفية التاريخية والواقع الجغرافي الاستراتيجي والظروف البيئية والدين والخلفية العرقية والأيديولوجية والقومية والثقافية.

وقد شكَّل ذلك التنوع أحد أبرز المداخل التي لجأت بعض الأطراف في الإقليم إلى الاستناد إليها في إطار مشاريعها وخططها للهيمنة والتوسع وبسط النفوذ في منطقة تتميز بالأهمية الاستراتيجية، فالشرق الأوسط يقع جغرافيًّا في مركز العالم، ويزخر بالعديد من الثروات، إذ يوجد به 56% من احتياطيات النفط و40% من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم.

وفي هذا الإطار برز استخدام كل من إيران وتركيا لمسألة الهوية في السياسة الخارجية، فطهران اعتمدت على الهوية الشيعية كأساس لمشروعها التوسعي منذ قيام نظام الملالي عام 1979، أمَّا تركيا، تحت حكم رجب طيب أردوغان، فقد اعتمدت على اللعب بورقة الهوية العثمانية بما تحمله من رافدين أساسيين، إحياء الخلافة الإسلامية ضمن مشروع يخاطب تيار الإسلام السياسي، والرافد الآخر يتصل بالنزعة القومية التركية، عبر استخدام الأقليات التركمانية كأداة للتدخل في شؤون الدول العربية.

التوظيف الإيراني للهوية الشيعية في السياسة الخارجية

تدَّعي السياسات القائمة على الهوية أنها تسعى إلى تعزيز مصالح مجموعات معينة في المجتمع، والتي غالبًا ما يتشارك أفرادها ويتحدون حول تجارب مشتركة للظلم الاجتماعي والاقتصادي الفعلي أو المتصوَّر بالنسبة إلى المجتمع الأوسع الذي يشكلون جزءًا منه ويوجدون فيه.

وبهذه الطريقة تولد هوية المجموعة المضطهدة أساسًا سياسيًّا يتحدون حوله ويبدؤون في إثبات وجودهم في المجتمع، بحسب معهد البحوث للدراسات الأوروبية والأمريكية.

وتوجد صلة كبيرة لسياسات الهوية بدول الشرق الأوسط، ولعل المثال الإيراني المتعلق بالهوية الشيعية هو الأبرز، حيث أصبح ذلك البعد يهيمن على سياساتها الإقليمية منذ الثورة الإيرانية عام 1979، التي أطلقت العنان لذلك النمط من السياسات في المنطقة.

ويرى الدكتور جيفري هاينز، مدير مركز دراسة الدين والصراع والتعاون في جامعة لندن متروبوليتان، أن “إيران” نموذج للدول التي تستخدم الدين كعنصر أساسي في سياساتها الخارجية من أجل تحقيق أهداف المصلحة الوطنية.

ويشير هاينز إلى أن ذلك الأمر أثار تساؤلًا رئيسيًّا مفاده: أين تكمن الولاءات الشيعية؟ هل تكون للمجتمع الديني العابر للحدود الوطنية؟ أو أنها مع الدولة القومية؟، وتجسدت تلك الجدلية في تصريحات لافتة في ديسمبر 2004، حينما حذر العاهل الأردني الملك عبد الله من ظهور “هلال شيعي”،  واصفًا المجتمعات الشيعية في الخليج والعراق وسوريا ولبنان بأنها “طابور خامس” تسيطر عليه طهران.

كما ذهب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك إلى أبعد من ذلك، حينما رأى أن الشيعة في العالم العربي يظهرون ولاءً لإيران أكثر من ولائهم لأوطانهم.

وقد تنامى دور العامل الطائفي في السياسة الخارجية الإيرانية خلال العقدين الماضيين، وبرز بوضوح منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وكذلك مع اندلاع ما يسمى بـ”الربيع العربي” في أواخر عام 2010، عبر دعم الجماعات المسلحة الشيعية في الشرق الأوسط من أجل توسيع نفوذها الإقليمي في العراق ولبنان وسوريا واليمن.

ووفقًا لدراسة لمركز كارنيجي للدراسات، فإن العلاقات الوثيقة مع الحلفاء الشيعة باتت هي أساس النفوذ الإيراني في المنطقة، وحين أصبح حلفاء طهران في العراق وسوريا واليمن في مهب التهديدات، ضاعفت طهران اندفاعاتها نحو استراتيجية مناصرة الشيعة، كوسيلة لحماية نفوذها الإقليمي.

وتجسدت تلك السياسة الإيرانية بالدرجة الأولى في خطاب وسلوكيات ميليشيات الحرس الثوري، عبر انخراطه في نزاعات المنطقة والتلاحم مع الحركات الشيعية المسلحة، ليعكسوا جبهة شيعية موحدة لديها طموحات إقليمية.

ويعد حزب الله اللبناني هو النموذج الأكثر وضوحًا لنهج الحرس الثوري القائم على نسج علاقة ولاء وثيقة مع كيان أجنبي وفق خطوط سياسية ودينية مشتركة، ومن النماذج الأخرى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وجناحه العسكري، فيلق بدر، واللذان أسسهما المهاجرون العراقيون في إيران ودرَّبهما الحرس الثوري إبان الحرب العراقية/ الإيرانية، وتكرر الدور لاحقًا مع هيئة الحشد الشعبي العراقية.

وبذلك أصبح دعم طهران للكيانات دون الدولة في الشرق الأوسط عاملًا تأسيسيًّا في سياسات إيران الخارجية في حقبة ما بعد 1979، إذ اعتبر نظام الملالي أن تلك المسألة مقاربة ضرورية لأمنه وبقائه وتوسيع نفوذه.

لكن تداعيات تلك السياسات لم تكن في صالح طهران، وهو ما أظهرته موجة الاحتجاجات التي يشهدها العراق ولبنان منذ أكثر من عام، والتي جاءت لتعكس الاحتقان الداخلي ضد النفوذ الإيراني المتنامي في البلدين، حيث خرج عراقيون في بلدات شيعية يرددون هتافات وشعارات على غرار “إيران برا برا، بغداد حرة حرة”، ونزل اللبنانيون إلى الشوارع وهم يحملون شعارًا موحدًا “كلن يعني كلن”، وفقًا لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.

واتخذ ذلك الرفض مظاهر عملية تجاوزت الشعارات المنددة بالتدخلات الإيرانية، من أبرزها إحراق المحتجين العراقيين القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء، وتحميل المحتجين في لبنان حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، مسؤولية الكوارث التي يعيشها بلدهم بدءًا من أزمته الاقتصادية ووصولًا إلى كارثة انفجار مرفأ بيروت.

أردوغان وفشل مساعي الترويج لمظلومية التركمان

سعت تركيا هي الأخرى إلى اللعب بورقة الهوية في سياستها الخارجية، فأنقرة تنفق أموالًا طائلة من أجل تأجيج قضايا الأقليات التي تقول إنها تعود في جذورها إلى أصول تركية في العديد من بلدان العالم، وبرزت الأقلية التركمانية، كإحدى أدوات المشروع “الأردوغاني” التوسعي في المنطقة وأطماعه في ثروات العالم العربي، عبر الترويج لتعرض التركمان لمظلومية سياسية وتنصيب نفسها كمدافع عن حقوق التركمان في العديد من الدول العربية.

ففي العراق، توجِّه الحكومة التركية اهتمامها بشكل متزايد نحو تركمان العراق وقيادتهم السياسية لاتخاذهم ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، لا سيما قضية محافظة كركوك الغنية بالنفط، والتي تعتبرها أنقرة مدينة تركمانية، وهو ما عكسته تصريحات واضحة للمتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، خلال الاستفتاء الذى نظمه الأكراد حول انفصال الإقليم عن العراق عام 2017، حين صرح قائلًا إن “كركوك فيها الأكراد وفيها العرب أيضًا، إلا أن الهوية الأساسية لها أنها مدينة تركمانية”.

كما يضع أردوغان قضية الأقلية التركمانية في العراق في صلب اهتماماته وهو الذي سبق أنْ أجرى لقاءات موسعة ومغلقة معها، وفقًا لمجلة أحوال التركية.

وتؤيد أنقرة منح منصب محافظ كركوك لشخصية تركمانية، وذلك على أمل أن يتمكنوا من خلال وجودهم في المواقع القيادية، من السيطرة على الموارد النفطية هناك.

ولا تكفُّ أنقرة عن الخطاب القومي الداعم لتركمان العراق، مؤكدة أن تلك القومية التي تعد ثالث أكبر قومية في العراق بعد العرب والأكراد، وثاني أكبر قومية في شمال العراق بعد الأكراد، تعيش مظلومية في نيل استحقاقاتها من نظام المحاصصة “الإثنية” و”الطائفية”.

وتوطِّد تركيا علاقاتها مع التركمان في العراق عبر التنسيق السياسي مع الأحزاب التركمانية في الإقليم، فضلًا عن مدخل المساعدات وهو ما برز خلال أزمة فيروس كورونا.

أمَّا عن التركمان في سوريا، فالأقلية التركمانية مبعثرة جغرافيًّا في أنحاء سوريا، من مرتفعات الجولان إلى عشرات القرى والبلدات في محافظة حلب الشمالية، ويشير الباحث الهولندي نيكولاس فان دام، في كتابه “الصراع لأجل السلطة في سوريا” إلى أن نسبة التركمان السوريين تشكل 3% من التعداد الكلي للسكان.

ومنذ التوغل العسكري التركي في شمال سوريا عام 2016، لعب التركمان المحليون، من مدنيين وعسكريين، دورًا أساسيًّا في الإدارة وعمليات الإغاثة داخل ما سمته أنقرة بـ”المنطقة الآمنة”، وهو ما أثار سخط المواطنين العرب هناك، وسط شكاوى من انحياز أنقرة إلى التركمان في توزيع المساعدات والمشاريع التنموية، بحسب مركز كارنيجي الشرق الأوسط.

كما توفر أنقرة حاضنة سياسية للتركمان السوريين، إذ ظلت تستضيف اجتماعات الجمعية العامة للمجلس التركماني السوري، حتى تم نقل مقر المجلس إلى شمال حلب في يوليو 2019.

وفي ذات السياق، شكَّل التركمان في لبنان، مدخلًا آخر لحكومة أردوغان من أجل استكمال مخطط فرض نفوذها في المنطقة، وتحديدًا في طرابلس وشمال لبنان عبر آليات متعددة ما بين اقتصادية واستخباراتية وطائفية، حيث تهدف أنقرة بشكل أكبر للسيطرة على الطائفة السنية، وقد استغل أردوغان فاجعة انفجار مرفأ بيروت ليكشف عن تخطيط تركيا منح جنسيتها إلى عشرات الآلاف من التركمان وذوي الأصول التركية في لبنان، فخلال زيارة أجراها وفد تركي ترأسه فؤاد أوكطاي نائب الرئيس التركي، نقل الوفد إلى تركمان لبنان وعودًا بالحصول على الجنسية التركية.

كما صرَّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قائلا: “نحن بجانب الأتراك والتركمان، سواء في لبنان أو في أي مكان حول العالم. سنمنح جنسية الجمهورية التركية لإخوتنا ممن يقولون إنهم من الأتراك أو التركمان ولا يحملون جنسية بلدنا. هذه هي تعليمات رئيس الجمهورية لنا”، وقُوبِل ذلك الإعلان برفض واسع من جانب اللبنانيين الذين دشنوا هاشتاقًا باسم “#عثماني_اطلع_برا” وفقًا لصحيفة زمان التركية.

وأخيرًا، لجأت تركيا إلى التركيز على إحياء النعرات القومية من أجل تفكيك المجتمع الليبي بالحديث عن التركمان في ليبيا، حيث اعتبرت أن ما سمَّتْهم بأتراك ليبيا (الكراغلة)، الذين يتركزون في مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) هم السبب الرئيسي الذي حال دون تقدم الجيش الوطني الليبي تجاه العاصمة، كما زعم أردوغان في يناير الماضي أن الجيش الليبي يسعى للتطهير العرقي بحق من وصفهم بأنهم أحفاد خير الدين بربر وسو تورغوت رئيس، وهما قائدان عثمانيان لعبا دورًا كبيرًا في إخضاع ليبيا للحكم العثماني،  بل إن “أردوغان” قدَّر عدد هؤلاء بأنهم أكثر من مليون شخص، علمًا بأن إجمالي سكان ليبيا يقارب 6.5 مليون نسمة.

وقد تعرَّض أردوغان لصفعة قوية من قِبل قبيلة “الكراغلة” في برقة التي تشكِّل المكوِّن الأساسي لـ«للِّيبيِّين الأتراك»، وذلك بعدما رفضت تصريحات أردوغان، وشددت على أنها لن تسمح لأي دخيل بأن يدنِّس أرض الوطن الذي تنتمي له القبيلة منذ قرون.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن توظيف كل من إيران وتركيا للبعد الخاص بالهوية، سواء كانت على أساس ديني أو عرقي، جاء كأداة ضمن مشاريع توسعية تهدف لبسط النفوذ والسيطرة في الإقليم، واقترنت تلك الجهود ببعض الانتكاسات التي تعرضت لها الدولة القومية في المنطقة العربية.

وفي الوقت الذي رفضت فيه غالبية الأقليات العرقية التفاعل مع المخططات القائمة على إذكاء الانقسامات داخل المجتمع عبر تقديم الاعتبارات العرقية على الولاء للوطن، وتمسكت تلك الأقليات بهويتها الوطنية وانتمائها للدولة القومية والمجتمع المنخرطة فيه بصرف النظر عن جذورها، تفاعلت جماعات الإسلام السياسي مع المخططات التوسعية القائمة على الهوية الدينية وأيدتها، وهو ما يتضح في نموذجين:

النموذج الأول: تبنِّي جماعة الإخوان المسلمين مشروع أردوغان الطامح إلى إحياء الخلافة، بوصفه مشروعًا عابرًا للأعراق والقوميات ويتوافق مع الفكر الإخواني الذي لا يُولِي أيَّ اعتبار لروابط الانتماء الوطني، فالفكر الإخواني يقوم على رابطة الدين العابرة للحدود.

النموذج الثاني: يتصل بالهوية الشيعية، حيث تدين العديد من الجماعات الشيعية في المنطقة بالولاء إلى المرشد الإيراني في طهران وليس لأوطانها، وهو ما ينطبق على حزب الله في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق. 

وبذلك فإن التوظيف السياسي للدين كان أكثر تأثيرًا وقدرة على استمالة الآخر من اللعب بورقة الهوية القومية، لا سيما في ظل التطورات التي طرأت على حركة المجتمعات خلال القرن الماضي، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، والتي أذابت إلى حدٍّ كبير أي فوارق بين الأقلية العرقية والأغلبية في المجتمعات بالمنطقة.

وعلى الرغم من أن التوظيف السياسي للدين قد لاقى صدًى –مرحليًّا- عند بعض الجماعات المؤدلجة، كونها لا تُؤمن في الأساس بفكرة الوطن والدولة، إلا أن تطورات الأحداث أثبتت أن هذه الجماعات تحولت إلى فصيل منبوذ من جانب المواطنين، وخير مثال على ذلك لَفْظُ المجتمعات العربية لجماعة الإخوان المسلمين، وأيضًا الرفض الشعبي لأذرع إيران في كل من لبنان والعراق.

زر الذهاب إلى الأعلى