عكست السياسة الخارجية التركية خلال الأعوام الأخيرة ميلًا متزايدًا نحو الانخراط في علاقات عدائية وصراعات، سواء مع دول الجوار المباشر لأنقرة أو على امتداد الإقليم، ممَّا تمثل في محطات متعددة بدءًا من الحرب الأهلية السورية وصولًا إلى الصراع الليبي ومرورًا بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والصدامات المتكررة مع اليونان وقبرص حول الثروات فيها.
ويتمثل المحرك الأساسي لتلك الصدامات في أطماع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السيطرة على مصادر الطاقة، سواء النفط أو الغاز، في سوريا أو ليبيا أو شرق المتوسط، والتي عبَّر عنها في العديد من التصريحات الرسمية.
وتعد التوترات التي يثيرها السلوك التركي العدائي في منطقة شرق المتوسط هي الأخطر على الإطلاق انطلاقًا من أبعاد جيوسياسية، حيث الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وتعدد الفاعلين الدوليين والإقليميين في تلك المنطقة الحيوية وتشابك المصالح بينهم.
وأدت تلك العوامل مجتمعة إلى تصاعد وتيرة التحركات العسكرية بالمنطقة خلال الأيام القليلة الماضية، في ظل مُضيِّ تركيا في أنشطتها غير المشروعة والمتعلقة بالتنقيب عن الغاز عبر نشر سفينة المسح الزلزالي “أوروتش رئيس” بالقرب من جزيرة كاستيلوريزو اليونانية.
ومن أبرز مظاهر عسكرة شرق المتوسط الاصطدام الذي وقع منتصف الشهر الجاري بين سفينة حربية تركية وأخرى يونانية، وكذلك تعزيز فرنسا لحضورها العسكري عبر إرسال طائرتين من طراز “رافال” والفرقاطة “لافييت”، بجانب المناورات البحرية المشتركة مع اليونان.
ولعل ذلك ما دفع مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إلى التحذير في تقرير مطوَّل لها من أن أي تصعيد إضافي في شرق البحر المتوسط يمكن أن يؤدي إلى ما سمَّتْه “دوامة أوروبية-شرق أوسطية”، واندلاع صراع متعدد الجنسيات في المنطقة.
اكتشافات الطاقة تخرج شرق المتوسط من دائرة النزاعات المحلية إلى بؤرة صراع إقليمي
ووفقًا للمجلة الأمريكية، فقد ظلت نزاعات الحدود البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط طيلة عقود شأنًا محليًّا، يقتصر على مطالبات بالسيادة في إطار النزاعات بين قبرص واليونان من جهة وتركيا من جهة أخرى، لكن اكتشافات الطاقة في المنطقة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة أدَّت إلى تحويلها إلى ساحة استراتيجية رئيسية تتلاقى من خلالها خطوط الصدع الجيوسياسية الأكبر التي تشمل الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولعبت إيطاليا وفرنسا، بحسب المجلة، دورًا أساسيًّا في قيادة هذا التغيير، الأمر الذي وضع العلاقة المعقدة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا على مسار أكثر عدائية، ويتضح ذلك الدور فيما يلي:
اكتشاف حقل ظُهر الضخم للغاز الطبيعي في المياه الإقليمية البحرية المصرية من قِبَل شركة إيني الإيطالية في أغسطس 2015، فهو أكبر اكتشاف للغاز في شرق المتوسط حتى الآن، وكان مؤشرًا على أن المنطقة تحتوي على كميات هائلة من الغاز.
وأعقبه ترويج إيني لخطة تجميع الغاز القبرصي والمصري والإسرائيلي، واستخدام مصانع تسييل الغاز في مصر لتسويق غاز المنطقة إلى أوروبا.
وبالتالي لم يترك ذلك المخطط أي دور لتركيا، ممَّا أدى إلى تدمير خطط أنقرة لتصبح مركزًا إقليميًّا لتداول الطاقة.
انخراط فرنسا في جهود الاستكشاف بالمنطقة، حيث وجهت شركة توتال النفطية الفرنسية العملاقة ضربة لتركيا من خلال الشراكة مع شركة إيني في جميع عمليات الشركة الإيطالية في قبرص، ممَّا وضع فرنسا في وسط مستنقع الطاقة في شرق المتوسط.
وبموازاة ذلك، وافقت قبرص رسميًّا على توريد الغاز إلى مصانع التسييل المصرية للتصدير، ولحقت بها إسرائيل وأبرمت اتفاقًا مماثلًا مع مصر بعدما كانت تفكِّر في بناء خط أنابيب للغاز تحت البحر بين إسرائيل وتركيا.
وإزاء ذلك الوضع والعزلة التي باتت فيها تركيا، اتخذت نهجًا أحادي الجانب عبر خطوتين رئيسيتين في شرق المتوسط، الأولى أنشطة التنقيب التركية عن الغاز قرب قبرص ومعظمها في المياه المتنازع عليها، والثانية توقيعها معاهدة مع ليبيا تعيد تعريف الحدود البحرية على حساب اليونان وقبرص ممَّا يسمح لها بالتنقيب عن الغاز في المستقبل حول جزيرتي رودس وكريت من بين مناطق أخرى، وفقًا لمؤسسة كارنيجي أوروبا.
وسعت أنقرة بذلك إلى إنشاء واقعها القانوني والمادي بما يتفق مع مصالحها، فهي تراهن -مثلما فعلت روسيا في شبه جزيرة القرم- على غياب ردود الفعل الهائلة من الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة.
ويشكل السلوك التركي تحدِّيًا هائلًا للنظام القانوني في شرق المتوسط، وهو وضع لا يزال يتعين معالجته من قِبَل الأطراف المعنية، في حين لا يوجد مسار واضح نحو مثل هذه العملية.
أنقرة واللعب بالورقة الليبية في صراع المتوسط.. قاعدة مصراتة نموذجًا
سعت تركيا من خلال توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج في نوفمبر 2019، إلى اكتساب مركز قانوني –من وجهة نظرها- لتحدِّي الحدود البحرية التي أنشأتها اليونان مع قبرص ومصر، التي تعتمد عليها خطط استكشاف الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.
كما أبرمت أنقرة أيضًا اتفاق تعاون عسكري يوفر لحكومة السراج ضمانة أمنية ضد الجيش الوطني الليبي، وبالفعل قامت حكومة السراج بتفعيل اتفاقها العسكري رسميًّا مع أنقرة في ديسمبر، وهكذا تم ربط المواجهة البحرية المتوترة بالفعل في شرق البحر المتوسط بالحرب الأهلية الليبية، بحسب مجلة “فورين بوليسي”.
ومن المؤشرات الواضحة على ذلك الربط والتداخل بين ملفي شرق المتوسط وليبيا، التقارير الإعلامية الليبية التي أعقبت زيارة وزيري الدفاع التركي خلوصي أكار والقطري خالد بن محمد العطية إلى طرابلس في 17 أغسطس الجاري، والتي أفادت توصُّلَ حكومة السراج وتركيا وقطر إلى اتفاق يتضمن تفعيل ميناء مصراتة كقاعدة للقطع البحرية التركية العاملة بشرق المتوسط، وإنشاء مركز تنسيق ثلاثي (تركي قطري ليبي) يجتمع شهريًّا على مستوى رؤساء الأركان، مع وجود مستشارين من الدول الثلاث بمقر المركز في مصراتة، وفقًا لقناة “218” الليبية.. ممَّا استوجب تعقيبًا مصريًّا رسميًّا، اعتبر أن مثل هذا التطور سيكون تهديدًا لاستقرار منطقة البحر المتوسط برمتها شمالًا وجنوبًا وتزيد من المخاطر على استقرار المنطقة والأمن والسِّلم فيها، بحسب تصريحات مصدر حكومي مصري لوكالة أنباء الشرق الأوسط، شدد فيها على أن قرارًا كهذا يعد خروجًا عن المنطق الذي بني عليه اتفاق “الصخيرات” والولاية المنبثقة عنه وعلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
وأكدت مصر أنه يمثل خطورة على مستقبل الشعب الليبي الذي ناضل من أجل استقلاله ويسعى لمستقبل مزدهر يوظِّف فيه ثروات ليبيا لما يحقق مصلحة أجيالها المقبلة لا مصالح دول وشعوب أخرى، في إشارة إلى كل من تركيا وحليفتها قطر.
سيناريو مستقبلي لإدارة الأزمة في شرق المتوسط
عرضت مجلة “فورين بوليسى” تصوُّرًا للسيناريو المقبل في شرق المتوسط، يقوم على فرضية مفادها أن هناك حوافز قوية لمعظم الأطراف في المنطقة والاتحاد الأوروبي لاحتواء التصعيد الحالي وإيجاد مخرج للأزمة، وهو ما يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
أعرب الاتحاد الأوروبي عن دعمه المطلق لأعضائه، اليونان وقبرص، لكن الدول المتوسطية في الكتلة منقسمة حول كيفية التعامل مع الأزمة الحالية، إذ تدعو فرنسا واليونان وقبرص إلى اتخاذ إجراءات قوية ضد أنقرة، في وقت امتنعت فيه كل من إيطاليا ومالطا وإسبانيا عن ذلك، علمًا بأن الدول الثلاث تربطهم مصالح تجارية مع تركيا، وفي ضوء هذا الوضع يمكن أن تلعب ألمانيا، رئيسة الاتحاد الأوروبي منذ يوليو الماضي، دورًا في كسر الجمود الراهن.
تشكل جزيرة كريت التي يعتقد أن مياهها الجنوبية تحتوي على كميات كبيرة من النفط أو الغاز الطبيعي، خطًّا أحمر لا تستطيع تركيا تجاوزه، وإن كان من المرجح أن تستخدم أنقرة التلويح بعمليات التنقيب في تلك المنطقة كورقة تفاوض.
تدخُّل طرف ثالث يتمتع بنفوذ كافٍ لدفع تركيا واليونان إلى محادثات، وخفض حدة التصعيد بين الجانبين، وتعد الجهود الأخيرة التي بذلتْها الولايات المتحدة للتهدئة في ليبيا، المؤشر الأكثر تفاؤلًا بالنسبة لمنطقة شرق المتوسط.
خلاصة القول.. لقد أدت الاكتشافات الواعدة للطاقة في منطقة شرق البحر المتوسط إلى صراعات اقتصادية وعسكرية وأيديولوجية جديدة، وفي ظل تزايد حدة التوترات في تلك المنطقة نتيجة للسياسات التركية المتهورة غير المتقيدة بأي اعتبارات قانونية، ولجوء الرئيس التركي أردوغان إلى تشبيك الوضع في شرق المتوسط مع ملفات أخرى، في مقدمتها الصراع في ليبيا وملف اللاجئين، بات من الضروري أن يسارع المجتمع الدولي إلى نزع فتيل تلك الأزمة عبر التأكيد على أهمية احترام القانون الدولي وحقوق الدول في ثروات المنطقة وفقًا لأحكام القانون، فضلًا عن اتخاذ التدابير اللازمة لردع السوك التركي العدائي وغير المسؤول، بهدف الحيلولة دون وقوع صدام عسكري واسع النطاق.