تقارير

التنمُّر عبر الإنترنت.. التداعيات وآليات المواجهة

في عالم أكثر اعتمادًا على الاتصال عبر الإنترنت، أصبحت ظاهرة التنمر أو التنمر الإلكتروني تشكل تهديدًا وخطورة أكبر، ومن المعروف أن ضحايا التنمر يمكن أن يكون لديهم مخاطر أعلى للمعاناة من المشكلات الصحية والاجتماعية في المستقبل، إذ يرتبط التنمر الإلكتروني بمجموعة متنوعة من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، ليس فقط بالنسبة للضحايا ولكن أيضًا على الأشخاص المنخرطين في هذا السلوك عبر الإنترنت.

وتقوم نسبة كبيرة من المراهقين الذين ينخرطون في التنمر عبر الإنترنت أيضًا بالتنمر التقليدي على الأشخاص في الواقع، وإن كان البعض يفضلون ممارسة التنمر الإلكتروني ليظلوا مجهولين، كما يكونون أكثر عرضة للشعور بالتحرر من الأعراف الاجتماعية والقواعد الأخلاقية والعقوبات المحتملة عندما يكونون خلف الشاشة وبعيدين جسديًّا أو منفصلين جغرافيًّا عن الهدف أي الشخص الذي يتعرض للتنمر.

وهناك العديد من العلامات التحذيرية التي تشير إلى أن المراهق قد يمارس التنمر عبر الإنترنت، ومن أبرزها استخدام المراهق أجهزته طوال ساعات الليل أو تبديل شاشته أو إخفاؤها بسرعة عندما يمر شخصٌ ما بجانبه، وقد يظهر أيضًا حساسية متزايدة أو يبدو أكثر توترًا.

كما قد يُظهر ضحايا التنمر الإلكتروني سلوكًا مشابهًا، ولكن لديهم أيضًا مجموعة من علامات التحذير الخاصة بهم، فقد يعزل المراهقون أنفسهم أو يتوقفون عن استخدام أجهزتهم لبعض الوقت. وتشمل بعض الأعراض العاطفية الشائعة، الغضب أو الإحباط.

اضطراب ما بعد الصدمة يلاحق المتنمرين عبر الإنترنت وضحاياهم

وتشير دراسة أجرتها جامعة “إمبريال كوليدج لندن” على أكثر من 2000 مراهق بريطاني، ونشرت نتائجها في مجلة “the Archives of Disease in Childhood Journal” أن أكثر من ربع المتنمرين عبر الإنترنت يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

وتقول آنا باسكوال سانشيز، الخبيرة المتخصصة في علم النفس السريري، وأحد مؤلفي الدراسة، إن فريقها فوجئ بهذه النتائج، موضحة أن “التنمر الإلكتروني يعرض المتنمرين لحالات عنيفة محتملة قد يفقدون فيها السيطرة وحتى يشعروا بالضعف في مرحلة ما أو يندموا”.

وتناولت الدراسة عينة قوامها 2200 مراهق تتراوح أعمارهم بين 11 و19 عامًا من أربع مدارس في لندن، ووجد الباحثون أن التنمر الإلكتروني كان أقل احتمالية، حيث شارك واحد من كل أربعة مراهقين فيه، مقابل واحد من كل ثلاثة مراهقين، متورط في التنمر التقليدي.

وقام ما يقرب من 75% من المراهقين بملء مقياس تأثير الأحداث المنقح للكشف عن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. وسجل 35% من ضحايا التنمر الإلكتروني أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، في حين أظهر 29% من المراهقين الذين قاموا بالتنمر الإلكتروني علامات لاضطراب ما بعد الصدمة.

ووجد الباحثون أيضًا أن احتمال تعرض المتنمرين عبر الإنترنت للتنمر التقليدي أقل احتمالًا.

ورجحت سانشيز أن عدم الكشف عن الهوية الذي توفره الوسائل عبر الإنترنت يزيد من خطر ارتكاب التنمر عبر الإنترنت، ممَّا يوفر منصة يسهل الوصول إليها ويمكنها الوصول إلى الآخرين بسرعة وسهولة.

ولم تقدم الدراسة ذات الطبيعة الإعلامية، نتائج حول سبب تعرض بعض المتنمرين عبر الإنترنت أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، داعية إلى استكمال المزيد من البحث لفهم السببية والتعمق في الأعراض.

ويقول سمير هندوجا، المدير المشارك لمركز أبحاث التنمر عبر الإنترنت وأستاذ علم الجريمة في جامعة فلوريدا أتلانتك، إنه لم يرصد معاناة المتنمرين عبر الإنترنت من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في بحثه، ولكنه يراها أمرًا منطقيًّا في ظل صراعات الصحة النفسية الأخرى التي لاحظها فيما يتعلق بالتنمر الإلكتروني.

ويركز هندوجا على صدمة الطفولة، والمعروفة أيضًا باسم الأحداث السلبية في مرحلة الطفولة، والتي يمكن أن تؤثر في نمو الأطفال. وفي حين أن البعض يتمتع بالمرونة ويمكنهم التغلب على محنتهم، إلا أن البعض الآخر يعاني من أعراض سلوكية إشكالية.

كما يؤكد ذلك الحاجة إلى مهنيين لمواصلة دراسة بعض هذه المكونات النفسية والفسيولوجية الكامنة، والتي يمكن أن تؤدي إلى هذه المشكلات.

ومن خلال بحثه، وجد هندوجا أن هذه القضايا يمكن أن تظهر في التنمر عبر الإنترنت لعدد من الأسباب، مثل شعور شخص ما بالغيرة أو عدم الأمان. تشمل الأسباب الشائعة الأخرى لانخراط شخص ما في التنمر الإلكتروني، ضغطَ الأقران أو الحياةَ المنزلية المجهدة.

دور الكفاءة العاطفية في تحديد خطورة التأثير النفسي للتنمر الإلكتروني

وجدت دراسة أجرتها جامعة طوكيو على أكثر من 6 آلاف مراهق في اليابان أن ما يعرف بـ”الكفاءة العاطفية” عامل مؤثر في تحديد خطورة تأثير التنمر الإلكتروني.

وقام المؤلف الرئيسي للدراسة يوهي أورانو والأستاذ المشارك ريو تاكيزاوا والأستاذ هاروهيكو شيموياما من قسم علم النفس السريرى في جامعة طوكيو وفريقهم بالبحث في عوامل الحماية من الآثار الضارة للإيذاء الناتج عن التنمر عبر الإنترنت.

وحلل فريق البحث بيانات من عينة قوامها 6403 مراهقين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عامًا بواقع 1925 ذكرًا و4478 أنثى.

ويوضح أورانو أن الدراسة اختارت العينة من مستخدمي تطبيق للتواصل الاجتماعي، لأنه من المرجح أن يواجهوا تفاعلات عبر الإنترنت أكثر من غيرهم، واستكشفت الدراسات الاستقصائية حالات إيذاء ناجمة عن التنمر الإلكتروني، وأخرى ناجمة عن جانب من المعلومات الشخصية والاجتماعية، والتي سمحت لفريق البحث بالتحقق ممَّا إذا كانت القدرة على التعامل مع العواطف، والتي تسمى بـ”الكفاءة العاطفية”، مرتبطة بخطورة تداعيات التنمر الإلكتروني.

وتوصلت الدراسة إلى أن المهارات العاطفية العالية لم تكن مرتبطة دائمًا بالتمتع بحالة أفضل من حيث الصحة النفسية، وقد تزداد الأمور سوءًا اعتمادًا على السياق الاجتماعي. ويعتمد ذلك على الكفاءة العاطفية لدى الفرد، والتي تعرف بأنها القدرة على تحديد العواطف وفهمها والتعبير عنها وتنظيمها واستخدامها.

وهنا تميِّز الدراسة بين الكفاءة العاطفية لدى الشخص، أي تعامله مع عواطفه، والكفاءة العاطفية بين الأشخاص، أي القدرة على التعامل مع عواطف الآخرين.

وتشير الدراسة إلى أن الكفاءة العاطفية بين الأشخاص أدت إلى تخفيف وطأة آثار التنمر عبر الإنترنت، لأن القدرة على التعامل مع عواطف المرء من المعروف أن لها تأثيرًا إيجابيًّا على الصحة النفسية.

ويأمل الباحثون أن تمهد هذه الدراسة الطريق لإجراء المزيد من البحوث المطوَّلة حول الأدوار المختلفة للكفاءة العاطفية بين الأشخاص، سواء الآثار الإيجابية والسلبية التي قد تكون لديهم.

توصيات لمكافحة التنمر الإلكتروني وعلاج تداعياته

تتطلب المواجهة الفاعلة لظاهرة التنمر الإلكتروني، عدم التزام الضحية للصمت الذي يكون له تداعيات سلبية خطيرة على حالته النفسية وما يستتبع ذلك من آثار على السلوك والتفاعل مع المجتمع، وللتغلب على تلك الأزمة وتجاوزها نستعرض ثلاث خطوات رئيسية لطلب المساندة والدعم.

وتتمثل الخطوة الأولى في الاستفادة من عناصر التحكم الموجودة داخل التطبيقات والمواقع، مثل الحظر وكتم الصوت والإبلاغ. أمَّا الخطوة الثانية فهي تقديم بلاغات رسمية إلى شركات وسائل الإعلام الاجتماعية حتى تتمكن من بدء التحقيق.

والخطوة الثالثة تتمثل في تواصل ضحايا التنمر الإلكتروني مع شخص يثقون به في دائرتهم، مثل الوالدين أو المحامي، للتحدث عما حدث على الإنترنت، وعادة ما يكون هناك حلٌّ ما لديهم إذا تم اضطلاعهم بما يحدث.

وأخيرًا.. تتطلب معالجة المراهقين الذين يشاركون في أنشطة تنمر عبر الإنترنت وكذلك ضحايا التنمر الإلكتروني، تقييمات قياسية للصحة النفسية، فالأمر يحتاج إلى جهد مجتمعي مع المدارس والأطباء للعمل معًا لعلاج آثار التنمر الإلكتروني، وأيضًا للمساعدة في منعه.

زر الذهاب إلى الأعلى