تقارير

آيا صوفيا.. ورقة أردوغان لإنقاذ شعبيته المتهاوية

في القرن السادس الميلادي تم بناء كاتدرائية آيا صوفيا عند مدخل مضيف البوسفور في عهد الإمبراطورية الرومانية الشرقية “الدولة البيزنطية”، وكانت محطة لتتويج الأباطرة البيزنطيين، وظلت على هذا الوضع حتى مايو 1453 عندما استولى العثمانيون بقيادة السلطان محمد الثاني على القسطنطينية (إسطنبول حاليًّا) عاصمة الدولة البيزنطية، وقرر تحويل “آيا صوفيا” والتي تعني باليونانية “الحكمة المقدسة” إلى مسجد.

وفي عام 1935، قرر مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك تحويل آيا صوفيا من مكان للعبادة إلى متحف. وإلى اليوم، لا تزال آيا صوفيا في قلب معركة أيديولوجية قوية يخوضها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في إطار رغبة جامحة نحو السير على خطى العثمانيين ودغدغة المشاعر الدينية وتوظيفها لخدمة أغراض سياسية.

أردوغان يهرب من فشله السياسي والاقتصادي إلى وصية عثمانية

لقد كان تحويل الكنوز المعمارية في إسطنبول إلى مساجد وسيلة للتقرب من القوميين والإسلاميين الأتراك منذ عقود. وهو توجه عارضه اليونان والليبراليون الأتراك بنفس الحماس، والذين يجادلون في أن الخطوة تنطوي على إهانة لتاريخ الأقلية المسيحية في البلاد وتضعف الطابع العلماني للجمهورية.

وبينما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متعاطفًا مع الفكرة، إلا أنه نأى بنفسه عن النقاش العام حول تلك القضية حتى العام الماضي، فمنذ ذلك الحين أعرب عن دعمه الكامل لإعادة آيا صوفيا كمسجد، في محاولة لصرف الانتباه عن فشله على الصعيدين السياسى والاقتصادى، وتراجع الدعم الشعبي بين قاعدة الناخبين المحافظين في حزب العدالة والتنمية.

وبعد 18 عامًا من وجوده في السلطة، ستكون هذه الخطوة هي الرسالة الأكثر وضوحًا من أردوغان حتى الآن للمنتقدين في الداخل والخارج على حدٍّ سواء، وتشير لابتعاد تركيا بشكل حاسم عن تحالفاتها مع الغرب سعيًا وراء قدر أكبر من العثمانية الجديدة.

وفي مقابلة متلفزة خلال مايو الماضي، عندما سئل أردوغان عن الغضب اليوناني بشأن القرار المحتمل، لجأ الرئيس التركي لاستخدام عنصر أساسي من مجموعة أدواته الخطابية، عبر تأطير القضية كمسألة سيادة وطنية، قائلا بلهجة استنكارية: يجرؤون على إخبارنا بعدم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. هل تحكم تركيا، أم نحن؟

واعتبر أردوغان أن تحويل آيا صوفيا، إلى متحف كان “خطأ كبيرا جدا”.

كما اعتبر وزير العدل التركي عبد الحميد غُل أن مسألة صرح “آيا صوفيا” خاضعة لسيادة الجمهورية التركية، بل إنه وصف الخطوة المرتقبة بأنها “كسر قيود آيا صوفيا” وتنفيذ لـ”وصية السلطان محمد الفاتح”.

أحكام قضائية سابقة تمهد الطريق لفرض إرادة أردوغان.. والسيادة ذريعة أمام العالم

وعلى مدى السنوات الماضية، تم رفع دعاوى قضائية لتغيير وضع المتحف وفشلت، ومن المقرر أن يصدر مجلس الدولة التركي قرارًا نهائيًّا بشأن دعوى قضائية تتعلق بوضع آيا صوفيا، ومن المتوقع أن يحكم لصالح إعادته تراثًا إسلاميًّا بالكامل، إذ توجد العديد من السوابق القانونية خلال السنوات القليلة الماضية تشير إلى أن الحكم سيلبِّي رغبة أردوغان.

في عام 2019، قضى مجلس الدولة بإلغاء تحويل تشورا، الكنيسة البيزنطية الأخرى في إسطنبول إلى متحف، وكانت تشورا قد مرت -على غرار آيا صوفيا- بتحولات عديدة من كينسة إلى مسجد ثم متحف، كما تم إعادة مبانٍ ذات تاريخ مماثل في إزنيق وطرابزون إلى مساجد في أعوام 2011 و2013 على التوالي.

كانت هناك العديد من الدلائل على أن آيا صوفيا هي التالية، ففي السنوات الأخيرة، تم استخدام المبنى في تلاوة آيات القرآن الكريم قبل التدخل العسكري نحو سوريا، وفي ظل حكومة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، أصبحت الاحتفالات بـ”يوم الفتح” في إسطنبول -الذكرى السنوية لانتصار محمد الثاني على البيزنطيين- أكثر توسعًا كل عام، مصحوبة بقراءة للقرآن الكريم في آيا صوفيا عبر مكبرات الصوت.

ويقول سينيم آدار، الباحث في الشأن التركي بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية إن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد ليس فقط مسألة تعبئة شعبية، بل تحفيز لخطاب الحرب حول الحاجة إلى حماية السيادة الوطنية، وهو ما يجب التفكير فيه أيضًا في سياق التوتر المتزايد مع اليونان منذ العام الماضي، بسبب حزمة من القضايا من بينها مصير قبرص المنقسمة وتدفقات اللاجئين وحقوق النفط والغاز المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط.

وأوضح سينيم أن الحكم بتحويل آيا صوفيا سيعزز أيضًا التصور الموجود بالفعل داخل أوروبا بأن تركيا تتصرف من جانب واحد ولا تلتزم بالمعايير والمؤسسات الدولية.

ويرى البطريرك المسكوني بارثولوميو المقيم في إسطنبول، وهو الزعيم الروحي لنحو 300 مليون مسيحي أرثوذكسي في العالم أن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد سيثير غضب ملايين المسيحيين حول العالم.

وتضيِّق تركيا على الأقليات الدينية ورموزها كما هو الحال مع الأقليات العرقية، حيث تستهدف أنقرة بطريرك الروم الأرثوذكس بتهمة التعاون مع حركة الخدمة التي يتزعمها الداعية الإسلامي التركي فتح الله غولن، وهو ما ينفيه البطريرك.

ووجهت تركيا في السابق تهمًا بالخيانة وربط صلات بجماعة غولن لعدة زعماء لأقليات دينية إضافة إلى سياسيين ورجال أعمال مناوئين لسياسات أردوغان.

دعوة أمريكية لعدم تغيير وضع المتحف.. ومطالبة يونانية بتدخل اليونيسكو

دعت الولايات المتحدة الحكومة التركية إلى مواصلة الحفاظ على وضع آيا صوفيا في إسطنبول كمتحف، حيث أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أهمية الحفاظ على آيا صوفيا كمتحف، بوصفه تجسيدًا لالتزام تركيا باحترام التقاليد الدينية والتاريخ الغني، والبقاء منفتحةً على الجميع.

وشدد بومبيو على أن الولايات المتحدة ترى أي تغيير في الوضع بمثابة تهميش لإرث هذا المَعْلَم الرائع.

وقبل نحو أسبوع، حذر تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية لعام 2020 من تصاعد الانتهاكات الدينية في تركيا، حيث شهد العام الماضى زيادة في عمليات استهداف الأقليات الدينية وتصاعد العنف المجتمعي بحق أتباع الديانات الأخرى.

وكشف التقرير أن الحكومة تواصل التدخل في الشؤون الداخلية للطوائف الدينية، من خلال منع انتخاب أعضاء مجلس الإدارة لمؤسسات غير مسلمة وإدخال قيود جديدة على الانتخابات للكنيسة الأرمنية. كما تطرق التقرير إلى العبارات المعادية للسامية التي يطلقها المسؤولون الحكوميون الأتراك.

وأشار تقرير وزارة الخارجية الأمريكية إلى ما تواجهه المواقع الدينية والثقافية الأرمنية والآشورية واليونانية، والمقابر الخاصة بهم من أضرار بالغة سنة 2019.

كما ناشدت وزارة الثقافة اليونانية الأسبوع الماضي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) التدخلَ بشأن قرار تركيا الوشيك الذي يستهدف مبنى مصنَّفًا ضمن مواقع التراث العالمي، قائلة إن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد ينتهك الاتفاقيات التي وقعتها أنقرة بشأن الوضع الدولي للمبنى.

وعلى الرغم من حقيقة أن الحكم المرتقب حول مصير آيا صوفيا لم يصدر بعدُ، فقد أفادت تقارير أن أردوغان أمر بالفعل مجلسه الاستشاري بوضع خطط لعقد الصلوات الأولى في المبنى في 15 يوليو، والذي يوافق الذكرى السنوية الرابعة لمحاولة الانقلاب العسكري ضد حكومته.

وآخر مرة تحدث فيها أردوغان في آيا صوفيا كانت في 29 مايو، ذكرى انتصار محمد الثاني، المعروف باللغة التركية العثمانية باسم الفاتح سلطان محمد، قائلا: “سنترك وراءنا تركيا تليق بسلفِنا الفاتح”.

وبلا شك فإن هذا التصريح يقدم رؤية واضحة لا تحتمل أي تأويل لما يأمل أردوغان في تحقيقه وعنوانًا عريضًا لأهداف العثمانيين الجدد.

زر الذهاب إلى الأعلى