أثار مشروع بناء سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل أزمة ممتدة على مدى العشر سنوات الأخيرة بين مصر والسودان وإثيوبيا، وتخلَّلت تلك الفترة العديد من جولات التفاوض السياسية والفنية في العواصم الثلاث، القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، ومع تعقُّد المشهد دخلت الولايات المتحدة مباشرةً على الخط باستضافتها ورعايتها محادثات بين الدول الثلاث في واشنطن التى انطلقت في 6 نوفمبر 2019 وحتى 28 فبراير الماضي، غير أن شأنَها شأنُ باقي المحطات التفاوضية، لم تُحرز تقدُّمًا في تسوية ذلك النزاع المتصاعد.
واتخذت الأزمة منحًى أكثر صعوبة خلال الأيام القليلة الماضية مع تصريحات إثيوبية حول المضي قُدُمًا في بدء ملء خزان السد في الأول من يوليو المقبل، زاعمة أنه لا يوجد ما يقيِّد حركتها أو يلزمها بالتوصُّل إلى اتفاق مع دولتي المصب (مصر والسودان) حول تلك الخطوة بدعوى أنها جزء من البناء المقرر للسد.
وكانت تلك التصريحات كفيلة بنقل الملف من مستوى المشاورات الثلاثية إلى مجلس الأمن الدولي، وهو ما حدث بناءً على تحرُّك مصري ضمن مرحلة جديدة من تحرُّك متدرِّج من جانب الدولة المصرية للتصدِّي لتلك الأزمة.
الانفتاح المصري والتعنُّت الإثيوبي سمة دائمة لجولات التفاوض
شاركت مصر بحسن نية في جولاتٍ تفاوضيةٍ لا حصر لها، لمدة عقد تقريبًا بشأن سد النهضة الإثيوبي، بَيْدَ أن هذه الجهود لم تثمر نتيجةً بسبب النزعة أحادية الجانب لإثيوبيا، ورغبتها في فرض أمرٍ واقعٍ على دولتي المصب. وكانت جولة واشنطن محطة مفصلية، وفيها وقَّعت مصر بالأحرف الأولى، على اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة برعاية الولايات المتحدة ومشاركة البنك الدولي، من منطلق أنه اتفاق يراعي مصالح الدول الثلاث واعتبارات العدالة، كما يأخذ الحالة الهيدرولوجية لمياه النيل في الاعتبار، والقضايا البيئية والاجتماعية المرتبطة بملء السد وتشغيله، وآلية للتنسيق الدوري المشترك فيما بين الدول الثلاث على المستويين الوزاري والفني للإشراف على تنفيذ الاتفاق.
لكن السودان أبدى تحفُّظًا على الاتفاق، بينما رفضتْه إثيوبيا رفضًا قاطعًا، مما أصاب المسار التفاوضي بالجمود لعدة أشهرٍ، حتى بدأ السودان مساعيَ لعقد جولة جديدة، انطلقت بالفعل في مايو الماضي، تضمَّنت 7 اجتماعات على مدار أسبوع وانتهت كسابقاتها، في ظل تعنُّت الموقف الإثيوبي وإصرار على بدء ملء خزان السد حتى من دون التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان.
ولا يمكن فهم الموقف الإثيوبي بمعزل عن اعتبارات الداخل، فأيُّ تنازلٍ الآن سيكون مكلِّفًا سياسيًّا لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، الذي يواجه فترة صعبة قبل الانتخابات العامة التي تم تأجيلُها لظروف وباء كورونا من أغسطس المقبل إلى وقت لاحق في العام المقبل. وتأمل إثيوبيا في جمع ما لا يقل عن 4.9 مليار متر مكعب من المياه خلال شهري يوليو وأغسطس. سيكون الحجم في مرحلة التعبئة الأولى هذه كافيًا لبدء أول توربينين في منتصف عام 2021.
التوجُّه إلى مجلس الأمن.. خطوة مصرية لاستئناف المفاوضات وإنهاء المراوغة الإثيوبية
بدأت مصر في التحرُّك عبر عدة مسارات سياسية دبلوماسية لمجابهة ذلك التحدي الذي يجابه الأمن المائي وهو أحد أهم محاور الأمن القومي المصري، دون أن تستبعد في الوقت ذاته اللجوء لأي خيارات أخرى.
وأول محاور التحرُّك في التوجُّه بخطاب إلى مجلس الأمن الدولي في 20 يونيو الجاري، يشدد على أن ملء وتشغيل إثيوبيا لسد النهضة يمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، لتضع مصر بذلك مجلس الأمن أمام مسؤولياته.
وتشير كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال تفقُّده وحدات القوات المقاتلة التابعة للقوات المسلحة بالمنطقة الغربية العسكرية، السبت الماضي، إلى فلسفة الإدارة المصرية لتلك الأزمة ومنطلقاتها، فقد تضمَّنت الكلمة 3 رسائل مهمة يمكن استخلاصُها على النحو التالي:
– رسالة إلى المجتمع الدولي، حيث التأكيد على أن توجُّه مصر إلى مجلس الأمن يهدف للمُضِيِّ في السلوك السياسي والتفاوضي حتى نهايته.
– رسالة إلى الشعب الإثيوبي، بتفهُّم حاجته للتنمية، لكن أن تتم وفقًا لقاعدة أساسية وهى “لا ضرر ولا ضرار”.
– دعوة للقيادة الإثيوبية للتحرك بقوة من أجل إنهاء التفاوض والوصول إلى اتفاق، يبرز قدرة (الدول الثلاث) كدول عاقلة ورشيدة في الوصول إلى اتفاقيات تحقق المصلحة للجميع.
وبحسب مراقبين وخبراء في القانون الدولي يملك مجلس الأمن 6 خيارات للتعامل مع طلب مصر، تتمثَّل في الآتي:
– إصدار توصية بالعودة إلى المفاوضات.
– تشكيل لجنة فنية للفصل في الأمور المختلَف عليها.
– إصدار قرار ملزِم بوقف ملء السد لحين إبرام اتفاقٍ يُرضي الجميع.
– إصدار قرار يضع إثيوبيا في موقف الدولة المنتهِكة للقانون الدولي.
– فرض عقوبات سياسية واقتصادية على إثيوبيا حال حدوث تهديد للأمن والسلم الدوليين.
– إحالة الملف إلى محكمة العدل الدولية باعتباره خلافًا قانونيًّا بعد فشل المفاوضات.
وفي هذا الإطار، أكد وزير الخارجية المصري سامح شكري أنه إذا لم يستطع مجلس الأمن إعادة إثيوبيا إلى المفاوضات ومنعَها من بدء ملء السد بشكلٍ أحاديٍّ، ستصبح مصر في وضع يتعيَّن عليها التعامُل معه، مع التأكيد على أن القاهرة ستكون واضحةً للغاية في الإجراء الذي ستتخذه.
ويحمل ذلك التصريح رسالةَ تحذيرٍ واضحةً من عواقب تلك الخطوة، لا سيما مع اتهام وزير الخارجية المصري للمسؤولين الإثيوبيين بإذكاء العداء بين البلدَيْن، في تطوُّرٍ لافتٍ للهجة الخطاب المصري الرسمي.
اصطفاف عربي وتأييد دولي للموقف المصري من الأزمة
سعت الدبلوماسية المصرية إلى خلق اصطفاف عربي واسع خلف موقف القاهرة والخرطوم من الأزمة مع إثيوبيا، وهو ما بدا واضحًا عبر إثارتها للقضية داخل أروقة جامعة الدول العربية، وقد تكللت تلك الجهود في 4 مارس الماضي، بإصدر مجلس الجامعة قرارًا في ختام دورته الـ153، يؤكد حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، ويرفض أيَّ إجراءات أحادية إثيوبية.
كما رحب القرار في حينها باتفاق ملء سد النهضة الذي تم التوصل إليه في جولات التفاوض في واشنطن، مشددًا على أنه عادل ومتوازن ويحقق مصالح البلدان الثلاثة، مع حثِّ الدول العربية على اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإقناع إثيوبيا بالتوقيع على الاتفاق.
وتظل الدائرة العربية مساحةً مهمةً لتحرك الدبلوماسية المصرية في تعاطيها مع ملف سد النهضة، حيث دعت مصر إلى عقد اجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية العرب لمناقشة تطورات الأزمة الراهنة، إذ تسعى القاهرة من وراء تلك الخطوة إلى إحداث زَخْمٍ دبلوماسيٍّ وتنسيق لجهود المجموعة العربية في الأمم المتحدة لدعم الموقف المصري لا سيما أن المسار الراهن يُنذر بمزيد من التصعيد.
كما تحظى حقوق مصر في قضية مياه النيل بغطاء قانوني شرعي تؤكده قواعد القانون الدولي المنظمة لاستخدام مياه الأنهار الدولية، وأيضًا بدعم من المجتمع الدولي، اتضحت العديد من المؤشرات عليه، حيث توجّه الخطاب الدولي نحو الطرف المتعنِّت، ألا وهو إثيوبيا، ومن أمثلة ذلك مطالبةُ مجلس الأمن القومي الأمريكي إثيوبيا عقب فشل جولة المفاوضات الفنية الأخيرة بإظهار روح قيادية قوية، بإبرام “اتفاق عادل بشأن سد النهضة قبل البدء في الملء الأول للسد.”
كما أكد ديفيد مالباس رئيس مجموعة البنك الدولي، في اتصال مع رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، أهمية الحفاظ على “الحوار البنَّاء” مع الدول المجاورة بشأن مشاركة المياه، وذلك بالنسبة للموافقات اللازمة من البنك لتمويل السد.
دور المجتمع الدولي في تحريك المفاوضات.. والضمانات المطلوبة من إثيوبيا
يتضح مما سبق أن فشل المفاوضات المتكررة بشأن سد النهضة يرجع إلى سياسة إثيوبيا الثابتة في المراوغة والعرقلة، فكل ما تريده القيادة الإثيوبية هو الاحتفاظ بالحق الحصري في التحكم الكامل في تدفُّق مياه النيل كهدف استراتيجي تاريخي، تحت غطاء توليد الطاقة الكهرومائية وتنمية البلاد.
وسيكون المُضي قُدُمًا في إجراءات الملء والتخزين دون التفاهم مع دولتي المصب، بمثابة شهادة وفاة صريحة للمسار التفاوُضي، إذ إنه يقينًا عملٌ من أعمال العدوان الذي يعطي الحق للدولة أو الدول المتضررة في الدفاع المشروع عن نفسها بموجب المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة.
وأخيرًا يبقى السبيل لإحداث حلحلة لتلك الأزمة المتفاقمة وتجنُّب الوصول إلى حد الصدام العسكري، تدخُّل المجتمع الدولي لممارسة ضغوط على الطرف الإثيوبي المتعنِّت للعدول عن مواقفه، وجعل قضية تنمية حوض النيل محورًا لتعزيز السلام والأمن في إفريقيا.
وفي هذا الشأن على أديس أبابا أن تبرهن على تلك المرونة في موقفها التفاوضي عبر تقديم مقترحات تفصيلية حول تدابير تخفيف آثار الجفاف في مختلف الظروف الهيدرولوجية لمعالجة مخاوف دولتي المصب، بما في ذلك كيفية إدارة فترة سنوات الجفاف المتتالية، يقوم على تحمُّل انخفاض معدلات تخزين المياه في السد أثناء فترات الجفاف من أجل طمأنة جيرانها والوصول إلى اتفاق.