لم تكن مقاطعة دول الأربع ، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، لقطر في 5 يونيو 2017 هدفًا في حدِّ ذاتها، بقدر ما كانت وسيلةً لإجبار النظام الحاكم في الدوحة على مراجعة مواقفه وسياساته المعادية، والعدول عنها بعدما فشلت محاولاتهم الودية المتكررة، وكان آخرها توقيع اتفاقَي الرياض 2013، والرياض التكميلي 2014، واللتان مثّلتا اعترافًا صريحًا ومعلَنًا من النظام القطري على خطاياه بحق دول المنطقة، والتزامًا منه بالعودة إلى الحاضنة العربية والحفاظ على أمن واستقرار دولها. إلا أنه كالعادة حنث بوعوده والتزاماته المتفق عليها.
استمر تنظيم الحمدين في المراوغة والمماطلة ظنًّا منه أنه يستطيع خداع الدول العربية طوال الوقت، أو أن هذه الدول، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، لن تُقدِم على اتخاذ إجراء عقابي تُجاهَه، آمنًا لصبر المملكة، إلا أن صبر السعودية -ومعها الدول العربية الأخرى- قد نفد، وأصبح من الضروري الحفاظُ على أمن وسلامة الوطن والمواطنين.
لذلك شكّل قرار المقاطعة مفاجأةً صادمةً للنظام القطري، جعلته يُخطئ التقدير مرةً أخرى في مدى جدية الدول العربية، فراهن على عامل الوقت. ولم يفطن إلى التغير الذي طرأ حتى على لغة خطاب الدول الأربع، والتي وضعت مجموعة من المطالب تحولت فيما بعد إلى شروط واجبة التنفيذ قبل اتخاذ قرار بعودة العلاقات مع الدوحة.
فما السيناريوهات المتوقعة مع حلول الذكرى الثالثة لقرار الدول العربية الأربع؟
للإجابة عن هذا التساؤل، يجب الإشارة إلى مجموعة من المعطيات:
أولًا: أسباب المقاطعة
تعددت الأسباب التي دعت الدول العربية إلى مقاطعة النظام الحاكم في الدوحة، حددتها في مجموعة من الشروط الواجب تنفيذُها فعليًّا كسبيلٍ وحيدٍ لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع قطر، منها التوقف عن دعم واحتضان وتمويل التنظيمات الإرهابية، وقطع اتصالاتها مع العناصر المعارضة للدول الأربع والتي تستهدف الإضرار بمصالح هذه الدول، وتفعيل اتفاقي الرياض 2013 والرياض التكميلي 2014، ووقف الحملات الإعلامية التحريضية ضد الدول العربية والتي تقوم بها القنوات التابعة للدوحة، وعلى رأسها قناة الجزيرة، وتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
إلا أن تنظيم الحمدين لم يُنفذ أيًّا من الشروط العربية التي وضعتها دول المقاطعة لحماية مصالحها وأمنها القومي، ليس هذا فحسب، بل تمادَى النظام القطري في سلوكه العدائي بحق هذه الدول، فصعّدت قناة الجزيرة، ومن على شاكلتها في خطابها التحريضي ضد الدول الأربع وحاولت تشويهها والتطاول على رموزها، واستمرت الدوحة في تسخير وسائل الإعلام المُموَّلة من قِبَلِها كمنابرَ للشخصيات المعادية لهذه الدول، كما عززت من علاقاتها مع نظام الملالى في طهران، واستقدمت عناصر الحرس الثوري إلى أراضيها، فضلًا عن عناصر من القوات المسلحة التركية، حيث تضم قطر قاعدتين عسكريتين تركيتين الأولى قاعدة الريان، يوجد فيها 90 جنديا تابعون لفرقة طارق بن زياد التركية برفقة مدرعاتهم، والثانية قاعدة خالد بن الوليد التى تم افتتاحها في ١٤ ديسمبر الماضى.
وإمعانًا منها في سياساتها العدائية تجاه الرباعي العربي، تُؤيد الدوحة ومن خلفها آلتُها الإعلامية مواقف جميع الأطراف المعارضة لهذه الدول، فعلى سبيل المثال تتبنَّى وتدعم موقف ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران ضد التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بقيادة السعودية، وتدعم حكومة فايز السراج والميليشيات الموالية له في ليبيا، وتؤيد إرسال تركيا قوات عسكرية ومرتزقة لدعمه بشكلٍ يُمثل تهديدًا لسلامة ليبيا ووحدة أراضيها ومقدَّرات شعبها وثرواتها، وكذلك تهديد الأمن القومي المصري بشكلٍ خاصٍّ والأمن القومي العربي بوجه عام، كما أنها قامت بالترويج لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني الذي قُتل في عملية عسكرية أمريكية وتصويره على أنه بطل مجاهد، متجاهلةً دوره التخريبي وتسبُّبَه في وقوع آلاف الضحايا ما بين قتيل وجريح ومشرَّد في العراق وسوريا واليمن.
ثانيًا: موقف الطرفين
1- بالنسبة لدول المقاطعة
يُعتبر موقف الرباعي العربي واضحًا ومُحددًا ومبدئيًّا، يمكن تلخيصُه في الإصرار والتصميم على أنه لا سبيلَ لعودة العلاقات إلا بتنفيذ الشروط الـ13 كاملةً غيرَ منقوصةٍ مهما طال أمدُ المقاطعة.
وقد تأكد بما لا يدع مجالًا للشك، ثباتُ وتوحُّد موقف الدول العربية الأربع، كما تأكد أيضًا تجاوزهم لقرار المقاطعة، وأصبح بالنسبة لها أمرًا مفروغًا منه، ومن الدلائل الواضحة على ذلك، تجاهُلُهم لذكر هذا الموضوع، فلم يعد بندًا من الأساس على جدول أعمال هذه الدول.
2- بالنسبة لقطر
إن الموقف القطري يُعاني من التخبُّط، ففي الوقت الذي يُجاهر بأنه لم يتأثر بقرار المقاطعة، نجده يستجدي استعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية وتحديدًا الخليجية، فقد مثّل قرارُ المقاطعة انتكاسةً حقيقيةً للنظام الحاكم في الدوحة، رغم ادعاءاته المستمرة بغير ذلك، فلا تكاد تمرُّ مناسبةٌ إلا ويتعرض فيها المسؤولون القطريون لـ”الأزمة الخليجية”- كما يُطلقون عليها- .
وتعتمد الدوحة على مجموعة من الأساليب في إدارتها لهذا الملف، منها:
- محاولة تفكيك موقف الرباعي، فمن جانبٍ حاولت استمالةَ المملكة العربية السعودية ليكون الحلُّ ثنائيًّا، ومن جانبٍ آخرَ سعتْ إلى استبعاد مصر، وتأطيرِ الوضع على أنه أزمة بين الدول الخليجية، ولذلك تُحاول تثبيت مسمى “الأزمة الخليجية”، لكنها فى واقع الأمر أزمة قطرية بامتياز، فخلال السنوات الماضية تكبَّدت قطر خسائر اقتصادية كبيرة تمثلت في انخفاض أسعار العقارات وخسائر طالت شركة طيرانها الوطنية.
- يسعى النظام القطري إلى إفراغ القرار من مضمونه، فمسمى “الأزمة الخليجية” يُشير إلى اختلافٍ في وجهات النظر السياسية، بينما حقيقةُ الأمر هو أن تنظيم الحمدين يهدف إلى الإضرار بالدول العربية الأربع ويعمل على تهديد أمنها القومي، وبالتالى لا توجد فرصة للمساومة أو التفاوض، إمَّا التوقفُ عن السياسات العدائية وإما استمرارُ المقاطعة.
- ما زالت الدوحة ماضية في أسلوب المماطَلة والمراوَغة في محاولات الوساطة كالتي قامت بها دولة الكويت الشقيقة ظنًّا منها أن عامل الوقت كفيلٌ بإنهاء المقاطعة.
- تُحاول قطر كسبَ تعاطف وتأييد المجتمع الدولي، من خلال ادعاءات وتوصيفات مغلوطة لقرارات دول الرباعي العربي تجافي تمامًا الواقع، ولعل أكبر دليل على ذلك هو عدم تمكُّن نظام الحمدين على مدار 3 أعوام من تحقيق أي تقدمٍ أو انتزاع أي تأييد دولي للموقف القطري فى الأزمة، كما يعكس ذلك الأمرُ -بالقدر ذاته- مدى الحكمة والإدارة الرشيدة التى تتحلى بها دول الرباعي ودقة حساباتها لخطواتها السياسية وإجراءاتها العملية وتوافقها الكامل مع ما يكفله لها القانون الدولي من مساحات للحركة.
- تتعمد الدوحة إثارة قضية المقاطعة بشكلٍ مستمرٍّ، خاصة في ظل تجاهل الرباعي العربي لها، وذلك بهدف وضعِها في دائرة الضوء بشكلٍ دائمٍ، واستجداء أي مساعٍ للوساطة والتدخُّل.
ثالثًا: رِهانات الطرفين
في الوقت الذي تعتمد فيه الدول العربية الأربع على قدراتها الذاتية، وينطلق موقفها من قناعاتها وإراداتها الحرة، نجد أن تنظيم الحمدين رهن موقف قطر بأطرافٍ خارجيةٍ تختلف في الأيديولوجيا ولكنها تشترك في الهدف المتمثل في النيل من الدول العربية، وعلى رأس هذه الأطراف كلٌّ من إيران بمشروعها الطائفي، وتركيا بأحلامها التوسعية.
يجمع الدولَ الثلاثَ مشروعٌ مشترَكٌ في الهدف وهو تفتيتُ الدول العربية وزعزعةُ أمنها واستقرارها وإضعافُ مؤسساتها، إلا أنها تختلف وربما تتصارع في الوسيلة، فبينما تسعى إيران لبسط نفوذ أذرعها الشيعية المسلحة، فإن تركيا تستهدف إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة من بوابة دعم المشروع الإخواني، وعلى الرغم من توحد الهدف المرحلي والقائم على هدم الدول العربية، فإن المشروعين متحاربان مذهبيًّا، كما أن الصراع بينهما على النفوذ وبسط السيطرة ليس بخفيٍّ، وهو ما تعكسه معاركُ وحروبٌ بالوكالة بين تنظيماتهما وأذرعهما العسكرية في الساحة السورية على سبيل المثال، ولكن كلًّا منهما وجد في تنظيم الحمدين الشريك الأمثل الذي رحب بفتح بلاده لتكون معبرًا ينفذون منه إلى الوطن العربي، فهو تنظيم يسير على درب الخيانة.
إن علاقة هذا التحالف هشَّةٌ، قائمةٌ على الاستغلال، وكلُّ طرفٍ يسعى إلى استغلال الطرف الآخر، فالدوحة تستعين بإيران وتركيا من أجل حماية النظام الحاكم، وفي المقابل تُحاول طهران وأنقرة الحصول على أكبر استفادةٍ مادية من قطر، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور فيهما.
فعلى سبيل المثال، أبرمت تركيا مع قطر مؤخرًا اتفاق مبادلة عملة تحصُل بموجبه من الدوحة على 15 مليار دولار، في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم في تركيا.
سيناريوهات مستقبل المقاطعة
ووفقًا للمعطيات السابقة، يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات لمستقبل هذه المقاطعة، وهي:
تنفيذ الدوحة للشروط الـ13 التي حددها الرباعي العربي، وهذا السيناريو صعب الحدوث على الأقل في الوقت الراهن، وذلك لأن تنظيم الحمدين لا يمتلك الإرادة السياسية للعدول عن سياساته المارقة المرتهنة بأطرافٍ خارجيةٍ.
كما أنه قد يلجأ إلى أسلوب الخداع كعادته، والإيحاء بتقبُّل بعض الشروط ظاهريًّا، خاصة مع اقتراب موعد بطولة كأس العالم 2022م والذي يحتاج فيها إلى فتح أجواء الطيران وإلا قد تُصبح إمكانية إقامتها في قطر صعبةً للغاية، ولكن هذا الأسلوب سيفشل أيضًا أمام إصرار وتصميم الدول العربية الأربع.
حدوث تطوُّرٍ جوهريٍّ في الداخل القطري، يستَتْبِعُه إجبارُ النظام الحاكم على تغيير سياساته الخارجية، أو الإطاحة بتنظيم الحمدين نفسه. ولكن هذا التطور لن يتمَّ إلا برغبةٍ داخليةٍ قطريةٍ، وقد يلجأ إليها المواطن القطري مضطرًّا نتيجة ممارسات النظام الحاكم التي تسببتْ في العداء مع العديد من الدول العربية، واستقدمت القوات التركية والإيرانية التي تتعامل مع الشعب القطري بتعالٍ وتكبُّرٍ، وتنتهك حياتَه.
استمرار تنظيم الحمدين في غيِّه، الأمر الذي سيترتب عليه مواصلةُ المقاطعة مهما طال الأمدُ، وهو ما أكده ثباتُ وتوحُّد موقفِ الدول العربية المقاطِعة.