ترجمات

جائحة كورونا تحرِّك جهودَ إعادة تخطيط المدن حول العالم

بالقدر الذي تمثِّل فيه الأوبئةُ كارثةً مأساويَّةً فإنها تجسِّد مقولةَ أنَّ “المرض يشكِّل المدنَ”، فتاريخيًّا ساعد الطاعونُ الدبلي الذي قضى على ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر في ظهور التحسينات الحضرية الجذرية لعصر النهضة، كذلك ظهرت بعض الإدارات مثل مجلس لندن للأشغال الحضرية وأنظمة الصرف الصحي في منتصف القرن التاسع عشر استجابةً لأزمات الصحة العامة مثل تَفَشِّي الكوليرا.

وجاءت جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” لتهدد بتقويض حياة المدينة الحضرية، فقد أصاب الشلل مدنًا عملاقةً مثل مدينة نيويورك، وصارت تكافح ضدَّ الوباء في ظل وجود معدلات إصابةٍ عاليةٍ بالفيروس، كما أن تطبيق التباعد الاجتماعي يصعُب وجودُه في المدن، وهو ما أدَّى إلى فرار بعض سكان المدن أو التخطيط لمغادرتها قريبًا، ويبدو أن الوضع الجديد يتعارض مع سِمة المراكز الحضرية التي تتَّسِمُ بالكثافة السكانية، حيث تقرِّبُ أنشطةُ المدنِ الناسَ بعضَهم من بعض، ويعتمدون على الاستفادة من الخدمات العامة مثل المتنزَّهات ووسائل النقل العام والمكتبات والشواطئ.

 الإدارة الجيِّدة لمكافحة انتشار الوباء تكشف خُرافة الكثافة

نظرًا لأن المناطق الحضريَّة الكثيفة مثل مدينة نيويورك أصبحت نقاطًا ساخنةً لـفيروس كورونا، فقد نَدَّدَ عددٌ لا يُحْصَى من المقالات بخطورة الكثافة وتسبُّبِها في تفاقُم انتشار الجائحة، وقد ذهب بعض المعلِّقين إلى حدِّ القولِ بأنَّ الوباء يمكِنُ أن يضع نهايةً لـما يُعرف بــ”نهوض المدن rise of cities” ويُجبِرُ العديدَ من سكان الحَضَرِ على الانتقال إلى المدن الصغيرة والضَّواحي أو المناطق الريفية.

باستعراضِ أمثلةٍ من الواقع فإن الكثافة في حدِّ ذاتها لا تُعتَبرُ معيارًا يؤثِّر في ارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورونا، فمدينةٌ مثلُ نيويورك كثيفةٌ للغاية مقارنةً بمعظم المدن الأمريكية الأخرى، قد شهدتْ معدلاتٍ عاليةً من الإصابة بالفيروس، على عكس مدنٍ أخرى حولَ العالم تعاملت مع الوباء بشكلٍ أكثرً نجاحًا، فمثلا شهدتْ هونغ كونغ وسيول وسنغافورة وتايبيه عددًا أقلَّ مِن الإصابات والوفَيَات.

وسجلت مدينة نيويورك نحو 203 ألف حالةِ إصابةٍ بالكورونا، وأكثر من 23 ألفَ حالةِ وفاةٍ، في حين يبلُغ عدد سكان منطقتها الحضريَّة ما يقرب من 21 مليونَ شخصٍ، على الجانب الآخر فإن العاصمة الكوريَّة الجنوبيَّة “سيول” يبلغ عدد سكان منطقتها الحضرية أكثر من 25 مليون نسمةٍ وسجلت 862 حالةَ إصابةٍ و4 وفَيَات فقط وذلك حتى 1 يونيو 2020، وتعتبر كلٌّ من نيويورك وسيول مدينتين كثيفتين، لكنَّ استجاباتهم للفيروس كانت مختلفةً تمامًا، ففي كوريا الجنوبية تصرفت السلطات بسرعةٍ وحسمٍ لاحتواء المرض، بينما لم يَقُمِ الأمريكيون بذلك.

وبالنظر إلى داخل الولايات المتحدة فإن الكثافة لا تحدِّد مدى ضرر الفيروس على المجتمعات، ورغم أنه يوجد في مدينة نيويورك أكبرُ عددٍ من الحالات، لكلِّ 100 ألف شخصٍ من أي مدينةٍ كبرى في الولايات المتحدة، لكن عددًا من المدن الأمريكية الأقلِّ كثافةً بشكلٍ ملحوظٍ، مثل بافالو وديترويت وهارتفورد وإنديانابوليس كان معدلُ الإصابات لديها عاليًا، علاوةً على ذلك فإن 40% على الأقل من المدن الأمريكية الكبيرة لديها معدلاتٌ أعلى من الإصابة بالكورونا في ضواحيها الأقل كثافة مقارنةً بالأعداد المسجَّلة في النواحي الحضرية الأكثر كثافةً، حيث ترتبط معدلات الإصابة بعوامل مثل الاستعدادات الصحية العامة وليس وجودَ عددٍ معيَّنٍ من الأشخاص في كل كيلو مترٍ مربعٍ.

سكان المدن الحضارية يتمتَّعون بصحةٍ أفضلَ مِن نُظَرائهم في الضواحي والريف

خلال قرونٍ مضتْ جعل الخيال الشعبيُّ من المدن الكثيفة مراكزَ لتفشِّي الأوبئة، إلا أن أنماط الحياة الحضرية الحديثة فرضتْ أن تكون المدن الحضرية أكثرَ صحةً من نظيراتها في الضواحي والمدن الريفية، فمثلًا لدى سكان المدن الحضرية في أمريكا الشمالية معدلاتٌ أقلُّ من السِّمْنَة والوفَيَات بالمقارنة مع سكان الضواحي، نتيجةَ وجودِ ثقافةِ الاعتماد بشكلٍ أقلَّ على السيارات، وغالبًا ما يَمْشُون إلى العمل أو يستخدمون النقل العامَّ بدلًا من القيادة، وتتطلَّب تلك المدن أن يكونَ سكانُها نَشِطِينَ جسديًّا وهذا النشاطُ بدَوْرِه يقلِّل من خطر الإصابة بأمراض القلب والْتِهابِ المَفاصل والسُّكَّري.

من المفهوم أن الفيروس التاجيَّ الجديدَ يطرح جميع الإشكاليات حول الصحة العامَّة، لكنْ ربَّما التركيزُ أحاديُّ التفكير يحجُب رؤيةَ صورةٍ أكبرَ، حيث يميلُ الأمريكيون إلى العيش حياةً أطولَ وأكثرَ صحةً في المدن، وعادةً ما تسجِّل المجتمعات الريفية في الولايات المتحدة عمرًا أقصرَ نتيجةً لارتفاع معدلات أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، وبعض أنواع السرطان والسكري والألزهايمر وغيرِها، ووجَدَ تقرير عام 2019 المنشور في المجلة الأمريكية للصحة العامة أن التفاوت في معدلات الوفيات بين المجتمعات الريفية والحضرية ازداد من 77 حالة وفاة إضافية لكل 100 ألف شخص في عام 2004 إلى 135 حالة وفاةٍ لكل 100 ألف شخص في عام 2016.

تنتشر الأمراض المعدية بسهولة بين الأشخاص الذين يتجمَّعون معًا في أماكنَ متقاربةٍ، ومع ذلك فإن هذه الظروفَ ليستْ نتاجًا ضروريًّا للكثافة الحضرية، فلا ينبغي الخلطُ بين الكثافة والاكْتِظَاظِ المفرِط، الذي لا يعدُّ حالةً حضريةً بطبيعته، كما يمكن أن يحدث الاكتظاظ في أماكنَ مغلقةٍ، على سبيل المثال في السجون ومراكز التسوُّق بغضِّ النظر عن موقعها الجغرافي.

ويظهر الاكتظاظ في عدة مدنٍ في أمريكا الشمالية لأنهم خصَّصوا المساحات بشكلٍ سيئٍ، وأعْطَوْا الأولويَّةَ للسيارات على البشر، وعلى الرغم من أن العديد من المدن لديها ما يُعرَف بـمنطقة “وسط المدينة” حيث يميلُ السكان إلى المشي أو ركوب الدراجات، إلا أنه غالبًا ما توجد مناطقُ أقلُّ كثافةً حولَ المدينة في الضواحي، حيث يقود السكان سياراتهم الخاصة، حتى مدينة نيويورك التي تعتبر أكثرَ كثافةً من نظيراتها الأمريكية، تظهر فيها هذه الإشكالية مع وجود العديد من الأحياء في كوينز وجزيرة ستاتن وغيرها من الأحياء الخارجية التي تخدمها وسائل النقل العام بشكلٍ سيِّئٍ وتعتمد على استخدام السيارات الخاصة، وقد عَرَفَ تخطيطُ المدن في أمريكا الشمالية لفترةٍ طويلةٍ التطرُّفَ في الارتفاعات العالية للوحدات والتمدُّد الخارجي، حيث تحيطُ الضواحي منخفضةُ الكثافة بمركز مدينةٍ شاهقِ الارتفاع، ويُعتَبرُ أكثرُ من ربع مساحة المدن النموذجية في أمريكا الشمالية مخصصًا لنقل وتخزين السيارات، وهو تصميمٌ مَعِيبٌ، غالبًا ما يؤدي إلى الازدحام في مراكز المدينة.

 الوباء يقود إلى تغييرات ضرورية في مجال النقل الجماعي

أَلْهَمَ الوباءُ بعضَ المدن إجراءَ تغييراتٍ قد تؤدي إلى تحولاتٍ هادفةٍ ودائمةٍ، فمدينةُ ميلان الإيطالية على سبيل المثال خصَّصت بعضَ الأجزاء من الشوارع المزدحمة لتكون طرقًا للمشاةِ أثناءَ الوباء وأعلنت الآن خُطَطًا طموحًا لجعْل هذه التغييرات دائمةً، ويُعتبر القيامُ بذلك جيدًا ليس فقط لجودة حياة المدينة ولكن أيضًا لانبعاثات الكربون، فقبْلَ الوباء ركزت العديد من المدن على معرفة كيفية تحريك المزيد من السيارات بسرعةٍ أكبرَ، واعْتَبَرَ البعضُ المركبات المستقلَّةَ حلًّا ممكنًا لاختناق حركة المرور، وبدلًا من ذلك شجَّع الوباءُ المدنَ على تكييف طرقٍ للمَشْيِ وركوبِ الدراجات وهي طريقةٌ أرخصُ بكثيرٍ وفعَّالةٌ نسبيًّا لنقل المزيد من الأشخاص عبْرَ المدينة.

كانت الطريقة الأكثر فعاليَّةً وقابليَّةً للتوسُّع لنقل أعدادٍ كبيرةٍ من الناس عبر البيئات الحضرية الكثيفة دائمًا هي النقل العام، ولا تزال هذه الأنظمة حيويةً للحياة الحضرية، وفي الواقع أحدُ إغراءات المدن في الغرب هو أنها تسمح للسكان بالعيش دونَ عبءِ امتلاكِ سيارةٍ، حيث يؤدي تجمُّع الأشخاص إلى خَلْقِ المزيد من وسائل النقل العام، والذي يوفِّرُ جنبًا إلى جنبٍ مع المشيِ وركوبِ الدراجات أسلوبَ حياةٍ ميسورَ التكلفة ومنخفضَ الكربون.

ستصبح المدن المزدهرة والكثيفة غيرَ قابلةٍ للحياة بدون وسائل النقل العام، لكن هذا الوباء قد عطَّل النقلَ الجماعيَّ في مدنٍ مثل نيويورك، حيث انخفض معدل ركوب الحافلات ومترو الأنفاق، لأن الناس يلازمون منازلَهم أثناء الإغلاق، كذلك يفضِّل البعضُ عدمَ الوجود في المناطق المزدحمة، وتواجه وكالاتُ النقل العام في العديد من المدن أزماتٍ مزدوجةً استثنائيةً تتعلق بالثقة والاستدامة المالية، ويُتوقَّع أنْ تسجِّلَ هيئةُ النقل في مدينة نيويورك عجزًا قدرُه 8.5 مليار دولار.

وبتوفير أماكنَ للمشيِ وركوب الدراجات للمدن تكون الحركة أكثرَ مرونةً، لكنها ستظلُّ بحاجةٍ إلى النقل العام، فبعد اجتياز الوباء سيتعيَّنُ على الحكومات القيامُ باستثماراتٍ كبيرةٍ في هذه الأنظمة إذا أرادت استعادةَ القيادة والتعافي من خسائرها، وستساعدُ إضافةُ مساراتٍ جديدةٍ بما في ذلك تخصيصُ طرقٍ للإغاثة في الحدِّ من اكتظاظ المسارات الأكثر ازدحامًا كما يساعد اتخاذُ خطواتٍ أخرى في الحد من اكتظاظ الحافلات، وعربات الترام، ومترو الأنفاق لاستعادة ثقة الركاب.

 مدينة الـ”15 دقيقة” نموذجٌ يُحْتَذَى في المستقبل

الكثافة السكانية لا تعجِّل بالضرورة بحدوث اكتظاظٍ وتكدُّسٍ كبيرٍ، باستثناء الحالات التي فشلت المدنُ في احتوائها، ولا يزال بإمكان قادة المدينة تصحيحُ أخطاء الماضي واستعادةُ المساحة لخدمة صحة سكانهم، وقد ترشحت آن هيدالغو عمدة باريس مؤخرًا لإعادة انتخابها مع تعهُّدِها بتحويل العاصمة الفرنسية إلى ما يعرَف بـ”مدينة الـ15 دقيقة- 15-minute city” حيث يمكن للسكان تلبيةُ جميع احتياجات العمل والتسوق والترفيه عبر مسافاتٍ قصيرةٍ أو ركوب الدراجة.

يمكن أن تصبح المدن أكثرَ لُطفًا من خلال الاستفادة من تجربة باريس، من خلال تخفيف أنظمة تقسيم المناطق البلدية التي تفصل عادةً بين المناطق التجارية والسكنية، حيث تصبح المدن أكثرَ هدوءًا وأكثرَ إثارةً للاهتمام وأكثرَ استدامةً، كما يمكن أن يصبح الناس أكثرَ ثراءً من خلال النشاط التجاري والثقافي دون الاكتظاظ، من ناحية ثانية فإن إعادة النظر في قيود استخدام الأراضي يعتبر أمرًا ضروريًّا حتى لو كان تغييرُها يثير المعارضة، فقد يكون لإعادة التنظيم فائدة إضافية تتمثَّل في تشجيع الناس على التجوُّل بدون سيارات، في مدينة الـ15 دقيقة سيتمكَّن عددٌ أكبرُ بكثيرٍ من الناس من المشي أو ركوب الدراجة لشراء ما يحتاجون إليه وقضاء مصالحهم في وقتٍ قياسيٍّ.

وختامًا، لقد أظهرَ الوباءُ أن قرارات التخطيط الصحيحةَ للمدن التي تُخصِّصُ مساحاتٍ عامَّةً للمشاة، وأماكنَ للترفيه والتنزُّه، ترتبط ارتباطًا لا ينفَصِمُ بالصحة العامة والسعادة، وتكون المدن أكثرَ عُرْضَةً للأمراض المعدية نتيجةَ سوءِ التخطيط، كما يمكنُها أن تسعى إلى أن تصبحَ أكثرَ اتصالًا وأكثرَ مُلاءَمَةً للعَيْش وأكثرَ استدامةً وأقلَّ ازدحامًا من خلال تطبيق نماذج الكثافة المثالية.

زر الذهاب إلى الأعلى