أدى تنامي الدور الذي تلعبه الوسائط الرقمية والمحتوى البصري في العمليات الاتصالية خلال العقدين الماضيين إلى اتجاه العديد من البحوث الأكاديمية للاستعانة بمناهج تحليلية تناسب طبيعة ذلك المحتوى المليء بالتفاصيل الدقيقة والرموز ذات الدلالة فكان من الطبيعي أن يبرز الاعتماد على التحليل السيميائي الذي يركز على العلامات سواء أكانت لغوية أم أيقونية أم حركية ، فهو لا يقتصر على الشكل الظاهري، بل يتجاوزه إلى الطبقات العميقة للخطاب البصري، حيث تتفاعل الرموز والإشارات، والأيقونات، والفضاءات البصرية في إنتاج المعنى.
وقد وجدت هذه المقاربة حضورًا متزايدًا في الدراسات الغربية، التي شرعت منذ سبعينات القرن الماضي في استخدام أدوات التحليل السيميائي لفهم الرسائل الإعلامية لا سيما في السينما، والإعلان، والصحافة المصورة، والتلفزيون.
إلا أن هذا الاهتمام لم يجد ما يوازيه في البحث الإعلامي العربي، الذي ما زال يغلب عليه الطابع الكمي، ويعاني من قلة الدراسات الكيفية التي تستند إلى المقاربات السيميائية في تحليل الصورة الدرامية.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة البحوث الإعلامية في عددها الصادر في يوليو 2025 دراسة بعنوان “الاتجاهات الحديثة في بحوث ودراسات سيميائية الصورة الدرامية: دراسة تحليلية من المستوى الثاني”، من إعداد الدكتورة نادية قطب إبراهيم الأستاذ المساعد بقسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام للبنات بجامعة الأزهر، حيث نستعرض أبرز محاور تلك الدراسة على النحو التالي:
- عينة الدراسة
تألفت عينة الدراسة من 157 دراسة خلال الفترة الزمنية من 2013 إلى 2025 باعتبارها مرحلة شهدت نقلة نوعية في استخدام الرموز البصرية والدرامية في الوسائط الفنية والرقمية.
وتم اختيار العينة بطريقة عشوائية عبر مجموعة من قواعد البيانات الأكاديمية العالمية والمحركات البحثية المتخصصة وذلك لضمان شمولية وتنوع المصادر العلمية، واستندت عملية الاختيار إلى معايير أبرزها وجود لفظ “سيميائية” أو “Semiotics” في عنوان الدراسة أو ملخصها والاعتماد الواضح على المنهج السيميائي في التحليل والتركيز على الصورة أو الخطاب البصري في سياق درامي.
- أهم أسس الدراسات السيميائية في التحليل الدرامي والسينمائي
خلصت الدراسة بناء على تحليل الدراسات السيميائية عينة البحث إلى النتائج التالية:
– لغة الفيلم هي صورة علامة (Sign-Image) حيث يمكن للمحتوى الدلالي للعلامة أن يعكس أبعادًا متعددة من الصورة السمعية البصرية، ويتيح النهج السيميائي الكشف عن هذه المعاني الرمزية والمعقدة.
– أهمية العلامات والرموز في الفهم البشري والتواصل حيث تستخدم لنقل المعاني دون الحاجة للكلمات.
– الشفرة الثقافية كعنصر مهم في لغة السينما: تستخدم الرموز الثقافية كثيرًا للتعبير عن العلاقات بين المستويات المختلفة، وبالتالي لفهم الثقافة.
– الرمزية في الثقافة والحياة اليومية: توجد أنواع متعددة من الرمزية ليس فقط في الثقافة، بل حتى في حياتنا اليومية ومكوناتها، مثل الأفلام والأدب. وقد استخدمت العلامات في الكتابة منذ قرون، حيث توفر للقراء تجربة حسية، وتمكن الكتاب من نقل أفكار معقدة بأساليب بسيطة.
– “الاستعارة البصرية– Visual Metaphor” هي صورة تستخدم لتمثيل فكرة أو مفهوم عبر تشابه رمزي، وتعد أداة فعالة في التواصل البصري، إذ تستخدم في الأفلام، الإعلانات الأعمال الفنية، وغيرها من الوسائط لنقل معان عميقة بطريقة مجازية غير لغوية.
– دور اللون في البنية البصرية: الألوان قادرة على نقل رسائل متعددة، مثل العمق والإضاءة والتعبير عن وقت معين من اليوم، وإثارة استجابات عاطفية.
– تقنيات المنظور والضوء والظل كلغة تصويرية فنية تعبر عن الحالة النفسية والجمالية: فالزاوية المرتفعة تُظهر الجسم بشكل ضئيل مما يوحى بضآلة الشخصية وحقارة مكانتها. وعلى العكس تستخدم الزاوية المنخفضة لإعطاء رمزية عن قوة الشخصية ومدى سيطرتها على الموقف.
كما تعد نسبة الضوء إلى الظل عنصرا مهما آخر في اللغة السينمائية، حيث ينقل الضوء معلومات عن الشكل والحجم.
– السيميائية في تصميم الصوت: كان ينظر إلى الصوت من بين أمور أخرى، على أنه نوع خاص من المادة التعبيرية وعنصر من السيميائية “التركيبية في تقليد سيميولوجيا السينما. ووفقًا لهذا المنظور، تعتبر الأفلام نصوصًا مغلقة مكونة من رموز يمكن للجمهور فك شيفرتها، وأحد هذه الرموز هو رمز الصوت.
- أبرز توصيات الدراسات السابقة
أوصى الباحثون في المحور الأول بضرورة إدراج التحليل السيميولوجي كأحد المناهج الأساسية في دراسة الإعلام والاتصال الجماهيري لفهم التأثيرات الرمزية للصورة على المتلقي، مع تعزيز استخدامه في النقد السينمائي لفهم أبعاد الصورة السينمائية وتأثيرها في تشكيل الوعي الثقافي والجمالي.
كما شددت الدراسات على ضرورة تطوير المحتوى البصري والسمعي في دراما الأطفال والإفادة من التقنيات الحديثة لتحسين جودة الإنتاج وتعزيز تأثيره التعليمي والتربوي.
وأكدت الدراسات على أهمية تعزيز التحليل السيميولوجي للخطاب الفيلمي لفهم دور الصورة في تشكيل المعنى السينمائي، داعية إلى مزيد من الأبحاث حول تأثير العناصر البصرية في الدراما التاريخية، خاصة في السياقات الثقافية المتنوعة.
كما دعا الباحثون إلى تطوير مناهج تحليل الصورة الإعلامية لفهم أعمق لدورها في تشكيل الإدراك العام وتأثيرها على القيم والمعتقدات المجتمعية، وأوصت الدراسات بضرورة تعزيز الدراسات السيميولوجية للدراما التلفزيونية ودمج التحليل البصري مع الدراسات الثقافية والاجتماعية لفهم تأثير الخطاب البصري في تشكيل الرأي العام وعرض القضايا المجتمعية المُلحة.
واقترحت بعض الدراسات دمج التحليل السيميائي في النقد السينمائي، خاصة في الأفلام ذات الأبعاد الثقافية العميقة، مشددة على تأثير الألوان والإضاءة والموسيقى التصويرية على تجربة المشاهدة وإدراك الجمهور للرسالة السينمائية.
وأوصى الباحثون بإجراء مزيد من الدراسات الميدانية حول تأثير العناصر البصرية على إدراك الجمهور للمواد الترويجية، مع التركيز على كيفية تأثير تصميم الملصقات على قرارات المشاهدة وتحسين استراتيجيات التسويق البصري.
كما أوصت بعض الدراسات بتعزيز الأبحاث حول تأثير العناصر البصرية؛ لتحسين فاعلية العروض الدعائية في إيصال الرسائل السينمائية. ودعا باحثون إلى إجراء دراسات شمولية حول دور الإعلام الرقمي في تشكيل التصورات العالمية عن الثقافات المختلفة.
- الفجوات البحثية بين الدراسات العربية والأجنبية
أظهرت الدراسة أن هناك فجوة الكمية في الإنتاج البحثي حيث تكشف البيانات تفاوتًا كبيرًا في كمية الدراسات بين السياقين العربي والأجنبي، حيث تهيمن الدراسات الأجنبية بشكل واضح على هذا المجال، فالدراسات العربية تشكل 26.1% فقط من إجمالي الدراسات، مما يعكس ضرورة تعزيز الإنتاج البحثي في هذا المجال داخل العالم العربي. وهذه الفجوة تشير إلى ضعف الاهتمام الأكاديمي في العالم العربي بمجال سيميائية الصورة الدرامية مما يستدعي دعم الأبحاث الأكاديمية وتشجيع الباحثين العرب على تطوير هذا المجال.
كما هناك أيضًا فجوة في تنوع المواضيع: فالدراسات الأجنبية تميزت بتنوع كبير في المواضيع التي تم تناولها، بما في ذلك الوسائط الحديثة مثل الرسوم المتحركة التريلر، والمنصات الرقمية، بينما تركز الدراسات العربية بشكل أساسي على المحاور التقليدية مثل بلاغة الصورة الدرامية وتمثيل القضايا المجتمعية. وهذا يظهر الحاجة إلى توسيع نطاق البحث في الدراسات العربية لتشمل المواضيع الحديثة والتوجهات المعاصرة في سيميائية الصورة مما يعزز القدرة على استيعاب التحولات في الإنتاج البصري.
وأشارت الدراسة إلى وجود فجوة في تنوع المقاربات السيميائية؛ ففي حين أن الدراسات الأجنبية تتميز بتنوع المقاربات السيميائية، مثل استخدام مقاربات “بيرس بارث “التحليل السيميائي السردي، والنماذج متعددة الوسائط، فإن الدراسات العربية تركز بشكل أكبر على المقاربات البصرية المحدودة.
- توصيات الدراسة وآفاق الدراسات المستقبلية
استعرضت الدراسة مجموعة من التوصيات بهدف تطوير الدراسات العربية وتعزيز الإنتاج البحثي السيميائي مستقبلًا من أبرزها:
- توسيع نطاق الوسائط المدروسة في الدراسات العربية لتشمل وسائط بصرية متنوعة مثل الملصقات الدعائية، والتريلرات، وأفلام الرسوم المتحركة (الأنمي)، والدراما الرقمية بدلًا من التركيز الحصري على الأفلام والمسلسلات.
- تنويع العناصر السيميائية موضع التحليل، عبر الدمج بين الرموز البصرية، والإشارات الجسدية، والمواقع، والأزياء، والبناء السردي البصري، والتمثيلات الجندرية، بما يواكب النماذج التحليلية في الدراسات الأجنبية.
- تشجيع الأبحاث المقارنة بين النصوص البصرية العربية والأجنبية، لفهم الاختلافات الثقافية في بناء الصورة الدرامية، ولتطوير أدوات تحليل تراعي الخصوصية الثقافية دون الانغلاق المنهجي.
- تشجيع الدراسات الميدانية العربية التي تتناول إدراك الجمهور للخطاب البصري وتأثير تصميم الصورة والملصقات على سلوكيات المشاهدة واتخاذ القرار مما يعزز البعد التطبيقي.
- تطوير المقاربات السيميائية المستخدمة في البحوث العربية، عبر دمج نماذج مثل “بيرس بارت”، “جون فيسك”، التحليل السردي، والسيميائيات متعددة الوسائط، لتجاوز الطابع الوصفي وتحقيق تحليل أعمق مع التركيز على سيمياء الصوت والموسيقى والإضاءة كعناصر تحليلية مكملة للصورة البصرية لما لها من تأثير على إدراك الجمهور وتكوين الرسائل الضمنية.
أما عن أبرز الموضوعات المستقبلية المقترحة للبحث السيميائي، فهي كالتالي:
- التحليل السيميائي لدراما الذكاء الاصطناعي الواقع الافتراضي والمعزز.
- سيميائيات الخطاب في دراما السوشيال ميديا والمحتوى القصير(ريلز/ تيك توك)
- تحليل الملصقات والإعلانات الترويجية في الأعمال التقليدية والرقمية.
- سيميائية تمثيل الجسد والهوية الجندرية في الرسوم المتحركة للأطفال.
- سيمياء الخطاب السياسي في الدراما الوثائقية.
- تحليل الرموز البصرية في الترويج السينمائي العربي.