في واحدة من أهم المحطات التاريخية في العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، استقبل سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مستهل زيارته للمملكة ضمن أول جولة خارجية له منذ تنصيبه في 20 يناير الماضي، والتي تعكس جملة من الحقائق في مقدمتها خصوصية العلاقات بين البلدين والتوافق الذي يجمع بين القيادتين السعودية والأمريكية، وكذلك تقدير واشنطن لمكانة الرياض ودورها المؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية كشريك موثوق لا غنى عنه سواء لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط أو لضمان استقرار أسواق النفط العالمية في ظل بيئة جيوسياسية دولية شديدة التقلب والتعقيد.
- رسائل متبادلة في استقبال ترامب
تبادل كل من المملكة والولايات المتحدة عبر المراسم البروتوكولية رسائل تؤكد قوة ومتانة العلاقة بين البلدين، كانت الرسالة الأولى سعودية فبمجرد دخول طائرة الرئاسة الأمريكية “إير فورس وان” أجواء المملكة كان في استقبالها مقاتلات “إف-15” (أمريكية الصنع) التابعة للقوات الجوية الملكية السعودية والتي رافقت الطائرة الرئاسية حتى حطت في مطار الملك خالد الدولي في الرياض، فيما كانت الرسالة التالية من الجانب الأمريكي عبر إطلالة ترامب فور نزوله مرتديا ربطة عنق بلون مستوحى من نبتة الخزامى السعودية التي تنمو في المرتفعات الجنوبية الغربية للمملكة، وهو لون أصبح جزءًا من هوية المشهد البروتوكولي في زيارات رفيعة المستوى بالسعودية.
وبجانب تلك الرسائل البروتوكولية الضمنية ذات الدلالات العميقة في عالم السياسة، جاءت رسالة أمريكية مباشرة تمثلت في الحيز الذي تشغله زيارة السعودية من الجدول الزمني لجولة ترامب في المنطقة إذ إنها تمثل الحصة الأكبر، فهي زيارة رسمية تمتد ليومين، تعكس استمرارية للعلاقات الوطيدة التي تربط بين سمو ولي العهد والرئيس الأمريكي، فقبل ثماني سنوات، اختار ترامب أيضًا السعودية كوجهة لرحلته الخارجية الأولى بعد تنصيبه رئيسًا، وقد تطرق ترامب بشكل واضح في تصريحاته إلى علاقته بالأمير محمد بن سلمان ونظرته لسموه حيث قال عنه ما يلي:
- أعظم من مثّل شعبه
- حكيم للغاية سابق سنه
- حقق معجزة حديثة بالطريقة العربية
- ليس لدينا شريك في العالم أقوى منه ولا أحد يُضاهيه
ومما لا شك فيه أن تاريخ العلاقات الدولية يزخر بالعديد من الشواهد التي تؤكد أهمية وفاعلية العلاقات الشخصية بين الزعماء والقادة وتأثيرها على العلاقات بين الدول.
كما وجه الرئيس الأمريكي مجموعة من الرسائل حول رؤيته لمستقبل المنطقة ومحورية الدور السعودي في رسم معالم هذا المستقبل، بقوله خلال مشاركته بمنتدى الاستثمار السعودي الأمريكي إن “مستقبل الشرق الأوسط يبدأ من هنا”. وأظهر مدى ارتباط الدولتين ببعضهما وقوة ومتانة تلك العلاقة حينما أكد أن السعودية وأمريكا يجمعهما الحب، وشدد على أنه لن يتردد في استخدام القوة الأمريكية للدفاع عن المملكة.
- الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية
في عالم السياسة الدولية الراهن، أصبح البعد الاقتصادي ركنًا أساسيًا في صياغة مسار العلاقات بين الدول وبعضها البعض من منطلق حرص كل دولة على تعزيز مصلحتها الوطنية، ويسهم ذلك في خلق مساحات مشتركة للتعاون بين الدول حينما تتلاقى مصالحها الوطنية وهي معادلة متحققة بالنسبة للعلاقات السعودية الأمريكية يعززها أيضًا توجه القيادتين، إذ يتبنى سمو ولي العهد نهجًا واقعيًا لتعزيز مصلحة السعودية كما يرفع الرئيس ترامب شعار “أمريكا أولًا”.
وفي هذا الإطار، وقع الأمير محمد بن سلمان، والرئيس ترامب وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية التي تتضمن 600 مليار دولار من الاستثمارات والصادرات وتعزيز التعاون الأمني.
ووفقا لما نشره البيت الأبيض تضمنت أبرز الصفقات الموقعة مع السعودية ما يلي:
- صفقة دفاعية قياسية بقيمة 142 مليار دولار تشمل معدات أمريكية متطورة وتدريبا شاملا للقوات المسلحة السعودية.
- استثمار سعودي بـ 20 مليار دولار من شركة “DataVolt” في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وبنية الطاقة داخل الولايات المتحدة.
- استثمارات تكنولوجية مشتركة بـ80 مليار دولار من شركات كبرى مثل Google” و”Oracle و”Uber وAMD”” في البلدين.
- مشاريع بنية تحتية سعودية كبرى تنفذها شركات أمريكية مثل AECOM” وParsons بقيمة 2 مليار دولار.
- صادرات أمريكية تشمل توربينات غاز من “”GE Vernova بقيمة 14.2 مليار دولار وطائرات بوينغ 8-737 بقيمة 4.8 مليار دولار.
- استثمار صحي بـ 5.8 مليار دولار من “Shamekh IV Solutions”، يتضمن إنشاء مصنع في ولاية ميشيجان.
- إطلاق 3 صناديق استثمارية بقيمة إجمالية 14 مليار دولار تركز على الطاقة، والدفاع، والرياضة داخل الولايات المتحدة.
وتعكس الصفقات التي تشمل مجالات متنوعة كالدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والرياضة، مساعي البلدين لتحقيق أهداف استراتيجية مشتركة.
- نظرة ترامب للمملكة
حملت تصريحات الرئيس الأمريكي مجموعة كبيرة من الرسائل التي خاطب من خلالها السعودية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث أظهر عزمًا قويًا على اتخاذ خطوات لجعل العلاقات بين واشنطن والرياض أقوى وأقرب من أي وقت مضى، وهي علاقات ليست أحادية الاتجاه فهي قائمة على احترام ومنافع متبادلة، ففي الوقت الذي أكد فيه عدم التردد في استخدام القوة الأمريكية للدفاع عن المملكة، توجه أيضا بالشكر لها لدورها البناء في تيسير المحادثات الخاصة بالأزمة الأوكرانية.
كما أبدى احترامًا لاستقلالية القرار السيادي السعودي بشأن علاقات المملكة الدبلوماسية وهو ما جسدته العبارة التي تطرق فيها لمسألة التطبيع مع إسرائيل دون ذكر اسمها صراحة، حيث قال: “أحلم بانضمام السعودية إلى اتفاقات أبراهام في الوقت الذي تراه مناسبًا”، في عبارة اتسمت بأعلى قدر من الدبلوماسية بالرغم من أن ترامب معروف عنه عدم التقيد بالدبلوماسية حيث يطلق العنان لأفكاره ويعبر عنها بشكل جريء.
وأظهر الرئيس الأمريكي إعجابًا ملحوظًا لدرجة الانبهار بمسيرة التحديث والتطوير في المملكة التي اتسمت بخصوصية فريدة وسلكت مسارًا للتنمية الاقتصادية السليمة، حيث أكد أن السعودية حافظت على تقاليدها وعاداتها مع تطلعها للمستقبل، وتطورت بفضل أبنائها، مع إشارته إلى أن الرياض ستصبح مركز أعمال للعالم بأسره.
وختاما، يمكن القول بأن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسعودية وما تضمنته من محادثات وخطوات عملية لتعميق الشراكة مع الرياض، تعد مقدمة لمرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط بعد تحولات جيوسياسية متسارعة، حيث ترسم سياسة المملكة الخارجية معالم تلك المرحلة بما يحقق المصلحة الوطنية ويعكس الدور القيادي للسعودية في المنطقة ومكانتها المؤثرة في النظام الدولي.