ترجمات

تطبيق “DeepSeek” الصيني وسباق الذكاء الاصطناعي

ضجت الأوساط المعنية بمجالي التكنولوجيا والسياسة الخارجية، الأسبوع الحالي، بالأخبار التي تفيد بتحقيق تطبيق “DeepSeek-R1” الصيني أداءً مماثلًا لنموذج “OpenAI o1” الأمريكي في عدد من المهام الأساسية، حيث تمكن من تحقيق ذلك بتكلفة أقل بكثير، كما أنه متاح مجانًا.

وفقًا للعديد من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن الشيء الأكثر إثارة للإعجاب في أداء “DeepSeek-R1″، أنه لم يعتمد في تحقيق هذه النتائج على قوة حوسبة ضخمة مدعومة بشرائح “H100” عالية الأداء، والتي يحظر على الشركات الصينية استخدامها بموجب قيود التصدير الأمريكية.

  • القيود الأمريكية على تصدير الشرائح للصين

وبحسب تقرير للمجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن)، يُعتقد أن النموذج قد تم تدريبه إلى حد كبير من خلال تحسين عرض نطاق الذاكرة بين شرائح H800″” الأقل تطورًا، مما سمح لهذه الشرائح الأقل تقدمًا بمشاركة حجم نموذج كبير جدًا. ونتيجة لذلك، كانت تكلفة تدريب النموذج أقل بكثير مقارنة بالنماذج الأخرى ذات الأداء المماثل التي تم تدريبها على شرائح أقوى وأغلى. وقد دفع هذا الاختراق بعض المحللين إلى التساؤل عما إذا كانت قيود التصدير الأمريكية المفروضة على الصين قد فشلت في تحقيق أهدافها.

ومع ذلك، فإن التوصل إلى مثل هذا الاستنتاج لا يزال سابقًا لأوانه، إذ إن بعض الاختراقات الأخيرة في تكنولوجيا الرقائق الصينية لم تكن نتيجة ابتكار محلي بالكامل، بل كانت تطورات وبدأت بالفعل قبل أن تؤثر قيود التصدير بشكل كبير على توريد الرقائق ومعدات أشباه الموصلات للشركات الصينية. فعلى سبيل المثال، في أواخر عام 2023، تفاجأ مراقبون بالسياسة الخارجية الأمريكية عندما أعلنت هواوي عن إنتاج هاتف ذكي مزود بشريحة 7 نانومترات، على الرغم من القيود المفروضة على التصدير، والتي كان من المفترض أن تجعل تحقيق ذلك مستحيلًا.

لكن بدلًا من أن يكون هذا الاختراق دليلًا على قدرة الصين على الابتكار محليًّا أو الحصول على المعدات بطرق غير قانونية، فإنه كان في الواقع نتيجة قيام الشركات الصينية بتخزين ما يكفي من آلات الطباعة الحجرية (Lithography Machines) من شركة “ASML” الهولندية لتطوير وإنتاج وتسويق معدات صناعة أشباه الموصلات، قبل بدء سريان قيود التصدير. وقد منح هذا المخزون الصين وقتًا إضافيًّا قبل أن يظهر التأثير الكامل لقيود التصدير على السوق المحلية.

  • الحوسبة وديناميكية عمل “DeepSeek”

ووفقًا لتقرير المجلس الأطلسي، هناك أدلة تشير إلى أن “DeepSeek” يستفيد من ديناميكية مشابهة. وقد أشار باحثو الذكاء الاصطناعي في الصين إلى أن هناك مراكز بيانات لا تزال تعمل في الصين باستخدام عشرات الآلاف من الشرائح التي تم الحصول عليها قبل فرض القيود. كما أشاروا إلى أن التأثير الحقيقي لقيود تصدير الشرائح للصين لتطوير النماذج المتقدمة لن يظهر إلا بعد بضع سنوات، عندما يحين وقت تطوير النماذج. أو ربما سيظهر بعد أن يتم دمج معمارية “بلاكويل-Blackwell” لشركة إنفيديا بشكل كامل في النظام البيئي للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة.

ورغم أن إنجاز “DeepSeek” لم يقوّض بشكل مباشر استراتيجية الرقابة على الصادرات التي تتبعها الولايات المتحدة، فإنه يطرح أسئلة مهمة حول الاستراتيجية الأمريكية الأوسع في مجال الذكاء الاصطناعي، فمعظم النقاشات في الدوائر السياسية الأمريكية تركز على ضرورة تقليص قدرات الصين، وخاصة عبر تقييد قدرتها على الوصول إلى موارد الحوسبة.

ورغم أن هذا النهج ليس خاطئًا في جوهره، فإن تركيزه المفرط على الحوسبة كحل سحري للفوز بـ”سباق الذكاء الاصطناعي” يمنح مجالًا لبعض الحجج، ومن بينها الادعاءات التي تقول إن تنظيم القطاع يضر بالأمن القومي، بما في ذلك الادعاء غير الحقيقي بأن تنظيم الذكاء الاصطناعي محليًّا سيقوض قدرة الولايات المتحدة على التفوق على الصين.

وتركز مثل هذه الحجج على حتمية تفوق الولايات المتحدة على الصين في توسيع قدرات الحوسبة اللازمة لتطوير الذكاء الاصطناعي العام بأي ثمن، قبل أن تتمكن الصين من “اللحاق بالركب”. وقد أدى هذا التفكير إلى قيام بعض شركات الذكاء الاصطناعي بالدفاع عن فكرة أن الآثار السلبية لبناء مراكز بيانات ضخمة بسرعة تستحق المخاطرة، مقابل الفوائد طويلة الأجل المترتبة على تطوير الذكاء الاصطناعي.

ووفقًا لتقرير المجلس الأطلسي، يصب هذا الطرح في مصلحة الشركات التي تسعى إلى اكتساب ميزة تنافسية عبر جمع كميات هائلة من الشرائح. ولكن ما يُظهره مثال “DeepSeek” هو أن التركيز المفرط على الأمن القومي وعلى الحوسبة وحدها يحد من إمكانية إجراء نقاش حقيقي حول المقايضات في استراتيجيات الحوكمة وتأثيراتها التي تمتد إلى ما هو أبعد من الأمن القومي.

  • الحاجة لحوكمة جيدة للذكاء الاصطناعي

لسد هذه الفجوة، تحتاج الولايات المتحدة إلى صياغة أكثر وضوحًا لماهية الحوكمة الجيدة في مجال الذكاء الاصطناعي. وهذا يتطلب رؤية استباقية لكيفية تصميم وتمويل وحوكمة الذكاء الاصطناعي محليًّا، وزيادة الشفافية الحكومية بشأن مخاطر الأمن القومي المرتبطة بوصول الخصوم إلى تقنيات معينة، بجانب تحديد واضح لماهية القدرات والتقنيات والتطبيقات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التي تسعى الولايات المتحدة إلى تنظيمها.

ومن شأن هذه الخطوات أن ترفع مستوى النقاش حول المخاطر، وتُمكّن مجتمعات الممارسة من التعاون لوضع استراتيجيات حوكمة تكيفية تشمل الجوانب التكنولوجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الأمن القومي.

وأخيرًا، السؤال عن أفضل الطرق لتطوير ونشر وحوكمة تقنيات الذكاء الاصطناعي لا يمكن الإجابة عنه بحلول سحرية، بل هو عملية مستمرة تتطلب مشاركة متسقة وعميقة من الممارسين والخبراء من مختلف التخصصات والخلفيات. فلا توجد استراتيجية واحدة ستضمن تفوق الولايات المتحدة على الصين في سباق الذكاء الاصطناعي. ومع ظهور قدرات جديدة، تحتاج واشنطن إلى إطار عمل أكثر تكيفًا لمواجهة التحديات التي ستجلبها هذه التقنيات والتطبيقات في المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى