استعراض دراسات

مقاربة نقدية لظاهرة فوضى المفاهيم في حقل علوم الإعلام والاتصال في الفضاء العربي

تعد علوم الإعلام والاتصال حديثة نسبيًا فهي مرتبطة بنشأة وسائل الإعلام والاتصال الحديثة وتطورها وقد بدت في البداية أنها علوم تطبيقية براجماتية غايتها خدمة هذه الوسائل، لكن سرعان ما بدأت تتبين الحدود وأخذت تأخذ هذه العلوم مكانتها اللائقة كعلوم معترف بها خاصة بعد التراكم المعرفي والعلمي والنظري الذي حدث بفعل البحوث والدراسات الكثيرة الجادة والرصينة حيث تشكلت مجموعة من النظريات والأنساق التي استطاعت تفسير الكثير من الوقائع والأحداث والسلوكيات الإعلامية والاتصالية، الأمر الذي جعلها تأخذ مكانتها الأكاديمية في كل المناطق بما فيها المنطقة العربية، لكن ثمة مشكلات ترتبط بهذا الحقل المعرفي ولعل أهمها فوضى المفاهيم التي تسود فيه على مستوى المعاني والدلالات وهو ما يعوق ويعرقل التراكم المعرفي والعلمي الكفيل بتحقيق التطور الطبيعي المأمول في هذا الحقل ومواكبة التطورات المستجدة والمتلاحقة في وسائل الإعلام والاتصال.

وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “رقمنة” للدراسات الإعلامية والاتصالية في عددها الصادر في ديسمبر 2024، ورقة بحثية بعنوان “مقاربة نقدية لظاهرة فوضى المفاهيم في حقل علوم الإعلام والاتصال في الفضاء العربي”، من إعداد الباحثين حميد مهبالي وريضا بن مقلة، والتي نستعرض أبرز ما جاء فيها على النحو التالي:

  • الفوضى المفاهيمية في حقل علوم الإعلام والاتصال في البيئة العربية

استعرضت الورقة البحثية الأسباب التي تقف خلف الفوضى والضبابية في المفاهيم التي تسود حقل الإعلام والاتصال في المنطقة العربية ومن أبرزها ما يلي:

  • تعدد واضعي المصطلحات في الوطن العربي

يوجد مجمع للغة العربية في كل دولة عربية يتولى مهمة التوليد المصطلحي وفي غالب الأوقات لا يحدث التنسيق بين هذه المجامع، بالإضافة إلى أن بعض المنظمات العربية والاتحادات العلمية وأيضا بعض المترجمين أو المعجميين أو الباحثين المستقلين ممن يشتغلون على وضع المصطلح العربي، وفي غياب العمل المشترك والتعاون بين هذه المؤسسات والهيئات والاتحادات وأولئك المختصين، فمن الطبيعي أن يكون هناك اختلاف وتضارب واضح وكبير بينهم.

فعلى سبيل المثال تؤكد بعض البحوث في المنطقة العربية على التباين الواضح في استخدام المفاهيم والمصطلحات التي تناولت التحولات التي يعيشها قطاع الإعلام والاتصال فمن الإعلام الجديد إلى الإعلام البديل مرورًا بالإعلام الإلكتروني.

كما أن فحص دراسات الإعلام الاجتماعي في المنطقة العربية أظهر المفاهيم التالية: مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائط التواصل الاجتماعي الإلكترونية، ووسائل الإعلام الرقمي، ومواقع الميديا الاجتماعية، والميديا الاجتماعية والإعلام الجديد، ووسائل الإعلام الاجتماعي ومنصات التواصل الاجتماعي وشبكات التوصل الرقمية والمواقع التفاعلية. وقد فشلت الجهود والمساعي الهادفة لتوحيد المصطلحات في حدود دولها بل نجد هذه الفوضى والتضارب حتى ضمن البحث العلمي الواحد وعند الباحث ذاته.

  • استقاء واستعارة الدلالات والمفاهيم من الصحافة

الملاحظ في البيئة العربية أن المفاهيم المتداولة في الحقول المعرفية مستقاة من اللغة الصحفية التي يتم تداولها عبر مختلف وسائل الإعلام والاتصال، ويعد ترك الحبل على الغارب لهذه المؤسسات والجهات غير العلمية لصك المفاهيم وتقرير الدلالات سيؤدي حتما إلى فوضى واضطراب كبيرين في كل الحقول العلمية ويجردها من طابعها المعرفي والموضوعي وينزع عنها صفة العلمية ويطيل في ذات الوقت الضبابية المصطلحية.

  • عطالة العقل العربي

إن استقراءً بسيطًا لواقع المثقف العربي يظهر مدى هرولته لتقليد المثقف الغربي والحرص المحموم لاجترار ما ينتجه ذلك المثقف ومؤسساته من مفاهيم ومصطلحات ومدلولات. ولعل إلقاء نظرة عابرة على النظريات والأنساق في علوم الإعلام والاتصال كفيل بإعطاء صورة واضحة ومكتملة عن مدى عطالة العقل العربي في إنتاج المفاهيم والدلالات والإضافات العلمية والمعرفية.

  • التخلف العلمي والتكنولوجي

إن غياب العمل العربي المشترك في مختلف الحقول المعرفية والعلمية، أطال عمر الأزمة وعمقها بشكل كبير وجعل من مختلف الجهود المبذولة والمساعي المقدمة غير ذات جدوى، فرغم التطور التكنولوجي الكبير لا تزال المؤسسات العربية والهيئات المعنية بصناعة المفاهيم والاشتغال على المصطلح بعيدة عن استغلال ذلك التطور التقني في الربط بين مختلف الأقاليم العربية وتوحيد الجهود لإزالة فوضى المفاهيم والمصطلحات.

  • التضخم الهائل في المفاهيم والمصطلحات

إن التضخم الهائل الذي تشهده الساحة العربية في جانب المفاهيم والمصطلحات لا يعد حالة صحية، وقد كان من الممكن أن يكون كذلك لو كان هذا التضخم ناتجا عن التطور الطبيعي للعلم والمعرفة في هذا الفضاء، لكنه ضخم شكلي وصوري ناتج عن الفوضى المفاهيمية، وهو تضخم سلبي لا طائل من ورائه.

  • تهميش التراث العلمي العربي

تهميش التراث العربي في شقه العلمي والمعرفة والذي يعتبر من أغنى المراجع المعرفية وأكثرها ثراء بالمفاهيم العلمية والمصطلحات المعرفية الدقيقة ومضبوطة المعنى، فالباحثون يضعون اليوم بعض المصطلحات التي سبق وأن وضعت على وجه مختلف من تراثنا العلمي.

  • مقترحات وتوصيات

قدمت الورقة البحثية عددا من المقترحات والتوصيات للخروج من حالة الفوضى المفاهيمية تمثلت على النحو التالي:

  • تأسيس أكاديمية عربية جامعة ترصد لها إمكانيات مادية كافية وكوادر بشرية ذات كفاءة عالية تكون مهمتها ضبط المفاهيم العلمية وتوحيدها في الفضاء العربي.
  • تكوين هيئة إعلامية توكل لها مهمة توحيد المفاهيم وإشاعتها على نطاق واسع مع ربط علاقات مع وسائل الإعلام العربية وتكون هذه الهيئة منبثقة عن الأكاديمية العربية سالفة الذكر.
  • إنشاء هيئات وسلطة لغوية رقابية تكون مهمتها الأساسية مراقبة المجالات التداولية مع منحها سلطة تقريرية، مع إلزام الهيئات العلمية والمؤسسات المعرفية والإدارات والمؤسسات الإعلامية بالرجوع إليها واتخاذها مرجعًا لتحديد المفاهيم.
  • إنشاء قواميس مرجعية جامعة تكون مهمتها توحيد المصطلحات والمفاهيم ونفي الدخيل والشاذ.
  • وضع بروتوكولات المناقشة العلمية للرسائل الأكاديمية، مع وضع دليل متجدد في كل حقل معرفي وإشاعته بين الكتاب والمثقفين وفي المؤسسات العلمية.
  • تأسيس هيئة عربية رسمية مهمتها توحيد المفاهيم في البرامج التربوية في الحدود الدنيا.
  • تأسيس هيئات عربية للترجمة مهمتها مراقبة الأعمال المترجمة مع مساعدة المترجمين ومرافقتهم في أعمالهم.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الاهتمام بجانب المفاهيم وتخليصها من حالة الفوضى والضبابية التي وصلت في بعض الأحيان إلى حد التضارب والتناقض في البيئة العربية، بات ضرورة مُلحة من أجل تحقيق نهضة علمية ومواكبة التطورات التقنية والتكنولوجية المتسارعة.

زر الذهاب إلى الأعلى