يشهد العالم حاليًا ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة؛ بسبب التطور الهائل في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الذي طال جميع مجالات الحياة ومنها الاقتصادية، وأصبحت دول العالم في سباق من أجل مواكبة هذه الثورة، حيث أثّرت التكنولوجيا الرقمية على الاقتصاد العالمي، وارتبط استخدامها بتحول السوق، وتحسين مستويات المعيشة، وأصبحت التجارة الدولية من خلالها أكثر قوة، وأسهمت في خلق تحولات هائلة في الطريقة التي تنظم بها الشركات والدول الإنتاج، والتجارة في السلع، واستثمار رأس المال، وتطوير المنتجات.
ومواكبةً لهذه التطورات، وفي ظل الرؤية الاستشرافية والاستباقية الثاقبة لولاة الأمر – حفظهم الله -، جاءت توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، لهيئة الحكومة الرقمية بإطلاق “مبادرة السوق الرقمية IMPACT”، وذلك لتوفير منتجات رقمية يمكن للدول الاستفادة منها من خلال الشركات السعودية بالتعاون مع منظمة التعاون الرقمي؛ إذ تستهدف المبادرة أعضاء منظمة التعاون الرقمي ودول الاتحاد الإفريقي وعددها (54) دولة.
- مرتكزات الاقتصاد الرقمي
أصبح مصطلح “الاقتصاد الرقمي” من أكثر المفاهيم استخدامًا حاليًا في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والإنترنت، ويحتل مركز الصدارة في نقاشات السياسات العامة في كثير من البلدان خاصة المتقدمة بعد النمو الهائل في التكنولوجيات وتوغلها في عالم الاقتصاد.
ووفقًا للموسوعة السياسية، فإن الاقتصاد الرقمي هو التفاعل والتكامل والتنسيق المستمر بين تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات من جهة والاقتصاد الوطني والدولي من جهة أخرى؛ ويرتبط بتمكين التحول الرقمي في القطاعات الرئيسية والحيوية. وبالتالي يتمثل الاقتصاد الرقمي في الاستخدام واسع النطاق لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبيانات في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وإجراء العمليات المالية والمصرفية بطرق أسرع وأكثر كفاءة، وذلك عبر تدفق البيانات والمعلومات والأموال بين الدول المختلفة دون قيود وحواجز. ويرتكز الاقتصاد الرقمي على عدة مكونات، منها: البنية التحتية التكنولوجية، والأجهزة، والبرمجيات، والشبكات، إلى جانب الآليات الرقمية التي تتم من خلالها الأعمال التجارية والاقتصادية.
- مزايا ومتطلبات الاقتصاد الرقمي
في ظل التطورات التكنولوجية المتلاحقة التي يشهدها العالم حاليًا في شتى المجالات، تتعاظم أهمية الاقتصاد الرقمي، وتتمثل هذه الأهمية في كثير من الأوجه، أبرزها:
- توفير فرص عمل كثيرة من خلال مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
- تطور الاقتصاد بشكل سريع ومستدام نتيجة تطوير الأنشطة الاقتصادية.
- زيادة الإنتاجية وتحسين الأداء وتقليل تكاليفه وتطوير نوعيته.
- التقليل من استخدام الموارد الطبيعية، والاعتماد بشكل أكبر على موارد المعرفة وتطويرها.
- توفير البيئة الضرورية لجذب وتوسع الاستثمارات.
- تشجيع الشركات على اتباع نظم التصنيع الحديثة بمساعدة الحاسب الإلكتروني، ومنها تحديد تعاقب عمليات التشغيل، وعمليات التحكم والرقابة، وتخطيط الاحتياجات من المواد.
- تغيير هيكلة الاقتصاد، إذ يؤدي الاقتصاد الرقمي إلى زيادة الاهتمام بالإنتاج الرقمي، ويعزز الاستثمار برأس المال الرقمي، ويدعم ويشجع الصادرات الصناعية الخاصة بالمنتجات الرقمية.
- وسيلة فعّالة لعقد الصفقات بين المتعاملين عن طريق الاتصال الإلكترونيالمباشر بينهم.
- يُساعد في الوصول إلى الأسواق العالمية المتنوعة في وقت واحد وبأقل التكاليف.
- يُساهم في إنشاء مجتمعات ذكية، فمن خلال الاقتصاد الرقمي تستخدم الجهات الفاعلة والسلطات الحكومية وقطاع الأعمال والمواطنون أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وخدماتها في اتخاذ القرارات.
وتجدر الإشارة إلى أن التحول إلى الاقتصاد الرقمي يتطلب توافر عدد من المقومات على رأسها البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وامتلاك رأس المال البشري المؤهل للانخراط في ممارسات الاقتصاد الرقمي، وكذلك تطوير الأطر التشريعية والتنظيمية لكي تكون داعمة للتحول الرقمي.
- جاهزية المملكة لمبادرة السوق الرقمية
على مدى السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا منذ إطلاق الرؤية الرائدة “رؤية السعودية 2030” أولت القيادة الرشيدة، حفظها الله، اهتمامًا كبيرًا بملف تنويع الاقتصاد، وفي القلب منه تهيئة المجال أمام انطلاقة نحو الاقتصاد الرقمي، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال ثلاثة مستويات تتعلق بواقع الاقتصاد السعودي والإمكانات التقنية المتوفرة لدى المملكة للانخراط في الاقتصاد الرقمي، والرؤية التي تنبثق عنها كافة الاستراتيجيات والسياسات والبرامج ذات الصلة بهذا المسار الاقتصادي الواعد.
أولا: واقع الاقتصاد السعودي
يشهد الاقتصاد السعودي طفرات غير مسبوقة بفضل سياسات القيادة الرشيدة التي استهدفت الحد من الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل وتعزيز التنافسية، وهو ما تجني المملكة ثماره، فاقتصادها هو الأكبر في الشرق الأوسط، ومن أكبر عشرين اقتصادًا على مستوى العالم.
وخلال العام الماضي 2022م، حقق الاقتصاد السعودي نموًا في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 8.7%، ويُعد هذا أعلى معدلات النمو بين دول مجموعة العشرين خلال هذا العام، وتجاوز توقعات المنظمات الدولية التي بلغت في أقصى تقديراتها 8.3%، كما يُعد معدل النمو الحالي أعلى المعدلات السنوية خلال العقد الأخير، وذلك بحسب بيانات صادرة عن الهيئة العامة للإحصاء في مارس 2023م في ضوء تقرير الناتج المحلي الإجمالي ومؤشرات الحسابات القومية للربع الأخير من عام 2022م.
ثانيًا: الإمكانات التقنية للمملكة
تستهدف المملكة بلوغ مرتبة متقدمة عالميًا في قطاع التقنية، وذلك من خلال تطوير هذا المجال، وتفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، بهدف تحقيق رؤية طموحة للاقتصاد الرقمي، ووفقًا لمؤشر الاقتصاد الرقمي العربي 2020 فإن المملكة العربية السعودية تعد من دول المجموعة الأولى من ضمن ثلاث مجموعات قُسمت وفقًا لحالة الجاهزية الرقمية، فهي من الدول العربية الرائدة والجاذبة للاستثمار الدولي، وتتميز بقدرتها على التكيف بسرعة وامتلاك مرونة كبيرة في سرعة التحول نحو المدن الذكية، والتطبيقات التكنولوجية الحديثة، وسهولة تحقيق شمولية رقمية ومالية أوسع، وربط كافة الخدمات الحكومية.
ثالثًا: المجال الاقتصادي في رؤية المملكة 2030
يعد الاقتصاد المزدهر إحدى ركائز رؤية المملكة 2030، حيث تستهدف المملكة رفع حجم اقتصادها ليكون ضمن المراتب الخمس عشرة الأولى على مستوى دول العالم.
وفي إطار أسس النجاح التي وضعتها الرؤية، بدأت الدولة السعودية في تنفيذ إصلاحات غير مسبوقة، شملت القطاع العام وجميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية، كما عملت على تمكين المواطنين والشركات للوصول إلى الاستفادة المثلى من إمكاناتهم، وتنويع الاقتصاد، ودعم المحتوى المحلي، إضافة إلى خلق فرص نمو مبتكرة؛ تعززها بيئة داعمة للاستثمارات المحلية والأجنبية، وذلك بالتزامن مع فتح صندوق الاستثمارات العامة قطاعات جديدة تسهم في النمو الاقتصادي للمملكة.
وتعمل المملكة منذ إطلاق رؤيتها 2030 على وضع التكنولوجيا الرقمية في قلب التحول الذي تعيشه، منطلقة في ذلك من قناعتها بأن النمو الاقتصادي لأي دولة سيكون مرتبطًا بنموها في مجال الاقتصاد الرقمي، لذلك تولي هذا الأمر اهتمامًا خاصًّا انعكس في وضعها بالتقارير الدولية المعنية بذلك المجال، إذ صُنّفت المملكة كأفضل دولة في الأداء الرقمي بين دول مجموعة العشرين في تقرير التنافسية الرقمية لعام 2021.
وتواصل السعودية خطواتها الواثقة على مسار الاقتصاد الرقمي، إذ أكّد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات المهندس عبد الله بن عامر السواحة، أنه تم ضخ استثمارات تزيد على 9 مليارات دولار هذا العام لتعزيز جهود التحول الرقمي في مختلف قطاعات المملكة، ومن المتوقع أن يصل حجم الاقتصاد الرقمي في السعودية إلى أكثر من 50 مليار دولار في المستقبل.
- الأثر المتوقع لمبادرة السوق الرقمية على الاقتصاد السعودي
من المتوقع أن تُسهم مبادرة السوق الرقمية في تحقيق كثير من المكاسب، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- التغلب على قيود الاقتصاد التقليدي سواء في الإنتاج أو التسويق أو التجارة، حيــث يعتمــد الاقتصــاد الرقمــي علــى تحويــل أنمــاط الأداء الاقتصادية التقليديــة إلــى أنمــاط فوريـة.
- تعزيز البنية التحتية الرقمية بهدف تحقيق الأثر الإيجابي والإسهام في رفع الإنتاجية وزيادة الكفاءة وتقديم تجربة أفضل للمستفيدين من الخدمات.
- سد الفجوة الرقمية نحو اقتصاد رقمي شامل ومستدام للجميع.
- زيادة الإنتاجية، وتقليص البطالة، وتحسين جودة الحياة.
- زيـادة النمـو الاقتصادي للدولـة.
- تحســين القدرة التنافســية للمملكــة.
- فتــح آفــاق واســعة للتجــارة العالميــة، وإتاحة أســواق جديــدة، مما يُعظم مــن إيرادات الدولة.
- اندماج الشركات في الاقتصاد العالمي، وذلك من خلال رفع إنتاجية رأس المال، وتوسيع نطاق التجارة، وتكثيف المنافسة في السوق.
- تسهيل الوصول إلى الخدمات الرقمية في مختلف القطاعات.
- إيجاد نماذج أعمال جديدة لم يكن من الممكن أن تتم من قبل دون هذه التقنيات.
إجمالًا.. يمكن القول بأن إطلاق المملكة العربية السعودية لمبادرة السوق الرقمية يأتي انعكاسًا لحرص القيادة الرشيدة – أيدها الله – على مواكبة الثورة الصناعية الرابعة والتطور الهائل في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والذي ألقى بظلاله على كافة المجالات، ومن أهمها المجال الاقتصادي. وقد جاء إطلاق المبادرة متوافقًا مع الإمكانات الاقتصادية والتقنية للمملكة، ومتماشيًا مع رؤية 2030 الطموحة، ويعد الاقتصاد المزدهر من ركائزها، والتكنولوجيا الرقمية إحدى دعائمها. ولذلك فمن المتوقع أن تُؤثر المبادرة إيجابيًّا على الاقتصاد السعودي من خلال زيادة معدلات نموه وتحسين تنافسية المملكة.