تعتبر ظاهرة تغير المناخ واحدة من القضايا الدولية ذات التشعبات الإقليمية والمحلية الأكثر إلحاحًا على أجندة أسرة المجتمع الدولي خلال السنوات القليلة الماضية والمرشحة بقوة لأن تصبح القضية الأهم بوصفها قضية مصير، إذ بات العالم أمام مرحلة حاسمة إما أن يتعاون ويتكاتف لمواجهة الآثار العالمية واسعة النطاق وبالغة الخطورة والتي لم يسبق لها مثيل بدءًا من تغير أنماط الطقس التي تهدد الإنتاج الغذائي، وحتى ارتفاع منسوب مياه البحار الذي يزيد من خطر الفيضانات الكارثية، وهو ما يعني أن التكيف مع هذه التأثيرات سيكون أكثر صعوبة وتكلفة في المستقبل إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية لمعالجتها الآن.
ومما لا شك فيه فإن عواقب الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ والطقس القاسي الذي يدمر سبل العيش تزيد من حدة الصراعات العنيفة، وتجبر الأفراد على النزوح من ديارهم.
وإدراكًا لتلك الأخطار والتهديدات، ومن منطلق الدور القيادي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في محيطها الإقليمي ونفوذها كلاعب ذي تأثير على الصعيد الدولي، أولت القيادة الرشيدة للمملكة في سياستها الداخلية والخارجية اهتمامًا بالغًا بظاهرة تغير المناخ، وكيفية الحد منها، وتحسين جهود المحافظة على البيئة، ما تمثل في سياسة نشطة تشمل مبادرات واستراتيجية وانخراطًا فاعلًا في كل جهد يفضي إلى مكافحة تغير المناخ.
تهديد وجودي ومقاربة أمنية للتعامل مع قضية تغير المناخ
يمثل تغير المناخ تحديًا معقدًا للبشرية، إذ يساهم في ارتفاع مستوى سطح البحر، ويرفع درجات الحرارة، ويزيد من هطول الأمطار وتساقط الثلوج في جميع أنحاء العالم، ويسبب الجفاف الشديد في بعض المناطق، كما يشكل أيضًا تحديات خطيرة للأمن العالمي.
فعلى صعيد خطورة التهديد من الناحية العلمية، يشير العديد من الدراسات الأكاديمية إلى أنه إذا لم تتعاف الأرض من ذوبان الغطاء الجليدي في القطبين وارتفاع منسوب البحار والآثار الأخرى السلبية للتغير المناخي، فإن النتائج ستكون كارثية بما في ذلك تعرض الكثير من الأماكن على سطح الكرة الأرضية للاختفاء.
وفي هذا الإطار، تنبأت دراسة علمية أجراها باحثون من منظمة “كلايمت سنترال- climate central” الأمريكية (منظمة غير حكومية معنية بالبيئة والمناخ) بالآثار المدمرة للتغير المناخي على كوكب الأرض، موضحة أن أجزاء من العالم يمكن أن تغمرها المياه بحلول عام 2100 بسبب ارتفاع مستويات سطح البحر.
واعتمد العلماء بمساعدة برنامج كمبيوتر في دراستهم على 51 مليون من البيانات تسمح بالتنبؤ في كيفية تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر على الأرض بحلول عام 2050 وكذلك عام 2100 على التوالي، وتوصلوا إلى استنتاج مخيف أظهر أن 640 مليون شخص مهددون بفقدان منازلهم إذا فشل المسؤولون في إجراء تغييرات جذرية على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.
كما أن ارتفاع منسوب مياه البحر يمكن أن يؤدي إلى اختفاء مدن تحت الماء في غضون الـ80 عامًا القادمة في أوروبا، فمدن مثل البندقية ولندن ولشبونة وبوردو وأمستردام ستصبح غير صالحة للسكن بسبب الفيضانات المستمرة.
ولذلك كان من الطبيعي أن يكون التغير المناخي على لائحة اهتمام المنظمات الدولية والتحالفات الأمنية أيضًا، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي وضع تلك الظاهرة تحت المجهر منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا في عام 1969 حين أنشأ التحالف منتدى علميًّا عُرف باسم لجنة تحديات المجتمع الحديث تفعيلًا للمادة الثانية من معاهدة حلف شمال الأطلسي لعام 1949، والتي تلزم الأطراف بتعزيز “ظروف الاستقرار والرفاهية”، وفقًا للمجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن).
كما تناول الناتو هذا الموضوع في مفهومه الاستراتيجي الذي تم اعتماده عام 2010، إذ حدد في تلك الوثيقة القيود البيئية بما في ذلك تغير المناخ، وبعد مرور 4 أعوام اعتمد الناتو إطار الدفاع الأخضر، حيث يطمح من خلاله إلى تقليل البصمة البيئية لعملياته العسكرية والاستثمار في التقنيات الخضراء لتحسين مرونته، وتجنب إضرار تغير المناخ بالمهام الأمنية لبعثات الحلف في مناطق الصراعات حول العالم.
المنظور الحقوقي كإطار حاكم لنظرة وتفاعل المملكة تجاه قضية تغير المناخ
تنطلق نظرة المملكة العربية السعودية إلى ظاهرة تغير المناخ من منظور حقوقي باعتبار أن تلك القضية تتعلق بحقوق الإنسان، لأن آثارها المدمرة لا تقتصر على البيئة فقط، بل تشمل أيضًا رفاهية البشر، إذ تنعكس التأثيرات الضارة لتغير المناخ على حقوق الأفراد في الحياة والصحة والغذاء والماء والمسكن وسبل المعيشة، كما ترى أنه لما كانت تلك الظاهرة من صنع البشر، فإن الحكومات تستطيع تخفيف حدتها من خلال اتباع حزمة من التشريعات ورسم الاستراتيجيات، وتطبيق السياسات التي تكفل الحفاظ على سلامة البيئة وبالتبعية سلامة الإنسان.
ولذلك تحرص المملكة ليس فقط على دعم كل جهد دولي يكافح تغير المناخ، بل إنها تأخذ زمام المبادرة وتقود العديد من المساعي الهادفة للتصدي لتلك الظاهرة، فقد انضمت السعودية إلى اتفاقية باريس للمناخ في نوفمبر 2016، وقامت بقيادة الجهود العالمية الرامية إلى الحد من التغيّر المناخي أثناء توليها رئاسة مجموعة العشرين العام الماضي، إذ استثمرت تلك الرئاسة في تمرير قرارات تسهم في حماية البيئة والتنوع الحيوي والحد من الانبعاثات، والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وإصلاحها، والمحافظة على المحيطات.
وقد عبرت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، خلال مشاركته في “قمة القادة حول المناخ” – التي عقدت افتراضيًّا في 22 أبريل الجاري بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للأرض- عن رؤية المملكة الثاقبة وتشخيصها الواضح لإشكالية التغير المناخي، وتحركاتها الفاعلة للتغلب على تلك الظاهرة، إذ إنها حملت رسائل مكثفة وبليغة وموجزة وهو ما يتمثل فيما يلي:
دق ناقوس الخطر بشأن عالمية تهديدات تغير المناخ، من خلال التأكيد على أن تلك الظاهرة التي تهدد الحياة على كوكب الأرض لا تقف عند حدود وطنية، والتشديد على أن الحل الشامل لمواجهة تحديات التغیر المناخي يكمن في رفع مستوى التعاون الدولي، مع تجديد التزام المملكة بالتعاون في هذا المجال من أجل بيئة أفضل للأجيال القادمة.
تقديم نموذج يحتذى به للدول في التعامل مع الظاهرة، لا سيما وأن المملكة وضعت ملف تغير المناخ في صلب السياسات الوطنية المتعلقة بالتنمية المستدامة، ما يظهر في الخطوات الكبرى التي اتخذتها السعودية من خلال رؤية 2030، مثل الاستراتيجية الوطنية للبيئة، ومشاريع الطاقة النظيفة، في إطار هدف عام هو خفض الاعتماد على المصادر الكربونية للطاقة بمقدار 50 % بحلول عام 2030.
إبراز التحركات الفاعلة والجهود التي قادتها المملكة لمكافحة تغير المناخ إقليميًّا ودوليًّا ومنها:
طرح المملكة نهج الاقتصاد الدائري للكربون، كنهج شامل يعمل على السيطرة على الانبعاثات، ويتسم بمرونة في عملية التطبيق بحيث يتوافق مع أولويات كل دولة وظروفها الخاصة.
إطلاق المملكة خلال رئاستها لمجموعة العشرين العام الماضي مبادرتين دوليتين للحد من تدهور الأراضي وحماية الشعب المرجانية.
إعلان سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، اللتين تهدفان إلى تقليل الانبعاثات الكربونية في المنطقة بأكثر من 10% من الإسهامات العالمية، وزراعة 50 مليار شجرة في المنطقة، بالإضافة إلى العديد من المبادرات النوعية، وقد لاقت المبادرتان تأييدًا من المجتمع الدولي، واتخذت المملكة منحى عمليًّا لوضعهما موضع التنفيذ من خلال استضافتها منتدى لمبادرة السعودية الخضراء وقمة لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر ومن المقرر انعقادهما بحضور القادة والمسؤولين في المجال البيئي.
توصيات للتعامل مع قضية تغير المناخ
إن تأكيد المملكة على أهمية التعاون والتنسيق الدولي لمواجهة تغير المناخ، ينبع من قراءة واعية للمشهد الدولي الراهن إزاء التعامل مع تلك الظاهرة، التي تتداخل فيها أبعاد سياسية واقتصادية، لا سيما ما يتعلق بملف الطاقة وما يثيره من صراعات جيوسياسية بين القوى الكبرى في العالم، فضلاً عن اهتزاز الموقف الأمريكي خلال الأعوام الأخيرة في ظل انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ خلال عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ثم عودتها مجدداً للاتفاق مع تولي إدارة جو بايدن مقاليد الحكم، والتي تسعي حاليا لقيادة الملف سياسيًّا واقتصاديًّا على المستوى العالمي.
ونظرًا للصلة الوثيقة بين حقوق الإنسان وملف تغير المناخ، تحتل القضية مكانة متقدمة على أجندة العديد من المنظمات الحقوقية ومنها منظمة العفو الدولية التي قدمت مجموعة من التوصيات الخاصة بالتعامل مع تغير المناخ، والتي ترى أنه يجب على الدول الالتزام بتخفيف الآثار الضارة للتغير المناخي من خلال اتخاذ أكثر الإجراءات طموحًا للحيلولة دون حدوث انبعاثات دفيئة أو الحدّ منها في أقصر إطارٍ زمنيٍّ ممكن، لافتة إلى أنه بينما على الدول الغنية أن تقود المسيرة داخليًا وعبر التعاون الدولي في آنٍ واحد، يجب على كل الدول اتخاذ كافة الخطوات المعقولة لتقليص الانبعاثات الغازية بأقصى ما تستطيع.
كما تشير أيضًا إلى وجوب أن تتخذ الدول كل الخطوات الضرورية لمساعدة كل من هو في نطاق ولايتها القضائية على أن يتكيّف مع آثار التغير المناخي المتوقَّعة والتي لا مناص منها، وبالتالي أن تقلل إلى أدنى الحدود تأثير التغير المناخي على حقوق الإنسان الخاصة به، بصرف النظر عما إذا كانت الدولة مسؤولة عن تلك الآثار، لأن على الدول الالتزام بحماية الناس من الأضرار التي تسبّبها أطراف ثالثة. وترى أيضًا أنه يقع على عاتق الشركات التجارية تقييم الآثار المحتملة لأنشطتها والأضرار التي تلحق بحقوق الإنسان نتيجة التغير المناخي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن المملكة لعبت ولا تزال دورًا رائدًا في مجال مكافحة التغير المناخي سواء على صعيد صياغات سياسات تنموية تراعي هدف تقليل الانبعاثات الكربونية والمزيد من الاعتماد على الطاقة المتجددة، أو من خلال إطلاق مبادرات وطنية وإقليمية تسعى للحفاظ على البيئة مثل السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، بما يؤمن مسارات لتعزيز التعاون والتضامن في مواجهة ذلك التحدي الذي يهدد العالم.